ظلت مصر منذ فجر التاريخ شامخة وابية، صنعت الحضارة قبل ان تعرف الدنيا الحضارة، وبشعبها وجيشها ملئت العالم نوراً وسلاماً وعلماً، لم تنكسر مصر الا بإنكسار جيشها الابي الذى هزم التتار وتصدى للمغول واذل الصهاينة، وفى تلك الفترات الاستثنائية التى تهاوى فيها الدرع وانكسر السيف، استباح العدو الوطن وارتكب الاجانب افظع واقذر الجرائم ضد المصريين، والان جاء وقت الحساب حلقات تاريخية استثنائية بالتعاون مع الدكتور عاصم الدسوقى استاذ الاساتذة فى التاريخ المعاصر. دنشواى.. العار يلاحق الانجليز وخونة الداخل جنود الاحتلال يصيبون امرأة ويحرقون الغلال أثناء صيد الطيور ويقتلون طفلاً حاول إنقاذهم وقف الحاضرون فى فندق "شبرد" يبتسمون ويوزعون الضحكات فى اجواء موسيقية صاخبة، تكريماً وتعظيماً للخائن احمد فتحى زغلول، الذى تمت ترقيته الى وكيل وزارة الحقانية، بعد ان ترأس المحكمة التى حكمت على ابناء وطنه بالإعدام والجلد والسجن زوراً لصالح المحتل الإنجليزى. لجنة الإفتتاح تعتلى المنصة فى الوقت المحدد، الموظف المختص يقوم بإفتتاح الظرف القادم من امير الشعراء احمد شوقى، الذى رفض الحضور، وارسل مظروفاً يحتوى على ابيات الشعر. الموظف يتلو الابيات التى ظن إنها تعظيماً وتكريماً للظالم، لكنها كانت المفاجأة والفاجعة التى افجعت الجلادين والظالمين بعد عام من إرتكاب مذبحة دنشواى. قال احمد شوقى فى رسالته التى تلاها الموظف، "إذا ما جمعتم أمركم وهممتموا، بتقديم شيءٍ للوكيل ثمين، خذوا حبال مشنوقٍ بغير جريرةٍ، وسروال مجلودٍ، وقيد سجين، ولا تعرضوا شعري عليه، فحسبه..من الشعر حكمٌ خطه بيمين، ولا تقرأوه في "شبرد" بل اقرأوا، على ملأٍ في دنشواي حزين". ولم تكن هذه الابيات للعظيم احمد شوقى وحدها التى نعت الضحايا، وسجلت واحدة من جرائم المحتل الاحمق، اذا نظم الرائع حافظ ابراهيم اثر الحادثه قصيدة يقول فيها، "أيها القائمون بالأمر فينا..هل نسيتم ولاءنا والودادا؟، خفّضوا جيشكم وناموا هنيئاً.. وابتغوا صيدكم وجوبوا البلادا، وإذا أعوزتكم ذاتُ طوق.. بين تلك الربا فصيدوا العبادا، إنما نحن والحمام سواء..لم تغادر أطواقنا الأجيادا". ضربة شمس وتعود احداث قضية دنشواى التى هزت الرأى العام المصرى والعالمى على حد سواء الى عام 1906، حيث انطلقت فرقة تابعة للإستعمار البريطانى مكونة من خمسة جنود ممن كانوا يرغبون فى صيد الحمام ببلدة دنشواى، المشهورة بكثرة حمامها كما إعتادوا، ولكن لسوء حظهم كان الحمام عند اجران الغلال يلتقط طعامه من الحبوب. حينها شعر مؤذن القرية بالخوف على رزقه ورزق اطفاله، ذهب الى المأذنه واخذ يخطب فى الإنجليز، حتى لا يحترق التبن فى جرنه، فيحترق منزله وقوت اطفاله، لكن الإنجليز لم يفهموا محتوى رسائله، حتى جاءت الصدفه بأن يطلق احد الجنود طلقة نارية تصيب زوجة المؤذن، وتشعل النيران فى التبن. المؤذن يصيح فى اهل القرية، "الخواجة قتل المرأة وحرق الجرن"، فهب اهالى القرية للخروج من منازلهم، ولاحقوا الإنجليز وهم يصيحون "قتلت المرأة وحرقت الجرن"، وهو ما دعى الانجليز الى محاولة إنقاذ زميلهم. حينها كان الخفراء ايضاً قد حضروا من اجل النجدة وفض النزاع، الإ ان جنود الإحتلال توهموا ان الخفراء سوف يفتكون بهم، فاطلقوا عليهم الأعيرة النارية وأصابوا بعضهم فصاح الجمع قتل شيخ الخفر، ولاحقوا الضباط بالطوب والعصى فقبض عليهم الخفراء وأخذوا منهم الأسلحة إلا اثنان منهم وهم كابتن الفرقة وطبيبها أخذا يعدوان تاركان ميدان الواقعة وقطعا نحو ثمانية كيلومترات في الحر الشديد حتى وصلوا إلى بلدة سرسنا/ فوقع الكابتن مطروحا على الأرض -ومات بعد ذلك- فتركه الطبيب وأخذ يعدو حتى وصل إلى المعسكر وصاح بالعساكر فركضوا حتى الكابتن فوجدوه وحوله بعض الأهالى، فلما رأوهم الأهالى فروا فاقتفوا العساكر أثرهم وقبضوا عليهم إلا أحدهم هرب قبل أن يشد وثاقه واختبأ في فجوة طاحونة تحت الأرض فقتله الإنجليز شر قتلة. يقول الدكتور عاصم الدسوقى فى هذا الصدد، اثناء هروب الجندى البريطانى، وقع على الارض من شدة الحر الذى لم يعتد عليه، فرآه طفل من ابناء القرية، الذى قرر ان يحضر كوباً من الماء لكى ينقذ العسكرى البريطانى، الا ان احد زملاء العسكرى قام بإطلاق النيران على الطفل، ليلقى مصرعه فى الحال. خونة الداخل رد فعل الإحتلال الإنجليزى كان قاسياً وسريعاً، بدأ بعقد صفقة مع خونة الداخل، تلاها إنشاء منصة للحكم العرفى، ترأسها الخائن بطرس غالى -الجد للوزير الهارب خارج البلاد-، والخائن احمد سعد زغلول، شقيق المناضل سعد زعلول الذى قاطعه لإشتراكه فى تلك المحاكمة الظالمة، كما شارك على المنصة الظالمة مدعى النيابة ابراهيم الهلباوى باشا. المدهش ما فعله الهلباوى مدعى النيابة، خاصم 92 من ابماء قرية دنشواى، القابعين خلف القضبان، وإستطاع اثبات التهمة على 36 منهم، لتصدر احكاماً ظالمة من شركاءه بطرس غالى، واحمد سعد زغلول، بإعدام اربعة من اهل القرية، والحكم بالجلد والحبس للاخرين. وما يزيد من حقارة خونة الداخل، هو ان المحتل الإنجليزى قام بخلع اللورد كرومر، الحاكم الإنجليزى على مصر، والمشرف على المحاكمة عقب الحادثه، وهو ما يشير ان المحتل نفسه، شعر بالعار الذى لاحقه بسبب تلك المحاكمة الظالمة لاهالى القرية، فيما قام ابراهيم الهلباوى بإغتيال بطرس غالى بعد توليه منصب وكيل وزارة العدل بعدة سنوات. مرافعة العار استطاع الهلباوى خلال مرافعته امام منصة القضاء الظالمه، الباس الباطل رداء الحق، حيث نجح فى تبرئة الجنود الإنجليز من قتل "ام صابر" زوجة المؤذن الذى نادى الاهالى من اجل إنقاذ زوجته وقوت اطفاله، كما نجح فى اثبات ان الإنجليز هم الضحايا، وان اهالى دنشواى هم المذنبون. وحسبما اشارت صحيفة الاهرام فى وقت سابق، فإن الهلباوى قال أمام محكمة دنشواى، "الاحتلال الإنجليزى لمصر حرر المواطن المصري، وجعله يترقى ويعرف مبادئ الواجبات الاجتماعية والحقوق المدنية!!).. واضاف، "هؤلاء الضباط الإنجليز، كانوا يصيدون الحمام في دنشواى، ليس طمعاً في لحم أو دجاج، ولو فعل الجيش الإنجليزى ذلك لكنت خجلاُ من أن أقف الآن أدافع عنهم!!). وعن الضحايا من اهالى دنشواى قال، "هؤلاء السفلة، وأدنياء النفوس من أهالى دنشواى، قابلوا الأخلاق الكريمة للضباط الإنكليز بالعصى والنبابيت، وأساءوا ظن المحتلين بالمصريين بعد أن مضى على الإنجليز بيننا خمسة وعشرون عاما، ونحن معهم في إخلاص واستقامة!!). بعد مرافعته الوضيعة والرخيصه، اصدرت المحكمه برئاسة الورد كرومر، وبطرس غالى، واحمد سعد زغلول قراراها بإعدام اربعة من اهالى القرية، والجلد والحبس للاخرين، لكن ظل الهلباوى لطيلة سنوات طويلة يشعر بالعار الذى يلاحقه، والسقطة التى القى بنفسه فيها بأعماق الوحل، ليتم الإفراج عن مرافعته التى دافع فيها عن الهلباوى والتى نشرتها الهيئة العامة للكتاب عام 1995، قال فيها، "المصريون كلهم كرهوا محاكمة دنشواى، واحتقروا كل من شارك فيها ودافع عن المحتلين الإنجليز، ولست هنا في مقام التوجع ولا الدفاع عن نفسى، ومع ذلك أستطيع أن أؤكد أن الشعب المصري يحتقر كل من يدافع عن المحتلين أو يأخذ صفهم أو يبرر جرائمهم، وأؤكد أيضا أن مواطنينا لم يقدروا الظروف التى دفعتنى أنا وغيرى إلى ذلك، لهذا جئت للدفاع عن الوردانى الذى قتل القاضي الذى حكم على أهالى دنشواى بالإعدام، جئت نادماً استغفر مواطنينا عما وقعت فيه من أخطاء شنيعة.. اللهم إنى استغفرك وأستغفر مواطنينا". فى الحلقة القادمة: نكشف عن سيطرة الإنجليز على المحاكم المختلصة، والتى رسخت للعنصرية المحتل، واكدت نازيتهم ضد المصريين، ليتم تبرأة الجلادين الانجليز وإختصام الخصم المصرى، والذى يجد نفسه مقهوراً ومحبوساً فى قضية هو المبلغ فيها، بعدما شعر بالظلم جراء جريمة ارتكبت ضده. المحاكم المختلطة كانت تطوراً لنوعية وتصعيداً تميزياً لمحاكم القنصليات التى كان يحاكم فيها المصريين داخل القنصليات الاجنبية، حسب قوانين الدولة التى تختلف عن غيرها.