من أهم ما أسفرت عنه حرب الأيام الستة فى 1967 التحول الذى طرأ على العلاقة بين الدين والدولة و المجتمع فى كل من إسرائيل والعالم العربى، تدفق على إسرائيل منذ تلك الفترة أصوليون يهود من الولاياتالمتحدة ومن الإمبراطورية السوفيتية. تراجع اليسار العمالى الذى أسس الدولة العبرية وحقق لها انتصاراتها العسكرية والسياسية المذهلة، وتحولت إسرائيل من دولة أوروبية فى الشرق الأوسط إلى ولاية أمريكية أو موقع أمريكى متقدم وكما انتقلت إسرائيل من الاعتماد على السلاح الفرنسى قبل الحرب إلى الاعتماد على السلاح الأمريكى بعدها انتقلت أيضا من العلمانية الملحدة إلى العلمانية اليهودية، وأصبح سياسى مثل مناحيم بيجن الذى كان محتقرا فى زمن العلمانية الملحدة بطلا قوميا فى زمن العلمانية المتدينة وأتاحت له فضيحة صغيرة لا يمثل تدبيرها أى صعوبة أن يكون له هو شرف تقديم طبخة السلام للجمهور الإسرائيلى ولليهودية العالمية بعد أن أنضجها العلمانى الملحد إسحق رابين الذى فقد منصبه لأن لديه حسابا بعشرات الدولارات فى بنك أجنبى ومنذ تلك اللحظة والتيار الدينى يتوحش فى إسرائيل، وفى طريق صعوده المتواصل إلى اليوم افترس رابين وياسر عرفات ومئات الإسرائيليين وآلاف الفلسطينيين والعرب، وأسفر أخيرا عن هدفه النهائى وهو تأسيس ديمقراطية يهودية فى إسرائيل. وبالمقابل، فبمجرد أن وضعت الحرب أوزارها علت فى مصر نغمة التدين لكنى أريد أن أقول إن التحول فى مصر وإسرائيل لم يكن من النقيض إلى النقيض - فالعلمانيون الملحدون أمثال دافيد بن جوريون وليفى إشكول وجولدا مائير هم الذين أسسوا الدولة، هذا صحيح، لكنها من البداية دولة اليهود، والموروث التوراتى موجود فى أساسها، وما جرى بعد حرب الأيام الستة هو أنها بدأت تتحول من دولة لليهود إلى دولة يهودية وبالمقابل فثوار يوليو أصحاب مشروع وطنى لكن البعد الإسلامى حاضر لديهم بقوة من اللحظة الأولى.وما جرى بعد حرب الأيام الستة هو أنه أصبح أكثر وضوحا. وسأضرب لك مثالين قويين على ذلك : حرص الفريق عبدالمنعم رياض على نشر قيم التدين بين الشباب فى مصر، ورياض هو رئيس الأركان الذى أرسى دعائم حركة عودة الروح للعسكرية المصرية من خلال حرب الاستنزاف. أما المثال الثانى فهو البعد الدينى فى معركة التحرير الكبرى معركة العاشر من رمضان والمفارقة التاريخية أنه كان العاشر من رمضان عندنا ويوم كيبور عند العدو، أى أن يوم التحرير كان يوما دينيا بالنسبة للطرفين. ولأننا بدأنا هذا الحديث بمناقشة أوضاع المسيحيين العرب فلابد أن نسأل : أين موقع المسيحيين من هذه التحولات فى مصر وإسرائيل؟ فى إسرائيل لا حاضر للمسيحيين ولا مستقبل، لأن النموذج الأندلسى الذى ألهم مؤسسى الصهيونية يمهد لتعاون وتعايش بين اليهود والمسلمين بشروط يهودية وفى إطار خدمة القوى الغربية المسيطرة على العالم، وهى قوى تضع اليهود قبل المسلمين، على الأقل منذ القرن الثامن عشر. أضف إلى ذلك أن الغرب يماهى بين الدين والجغرافيا وبين الدين والقومية ويعتبر أن الغرب للمسيحيين والشرق العربى يجب أن يكون للمسلمين واليهود ويشجع هجرة المسيحيين العرب، خاصة الفلسطينيين واللبنانيين، إلى الغرب. أما فى مصر فالوطنية المصرية هى قوة تاريخية ذات حضور غلاب، سواء اعتنقت العلمانية الفرنسية، كما كانت تفعل حتى 1952 أو العلمانية المتدينة التى تمضى باتجاهها منذ ذلك التاريخ. ووحدة عنصرى الأمة من مسلمين ومسيحيين هى من أهم عناصر الوطنية المصرية. لكن هذه الوحدة تواجه اليوم تحديات كبيرة أهمها التحدى الذى تمثله جماعة الإخوان المسلمين التى لم تستوعب الحقيقة الوطنية المصرية وتتعامل مع التاريخ المصرى بمثل ما تتعامل مع تاريخ بلد كباكستان، مثلا.. والتحدى المهم الآخر هو قدرة المسلمين والمسيحيين والبهائيين والسنة والشيعة والعرب والنوبيين والأمازيج فى مصر على إنجاز صيغة «التنوع داخل الوحدة» التى تفرض نفسها على العالم كله هذه الأيام. الإخوان المسلمون ليسوا مجرد جماعة دينية - سياسية لكنهم مصدر لرؤى وسلوكيات مناهضة للوطنية المصرية ولا يمكن التعامل معها بالقمع أو الاستئصال بل بالعمل السياسى والثقافى القادر على تجاوزها. والتنوع داخل الوحدة هدف ممكن لو أمكن ترشيد وعقلنة الخطاب العام.