«جينا الفقي»: معرض مخرجات البحوث منصة حيوية لربط العلم بالصناعة    رئيس مياه البحيرة يتابع استلام الوصلات المنزلية ضمن مشروعات «حياة كريمة»    مجلس الوزراء يوضح حقيقة اعتزام بيع المطارات المصرية ضمن برنامج الطروحات    التحرير الفلسطينية: الأوضاع في قطاع غزة كارثية    سلوت: أرغب في بقاء محمد صلاح مع ليفربول.. وأنا صاحب تشكيل المباريات    بريطانيا: فرض عقوبات ضد قيادات الدعم السريع وتدعو لحماية المدنيين فى السودان    يورتشيتش يعاين ملعب مباراة بيراميدز مع فلامنجو البرازيلي    تحرير 1032 مخالفة مرورية لعدم ارتداء الخوذة    أمطار خفيفة في مناطق متفرقة بالجيزة والقاهرة على فترات متقطعة    «مش هندفع الحساب».. ماذا حدث داخل مطعم بالغربية؟    ضبط بائع تحرش بسيدتين أجنبيتين في القاهرة    ياسمين عبدالعزيز: نجاحي مع كريم فهمي ليس صدفة.. تجمعنا كيميا جيدة    فيلم "نجوم الأمل والألم" يفوز بجائزة اليسر لأفضل سيناريو بمهرجان البحر الأحمر    الصحة: تقديم أكثر من 7.8 مليون خدمة طبية بمحافظة القليوبية خلال 11 شهرا    بحضور نائب المحافظ.. افتتاح مسجد "السلام" بمدينة سوهاج الجديدة    نانت «مصطفى محمد» ضيفًا على أنجيه في الدوري الفرنسي    إصابة طفلة بحالة إعياء بعد تناولها قطعة حشيش في الجيزة    كاراجر: سلوت خرج منتصرًا من أزمته مع محمد صلاح    تعزيز إدماج ذوي الإعاقة في مصر.. من الالتزامات العالمية إلى العمل الوطني    10 أعمال تشارك في مسابقة الأفلام العربية بالدورة السابعة من مهرجان القاهرة الدولي للفيلم القصير    فصل سورة الكهف....لا تتركها يوم الجمعه وستنعم ب 3بركات    إعلام إسرائيلي: سلاح الجو يبدأ بقصف أهداف لحزب الله في لبنان    «الرقابة الصحية» تعلن حصول دليل معايير مراكز العلاج الطبيعي على الاعتماد الدولي بنسبة 99.2%    6490 جنيها لهذا العيار، آخر تطورات أسعار الذهب اليوم    موعد ومكان صلاة الجنازة على الناشر محمد هاشم    تفشي الكوليرا في الكونغو الديمقراطية يصبح الأسوأ خلال 25 عاما    مباحثات لتدشين خطين شحن جديدين Ro-Ro بين مصر واليونان    وزير الاستثمار: التجارة البينية الإفريقية الحالية لا تتجاوز 15% من إجمالي تجارة القارة    تقارير إعلامية: 3 أندية أوروبية تهدد حلم برشلونة فى ضم جوهرة الأهلي    خبير ضخ الفيدرالي الأميركي 40 مليار دولار شهريًا خطوة استباقية لضمان السيولة وتجنب اضطرابات السوق    أحمد كريمة: «اللي عنده برد يصلي الجمعة في البيت»    مصر وقبرص تمضيان قدمًا في تعزيز التعاون الإستراتيجي بين البلدين في قطاع الطاقة    "قصة حقيقية عشتها بالكامل".. رامي عياش يكشف كواليس أغنية "وبترحل"    الأهلي يراقب 4 لاعبين في مركز الظهير الأيسر    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : أنت صوفى ?!    القوات الروسية تعلن تدمر 90 طائرة أوكرانية مسيرة    28 لاعبًا في قائمة نيجيريا استعدادًا لأمم إفريقيا 2025    وزير الثقافة يعلن موعد انطلاق فعاليات المؤتمر العام لأدباء مصر ال37 بالعريش    الحصر العددي لأصوات الناخبين في دائرة المنتزه بالإسكندرية    انطلاق انتخابات مجلس إدارة نادي محافظة الفيوم وسط انضباط وتنظيم محكم    «الصحة»: H1N1 وRhinovirus أكثر الفيروسات التنفسية إصابة للمصريين    «المجلس الأعلى لمراجعة البحوث الطبية» ينظم ندوة لدعم أولويات الصحة العامة في مصر    رئيس جامعة العاصمة: تغيير الاسم لا يمس الهوية و«حلوان» تاريخ باق    انطلاق القافلة الدعوية بين الأزهر والأوقاف ودار الإفتاء إلى مساجد شمال سيناء    وزيرة التنمية المحلية تناقش مع محافظ القاهرة مقترح تطوير المرحلة الثانية من سوق العتبة    الأعلى للجامعات يجري مقابلات للمتقدمين لرئاسة جامعة بني سويف    طريقة عمل الأرز بالخلطة والكبد والقوانص، يُقدم في العزومات    كيف أصلي الجمعة إذا فاتتني الجماعة؟.. دار الإفتاء تجيب    القطري عبد الرحمن الجاسم حكما لمباراة بيراميدز وفلامنجو    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 12-12-2025 في محافظة قنا    مصرع تاجر ماشية وإصابة نجله على أيدى 4 أشخاص بسبب خلافات في البحيرة    ياسمين عبد العزيز: خسرت الفترة الأخيرة أكثر ما كسبت.. ومحدش يقدر يكسرني غير ربنا    أبرزهم قرشي ونظير وعيد والجاحر، الأعلى أصواتا في الحصر العددي بدائرة القوصية بأسيوط    تزايد الضغط على مادورو بعد اعتراض ناقلة نفط تابعة ل«الأسطول المظلم»    فيديو.. لحظة إعلان اللجنة العامة المشرفة على الانتخابات البرلمانية الجيزة    جوتيريش: غارات إسرائيل المستمرة فى غزة ما زالت تتسبب بخسائر كبيرة    رد مفاجئ من منى زكي على انتقادات دورها في فيلم الست    رئيس الطائفة الإنجيلية: التحول الرقمي فرصة لتجديد رسالة النشر المسيحي وتعزيز تأثيره في وعي الإنسان المعاصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تلك القري :بين المتن والهامش
نشر في أخبار السيارات يوم 24 - 03 - 2018

»تلك القري»‬، من أحدث أعمال الكاتب أحمد سراج الروائية. وهي رواية مهمة علي مستويات عدة، سواء من حيث القضايا والمضامين الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تفجرها، أو من حيث التقنيات السردية والشكلية التي تتوسل بها، أو من حيث التقنيات اللغوية التي تسعي الرواية إلي الإفادة منها، أو أخيرا من حيث الاستلهام بأشكاله المتعددة، سواء كان استلهاما فنيا، أو استلهاما شعبيا.
(1)
يمثل ميل الكاتب إلي التقنيات الشعبية أمرا كان ضروريا؛ نظرا إلي طبيعة الموضوع الذي تدور حوله الرواية. فالرواية تتخذ من غربة المواطن المصري البسيط والمهمش إلي العراق بحثا عن لقمة عيش كريمة موضوعا لها. فالعراق- علي نحو ما كان في الماضي- رمزا للغربة العاطفية (الغزل العذري)، فإنها صارت في الواقع المعاصر رمزا للغربة النفسية والجسدية والمكانية. إن الغربة في الرواية- كما هي في المجتمع- ليست من قرار صاحبها، وإنْ بدا غير ذلك، وإنما هي بفعل ظروف اجتماعية قاسية وطاحنة تدفع صاحبها إلي الاغتراب بعيدا عن موطنه وأهله، متحملا كل ما من شأنه أن يرهقه ويجهده لسنوات طويلة؛ في سبيل أن يعود لكل هؤلاء وهو مثبت لذاته، وجالب لهم بعض صنوف السعادة. وغربة أبطال السير الشعبية لا تبتعد عن ذلك كثيرا. فالبطل تدفعه ظروف مجتمعه إلي الرحيل مبكرا عن موطنه وأهله، وعندما تتحقق له الأدوات اللازمة لإثبات ذاته من فروسية وقوة، سرعان ما يعود إلي أهله ووطنه. وفي كلا الأمرين يعترف المجتمع بقوة فارسه الجديد. لذلك كانت ضرورة ربط المؤلف بين تغريبة الأبطال، وتحديدا عبده وهندي، وتغريبة أبي زيد الهلالي ودياب بن غانم. ولما كانت العراق- ذلك الجرح الغائر في صدور العرب- هي الموطن الجديد للمغتربين المصريين، فإن الكاتب لم يفته أن يربط بين عراق الماضي في السيرة الهلالية، حيث الخفاجي عامر، ذلك البطل العراقي الشعبي، وبين عامر الشخصية المستلهمة في عراق اليوم، بحسب ما استوحاها الكاتب.
فن السير الشعبية- الذي تنتمي السيرة الهلالية إليه- فن ظهر لحاجة المجتمع السياسية إليه في فترة العصور الإسلامية الوسطي، عقب سقوط بغداد، ثم تفتت العالم العربي إلي دويلات صغيرة، وإخضاع معظمه إلي حكم الأتراك والمماليك. هنا كانت الحاجة الاجتماعية إلي فن شعبي لمقاومة العدو الذي فتت وحدة الصف العربي، وتمثل هذا الفن في السيرة الشعبية بوصفها فن المقاومة الشعبية. وبهذا المعني تم توظيف السير الشعبية في رواية »‬تلك القري»، وتحديدا السيرة الهلالية. »‬فالسير كانت ملاذ البسطاء نحو بحثهم عن بطل من بينهم، يثقون فيه، ويلتفون حوله. وهذا ما يدور حوله اللوح الثالث من ألواح المقدمة »‬فلما أن فشا الجوع والقحط بين الفلاحين، وزاد العمد وشيوخ الخفر والأعيان، لا يصيبهم مرض ولا جوع؛ عرف الفلاحون عدوهم الحقيقي... وهبَّ الآباء إلي الموالد ومجالس الذكر والسير والملاحم، وتلألأ الهلالي وعنترة والظاهر والزير/ الرواية». ولقد تعددت أشكال استلهام السيرة الهلالية في الرواية، ما بين أحداث أو شخصيات أو أداء بما يشيعه من روح الحميمية والألفة والتوحد، باستدعاء قيم الهلالية الإيجابية كالفروسية والنبالة والشهامة والشجاعة ومساعدة الضعفاء.
عندما ربطت الرواية بين هندي وشخصية دياب بن غانم، للدرجة التي كان أصدقاؤه ينادونه ب »‬دياب بن غانم»، لم يكن راجعا إلي تشابههما في القوة الجسدية والجنسية فحسب، تلك القوة التي كانت تتخايل »‬كنهرنا في العراق»، وإنما- إلي جانب ذلك فإنهما تشابها في ملامحهما وصفاتهما الخلقية. إن دياب بن غانم كان نقطة ضعف بني هلال، رغم كونه نقطة القوة التي كان بنو هلال يلجأون إليها أوقات الشدة والأزمة، ولا أدل علي ذلك من أنه الشخصية التي قُدِّر لها- دون غيرها من أبطال الهلايل- أن تقتل الزناتي خليفة. غير أن دياب بن غانم الزغبي دائما كان شوكة في ظهر بني هلال، وارتبط اسمه بالخيانة، للدرجة التي يشيع- معها- مثل شعبي في صعيد مصر يقول: »‬زغبي وخوان»، وقد ورث الخيانة عن أبيه غانم الزغبي. ومن يتأمل شخصية هندي علي مدار الرواية سيجد أنه تجل لهذه الشخصية بما يحمله من خيانة ونذالة إلي جانب تواضع مستواه الاجتماعي، فهو من »‬التملية» أو »‬العزابوة». وفي تواضع المكانة الاجتماعية يلتقي دياب معه في ذلك، فهو ينتمي إلي الزغابة التي لجأت إلي بني هلال في نجد، هروبا من زناتة اليمن. لذلك كانوا يشعرون- دائما- أنهم أدني- اجتماعيا- من كل بطون بني هلال، فهم كانوا يعيشون في حماهم. ويؤكد العنوان الذي يحمله أحد فصول الرواية »‬هندي: عش نذلا، تكن سعيدا/ الرواية» ذلك الاستلهام لشخصية دياب، ومدي التلاقي بين شخصيتي دياب وهندي. فهندي رمز للنذالة والوضاعة طوال الرواية، سواء مع أصحابه أو زوجته أو ابنه أو زوجة ابنه التي راودها عن نفسها. هذا ما جاء علي لسان إحدي شخصيات الرواية في وصفه لهندي: »‬إنك بلا ذمة ولا دين، يلجأ لك صديقك لتساعده في تهريب امرأة، فتطلب منا أن نأخذها لك ونقتله، هذا غير موضوع زوجة ابنك يا كلب/ الرواية». وإذا كان دياب عنصر تفتيت لوحدة بني هلال، وضياع لانتصار بني هلال علي الزناتة، فإن هندي كان عنصر تفتيت لقيم القرية المصرية، وضياع لقيمها، ولأموال أسرته التي قامت بادخارها.
»‬الآن... يبدو عامر خفاجي ممددا أمامي بعد أن طعنته خديعة الزناتي/ الرواية». بهذه الجملة يتضح لنا أن الكاتب لم يتوقف في استلهامه السيرة الهلالية للشخصيات فقط، علي غرار ما استدعي شخصية الخفاجي عامر، ابن عبده المصري وسلسبيل العراقية، وإنما كذلك وظف تيمات هلالية في بنية الرواية، علي غرار ما وظف خديعة الزناتي مع الخفاجي عامر ليسقطها علي أحداث واقعه المعاصر، علي نحو ما نجد خديعة أمريكا للعرب في العراق. ولقد أجاد المؤلف في استدعاء تيمة الخداع، علي نحو ما أجاد في استدعاء شخصية »‬عامر». فالخفاجي عامر هو البطل المفضل لعامر الطفل، لأنه »‬العراقي الوحيد في السيرة» إلي جانب النهاية المأساوية الكبري للخفاجي عامر. لقد جعلت أحداث العراق من »‬عامر» - ذلك الطفل الصغير- بطلا، يحمل هموم وطنه وهموم أسرته. لقد حفظ عامر الطفل قصة عامر الخفاجي الجد، وراح يتمثل شخصيته، ويستدعي بطولاته، ويفيد مما مر به في حياته، فحاول ألا تنطلي عليه خديعة الزناتي/ أمريكا هذه المرة؛ لذا قرر أن يقف في وجه أمريكا، ولكنه قرر- أولا- ضرورة العثور علي أبيه. تمثل شخصية عامر استدعاء لصورة البطل المخلص والمنقذ لقومه علي غرار صورته التي ساهمت في نشأة فن السير العربية، وكأن التاريخ العربي يعود إلي الوراء. فالظروف والملابسات التاريخية التي حدثت ومر بها العالم العربي والإسلامي منذ ثمانية قرون تعود ثانية، ومن بغداد أيضا، فيعود معها البحث عن البطل المخلص الذي تلتف حوله الشعوب ليخلصهم من نير الغازي الجديد. وهو ما جعل سلسبيل تسخر من تلك الجملة التي جاءت علي لسان الدكتورة عبير، ودائما ما نكررها »‬هذا قدرنا، أن نأتي في هذه اللحظة الحرجة الدقيقة من عمر أمتنا»، فترد ساخرة: »‬لو راجعنا تاريخنا كله، لوجدنا هذه الجملة تحتل ثلاثة أرباعه». لقد جعلت الرواية من عامر »‬ابن العراق الحقيقي، هو الأمل القادم الذي لن تطاله أيدي الغدر/ الرواية». ولذلك فإن الرواية تُختتم بفصل أخير عنوانه: »‬عامر: العهد الأليم»، ينتهي نهاية مفتوحة للدلالة علي استمرارية الجرح العربي، وهو ما يتبدي في السؤالين اللذين يختتم بهما الراوي روايته، حول أسباب استمرار الظلم في بلداننا العربية، ومدي استمراريته.
أما شخصية »‬عبده» فهي شخصية مستوحاة من شخصية أبي زيد الهلالي، فكلاهما مصدر التوازن لمن حوله. فأبو زيد يمثل مصدر التوازن لقبيلته، فكلما اشتد الخلاف والصراع بين دياب بن غانم والسلطان حسن بن سرحان، يتدخل أبو زيد ليزيل ذلك الخلاف، وكلما استنجد به ضعيف أو يتيم أسرع إلي نجدته. وبالمثل تأتي شخصية عبده لتحدث توازنا في قريته قبل سفره إلي العراق، أو بعد عودته منها، أو بين أصحابه أثناء الغربة. لقد استمد عبده اسمه وصفاته من عبده الأكبر، الذي وقف في وجه عمدة قريته المتجبر؛ لذا سمي باسمه أحد الطرق المؤدية إلي قريته. ولقد ورث عنه شهامته ورجولته وشجاعته. إن عبده الأصغر رمز للحكمة والصبر، تشعر معه وكأنه يحمل جبالا من الهموم والأسرار، فلا يمتلك كل من يقترب منه إلا أن يحبه. يحمل عبده في قلبه الحلم القومي بين مصر والعراق، وهموم شعبيهما، فالمصريون أنهكهم الفقر والظلم، والعراقيون أنهكهم الاحتلال.
لم يتوقف استلهام الهلالية علي استدعاء شخصياتها أو أحداثها، وإنما امتد ليشمل استلهام أدائها، علي نحو ما انعكس في طريقة الحكي التي تسيطر علي الرواية، والتي تقترب من طرائق الحكي الشعبي، أو من خلال توظيف الأداء الهلالي، بما يخلفه من روح الحميمية والمشاركة الاجتماعية. ولقد تفاوتت مواطن استدعاء أداء الهلالية بين مصر والعراق، وإن حظيت العراق بالجزء الأكبر من هذا الاستدعاء، خاصة في استدعاء شخصية الخفاجي عامر. فها هو عامر بن عبده المصري وسلسبيل العراقية يستدعي تلك البداية الشعبية: »‬كان يا ما كان» . رددت أنا - أي سلسبيل الأم - وهمام: »‬يا سعد يا إكرام، ما يحلو الكلام إلا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام». استرسل عامر: »‬كان هناك ملك جبار اسمه الزناتي خليفة، لا يستطيع أحد أن يغلبه في نزال، ولما قتل الكثير من رجال الهلالي سلامة، طلب الهلالي من عامر الخفاجي أن يحاربه، وعامر ملك عظيم ومحارب كبير/ الرواية». ونظرا إلي أهمية لحظة الأداء الهلالي فإن الراوي كان حريصا علي وصف مشهد الأداء، بعد أن شد الحنين أسامة- وهو يحكي لعامر الطفل عن أبيه وجده- لأيام الطفولة وبراءتها. »‬كنا نتجمع في الطفولة علي سطح جدك، ونختبئ في عشة حطب حتي يصعد جدك، ويغني السيرة الهلالية لنفسه بصوته العذب، وأحيانا كان يمثلها/ الرواية».
إن لجوء الكاتب إلي استلهام تقنيات السيرة الهلالية، سواء كان استلهاما نصيا أو أدائيا أو استلهاما لأحداثها وشخصياتها، نابع من محاولة توظيف ذلك الاستلهام لخدمة قضايا واقعه المعيشة. فالظروف التي دفعت المجتمع العربي في عصوره الوسطي نحو خلق نموذج البطل المخلص والمنقذ للعرب، الذي يلتف حوله البسطاء والمهمشون من أبناء الشعوب العربية لاستعادة الحلم العربي المنشود، هي نفسها الظروف التي يعاني منها العرب الآن؛ حيث سقوط الدول العربية واحدة تلو الأخري بسبب سوء الإدارات العربية. لذلك فالكاتب يري أن الحاجة ماسة الآن- كما كانت في الماضي - نحو الالتفاف حول البطل المُخْلِص والمُخَلِّص لوطنه والأمة العربية؛ لاستعادة حلم العودة إلي ما سبق أن كنا عليه.
(2)
الأسطورة في »‬تلك القري»
لم تستسلم إيزيس- في الأسطورة المصرية- لخداع ست مع زوجها أوزوريس، بعد أن قتله، وقطَّعه قطعا صغيرة متناثرة علي مناطق متفرقة من أنحاء مصر. فقامت إيزيس بجمع أشلاء زوجها المغدور، ونجحت في إعادته للحياة. هكذا تأتي صورة سلسبيل، عراقية الجنسية، مع زوجها عبده، مصري الجنسية. فلم تستسلم سلسبيل لبعد زوجها عنه، الذي أقصته الظروف السياسية الطاحنة عن بلاد العراق، فراحت تبحث عنه في كل مكان، ولم تتردد في الذهاب إلي مصر بحثا عنه. ويعطينا الراوي المفتاح الذي نربط فيه بين صورة سلسبيل وإيزيس، علي نحو ما جاء علي لسان الدكتورة عبير العراقية موجهة حديثها إلي عامر الابن. »‬تذكرت حكاية الزوجة التي طافت تبحث عن زوجها حتي وجدته ميتا»، تكمل الدكتورة: »‬لكنها ظلت تدعو له حتي عاد إلي الحياة/ الرواية». ولقد جاء الربط ذكيا من الكاتب، حيث إن عبده المصري، الذي يرمز إلي الوضع الراهن للعرب يعاني مما سبق أن عاني منه أوزوريس، وعلي نحو ما انتهي الأمر في الأسطورة المصرية القديمة بجمع شمل الأسرة، إيزيس وأوزوريس والابن حورس، يكون الحال نفسه مع الأسرة المعاصرة حيث يلتئم شمل الأسرة، عبده وسلسبيل والابن عامر. وفي هذا رمزية مهمة تهدف إلي محاولة تحقيق رأب الصدع العربي، والأمل في التئام الجراح العربية، ولم شمل البلدان العربية بعد أن فرقتها النظم العربية الاستبدادية أو الاستعمار بصوره القديمة والجديدة.
ولم تتوقف الرواية عند حد توظيف الأساطير المصرية القديمة، وإنما توقفت عند توظيف أساطير معاصرة تعكس بعض العادات والتقاليد العربية. من ذلك الأساطير المرتبطة بأسماء الشخصيات أو الطرق أو القري. فشخصية عبده البطل لم تكن سوي امتداد لشخصية أقدم تحمل الاسم نفسه، وهو من يحمل اسمه أشهر الطرق المؤدية إلي القرية، إنه »‬طريق عبده». فعبده الأكبر كان زينة شباب البدو، وكان شابا مليحا »‬إذا أمسك النبوت لم يقف أمامه أحد، تعرفه القري كلها بشهامته ورجولته وشجاعته». وعلي غرار الأبطال الأسطوريين، يلعب ضرب الرمل دورا في التنبؤ بمصيره. هذا ما تخبر به العجوز عبده: »‬ستنجب عشرة من الذكور، وستملك مائة فدان... ستموت يوم أربعاء، ستهزم كل الرجال تقتلك نظرتك إليها». هكذا تكون نهاية عبده علي نحو ما تنبأت ضاربة الرمل. تأتي نهاية عبده- الذي أعيا العمدة ورجاله- علي يد عجوز قريبته، انحني عبده إليها قائلا لها: »‬عودي يا خالة لماذا جئت؟»، فترد وقد قررت التخلص منه: »‬وهل أبقيت لنا مكانا نسكنه؟»... ثم ألقت في عينيه ترابا ناعما، وسرعان ما هجم عليه المتربصون به؛ ليقتلوه. يمثل الوقوف عند أسطورة عبد الجد الأكبر شكلا آخر من أشكال الاستلهام الشعبي، من خلال توظيف الأسطورة داخل الرواية؛ للتعرف علي الكيفية التي تفكر بها العقلية القروية في بحثها عن بطلها المخلص لها من مشكلاتها، والمنقذ لها من واقعها الأليم.
كما توقفت الرواية عند أحد المعتقدات الشعبية التي يستخدمها النصابون لفتح الكنوز الخبيئة داخل الأراضي. هكذا تأتي نهاية هندي بعد كل ما ارتكبه من أفعال غير إنسانية، طالت زوجته وابنه وزوجة ابنه وأصحابه، فتأتي نهايته ليكون صيدا غاليا لهؤلاء اللصوص، فيأخذون من جسده ما يطلبه شيوخ الآثار ليسترضوا الجن الحارس للكنوز، فيتمكنوا من فتحها. »‬قطع أحدهم عضوه الذكري وهو يترنم بألفاظ غير مفهومة، وفتح صندوقا ووضعه فيه وأغلقه بإحكام، ثم عاد إلي جسد هندي ووضع مادة مكان ما قطع، أشار لرجلين ففتحا فمه، وقطع الرجل لسانه ووضعه في صندوق آخر وأغلقه بإحكام. أشار إلي الرجلين: »‬خذا الصندوقين واذهبا بهما إلي الجماعة... من ينقبون عن الآثار، هذه الأشياء مهمة لهم/ الرواية».
(3)
تحولات القرية المصرية
تتحرك أحداث رواية »‬تلك القري» بين مصر والعراق، فإذا كان الكاتب قد اتخذ من العراق مكانا للتوقف عند القضايا السياسية التي يريد أن يثيرها، مثل مأساة الاحتلال الأمريكي، أو العلاقة بين العامة وقيام الثورات (ص 22)، فإنه اتخذ من مصر مكانا للتوقف عند القضايا الاجتماعية التي تعج بها القرية المصرية المعاصرة، من خلال ما أصابها من تحولات اجتماعية. ويتبدي هذا التأثر بالقرية المصرية انطلاقا من غلبة مفردات القرية المصرية علي لغة الرواية، مثل استخدام كلمات شديدة المحلية والدالة علي الخصوصية اللهجية القروية، مثل: »‬التملية» و»‬العزباوي» اللتين كثر ورودهما في الرواية، ومعناهما الغجري، أو »‬مجلس الحق» ومعناه جلسات المصالحة العرفية.
يحيل الكاتب ما أصاب القرية المصرية من خلل اجتماعي، وتغير في العادات والتقاليد القروية إلي حد وصل إلي الفساد الاجتماعي، إلي ما أحدثته وسائل الإعلام الحديثة، راديو وتليفزيون، من آثار سلبية علي القرية. هذا هو التبرير الذي يبرزه حوار أهالي القرية عقب العثور علي طفل صغير لقيط ميتا؛ مما أدي إلي تشابك بين عائلتين بالقرية، لولا تدخل العقلاء بالقرية. هكذا تداخلت عبارات الأهالي مبررة الحدث:
»‬- لا حول ولا قوة إلا بالله.
من التي هان عليها ضناها هكذا؟
هذه عاقبة التليفزيون والتعليم.
القرية فسدت، وانتهي الأمر/ الرواية».
ولا شك أن تيمة »‬الطفل اللقيط، تذكرنا برواية الحرام ليوسف إدريس الذي بدا تأثر الكاتب به واضحا، سواء في هذه التيمة ومعالجتها، أو في الفصل الخاص: »‬هندي: عش نذلا، تكن سعيدا»، الذي يقترب في بنيته من قصة »‬في الليل»، خاصة في تشابه صورة زوجة هندي وصفاتها بين الكاتبين. كذلك يتبدي التشابه بين سراج وإدريس في لغة الحوار، وتناوبها بين العامية والفصحي، أو تفصيح العامية، علي نحو ما يبدو في تفصيح لغة الأمثال الشعبية.
كما تعرضت الرواية لقضية الهجرة الداخلية، من القرية إلي المدينة، وكذلك الهجرة الخارجية من مصر إلي العراق في فترة الثمانينيات، مما يهدد الحياة الزراعية في مصر. فالقرويون- نظرا إلي الوضع المتدني للفلاح، وعدم اهتمام الدولة به- يتركون أراضيهم التي يمتلكونها ويزرعونها، ويفضلون عليها الهجرة إلي المدينة، أو الهجرة إلي الخارج، مفضلين قبول العمل في مهن متدنية، كالحراسة، عن استمراره في العمل بالزراعة. »‬الذين يمتلكون الأراضي الآن يبيعونها، وهناك من يشتريها. ليس للزراعة، وإنما للبناء عليها، أو للاتجار فيها. وهناك من يستصلح في الصحراء. ويزرع فراولة وكانتالوب، ويصدر ما يزرعه، هذا ما قاله من يعملون فيها.... لقد اكتشفت أن كل البوابين هنا تركوا أرضهم في الريف، وجاءوا إلي العاصمة. لن تجد شخصا في العاصمة ليست له جذور في الريف". هذا ما يريد أن يثيره الكاتب من لفت انتباه الدولة إلي خطر إهمال حال الفلاح المصري، وما يترتب علي ذلك الإهمال من خطر يهدد الحياة الزراعية في مصر، جنينا جزءا منها، من اختفاء القطن المصري من الأسواق العالمية، وهناك أخطار لاتزال تحيق بالقمح والأرز وغيرهما من المحاصيل الأخري، التي يؤدي اختفاؤها إلي تهديد حالة الاستقرار في المجتمع المصري.
ولقد ارتبط بهذا التحذير من الكاتب الذي يوجهه إلي من يعنيه أمر القرية المصرية، أن مثَّل »‬النيل» كلمة المفتاح الرئيسية عبر الرواية بفصولها المتعددة. فبدءا من الألواح السبعة التي يستهل بها الراوي روايته، يتبدي لنا ذلك الدور الذي يحتله النهر فيها؛ إذ يخصص الراوي من هذه الألواح السبعة خمسة ألواح، يتحدث فيها عن مراحل النهر. وفي الحقيقة لم يكن حديثه عن النهر سوي وصف لوضع الفلاح ومعاناته طيلة مراحل الحياة في مصر. وتنبغي الإشارة إلي رمزية الألواح السبعة التي وردت في مستهل الرواية. فهي في الحقيقة لم تكن سوي رمز لحضارة السبعة آلاف سنة. هذا ما يؤكده الحوار الذي دار بين الدكتورة العراقية- التي أسرت »‬هندي»- وبين عبده. وكذلك ما يورده الراوي في اختتامية الرواية. »‬أنهارها بحر من الأوجاع.. كم ألف عام.. يا تري سبع... ألوف».
تعكس الرواية- كذلك- النظرة الطبقية في القرية المصرية، خاصة النظرة الطبقية تجاه الغجر. فالغجر- وتمثلهم في الرواية شخصية هندي وأسرته- يحظون بمنزلة متدنية في المجتمع، ويعاملون معاملة العبيد. هذا ما يعكسه الموقف التالي الذي يجمع بين فرحات، ابن أحد الأثرياء بالقرية، وعبده وهندي. ففي أثناء السفر، يقف فرحات قائلا: »‬يا عبده سيجلس هندي آخر السيارة؛ لأن الكرسي ضيق عليَّ». أكمل أحدهم: »‬ظنناك حجزت الكرسي لأحد أقاربك». ظل عبده صامتها، فمال فرحات عليه: »‬ما رأيك؟». نظر عبده إليه: »‬إذا كنت متعبا من مكانك، فخذ مكاني». صمت فرحات قليلا: »‬عيب عليَّ أن أجعلك تترك مكانك». هز عبده رأسه: »‬وعيب عليَّ أن أجعل أحدنا يترك مكانه دون رغبته». انتفض فرحات: »‬أحدنا! رغبته! لا يا عبده، هل العزباوي التملي أحدنا؟! وله رغبة؟ لولا أنت ما سافر معنا أصلا». اندفع صوت: »‬يا عبده، فرحات عنده حق؛ فأبناء العزب خدم وتملية لسادة القرية/. لقد وقف عبده في مواجهة هذه النظرة الطبقية، وحاول أن يقاومها، كما ظهرت أصوات معتدلة تؤيد موقفه».
إن ما أريد أن أخلص إليه في ختام هذه القراءة السريعة لرواية »‬تلك القري» المهمة، هو أهمية القضايا التي تطرقت الرواية إليها، خاصة في وقوفها مع المهمشين من العمال والفلاحين والغجر في مواجهة المتن والسيادة والسلطة بتجلياتها العديدة، سواء كانت سلطة سياسية أو ثقافية أو اجتماعية أو سلطة احتلال. فالمهمشون- بحسب ما تري الرواية- هم من يقودون حركة التغيير الاجتماعي والنهوض بالمجتمع، وأي معادلة تخلو من وضع المهمشين فيها، فلن يكون هناك تغيير مجتمعي حقيقي. الأمل في التغيير- علي نحو ما تري الرواية- أن يصبح الهامش متنا، وألا يستمر المتن في موضعه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.