إنه ليس اختيارًا جديدًا، إنها ليست إلا وجهة نظر تأسيسية بالنسبة لى منذ أن أصبح الفن مجال عملى الاختصاصى سواء فى الإبداع أو النقد، وهو الدرس الأول الذى أنصح به من أحب من الفنانين والكتاب من طلاب الفن بأكاديمية الفنون، لا أملك أن أعلنه صراحة من على مقعد المحاضر فى قاعة الدرس لأنه يبدو غريبًا وغير أكاديمى، لكننى أستطيع أن أكتبه هنا لأننى أرى عبدالله كمال لا يحلو له أن يكتب إلا على المقهى البسيط بشارع قصر العينى.ماذا هو إذن؟ هذا الاختيار؟ إنه درس الشارع، ماذا يفعل؟ ما هى أهم ألوان ملابسه، وكيف يسير الناس فيه؟ وهل تعلوهم سحابة حزن؟ وهل يسيرون إلى أهداف محددة، أم لا يلوون على شىء؟ ماذا يسمعون من أغنيات؟ ولأن الشارع الذى نراه دائمًا هو الشارع الرئيسى، فقد فكرت فى قراءة للشارع الخلفى. وهو شارع لا تعرفه كثيرًا يا عزيزى المثقف، ولا يعنيه أن يعرفك، يسكنه أناس لا يعرفون إلا أنفسهم على حقيقتها. جميعهم يتصرف كما يهوى ونادرًا ما يرتدون الأقنعة، هم شريحة كبرى من الجمهور فى مصر، لكن لا يعرف صناع الفن فى مصر كيف يتلقى هؤلاء الفن؟ بل ولا يتصور معظم نقاد الفن والأدب أن مفهوم جماليات التلقى يمكن أن يتم تطبيقه فى قراءة الأنواع الفنية التى يحبونها واللغة المتداولة بينهم، هؤلاء الذين يصنعون حالة خاصة من الفرح والمتعة اليومية بطريقة مختلفة. أرجوك انس تمامًا أية تصورات عن علاقة، ما بين ما يستمتعون به وبين الفن الشعبى. كما أرجوك ألا تحلق معى بعيدًا حول مفهوم الكرنفال الشعبى والاحتفال الجماعى التلقائى لدى الجماعات الشعبية والتى تحدث عنها - باختين- الناقد الروسى الشهير الذى اهتم بالصور الحسية والطابع الغليظ لبعض الاحتفالات الشعبية، الأمر يتجاوز ذلك تمامًا، ولا يحتاج لفلسفة أو تصورات نقدية ترى أنها تقرأ ثقافة الهامش فى إطار وعى نقدى يهتم بما بعد الحداثة وتركيزها على فنون الهامش. إنه الشارع الخلفى حيث الزحام وحيث هو متكرر فى بولاق الدكرور، وصفط اللبن وأعماق العمرانية والمرج، وتلك هى بعض أحياء القاهرة، ومثلها كثير فى محافظات مصر. إنه ذات الإيقاع فى بعض من بحرى والأنفوشى فى الإسكندرية، وفى عمق حى الأربعين والسادات بأسيوط، متشابه رغم اختلاف اللهجات وبعض العادات والتقاليد، لكنه هو نفسه الشارع الخلفى فى الدلتا والعاصمة والصعيد، ومعظم السواحل وقدر لا بأس به فى الأطراف. وأنت عندما تتأمله تدهشك حيوية سكانه وحبهم للحياة، وقدرتهم على صنع البهجة. نادرًا ما يذهب هؤلاء للسينما أو المسرح، لديهم عالم سرى لوصلات القنوات الفضائية، وسوق خاص لأغنيات مجهولة المصدر على أجهزة حديثة تقنيًا، جعلتها الصين فى متناول الجميع، تتصل بسماعات قوية وهى أجهزة «الإم بى ثريه يا عمنا»، ولن أستخدم الحروف اللاتينية أو الإفرنجية، فهم لا يعرفونها ومع ذلك فكوا شفرات القنوات المشفرة، وإعادة تجميع الكومبيوتر أصبحت لديهم، هى ووصلات الإنترنت الجماعية مسألة شديدة السهولة بل وذات ثمن بخس. وهذا ليس ببلاغ لشرطة المصنفات الفنية أو اتهام للرقابة بالتقصير. ابتسم أنت عند «كيشو».. وكيشو هذا هو اسم صاحب مركز سرى لتلك التكنولوجيا العجيبة فى الشارع الخلفى، لن أخبرك بموقعه أبدًا فقط عليك أن تعرف أن الشارع الخلفى بكل تلك العباءات السوداء التى ترتديها السيدات والفتيات، وبكل هؤلاء الشبان الذين يرتدون الجينز، ولم يكمل معظمهم تعليمه الثانوى، بل وبعض المتحفظين من أفراد الشريحة الدنيا للطبقة المتوسطة والتى أصبحت تعيش فى الشارع الخلفى، جميعهم من عملاء كيشو، الذى استطاع أن يضعهم فى عالم السماوات المفتوحة، بينما لم يمتنع عن إمداد سائقى «التكاتك» كجمع لمفرد كلمة «توك توك» وهو وسيلة نقل تعرفها جيدًا تنتشر الآن فى الشارع الخلفى ولا يسمح لها رجال المرور بالظهور فى الشارع الرئيسى. المهم «كيشو» وهو نموذج متكرر مع اختلاف الأسماء والمناطق يمدهم بالشريحة الذكية للأغنيات الجديدة الأحدث والأكثر شعوذة، وهى فى عالمى التوك توك والميكروباص المتهالك تتناسب جدًا مع الذائقة الجديدة لشبان وفتيات الشارع الخلفى ذات طابع حزين راقص وصاخب وتستخدم صورًا غنائية طازجة مثل «حد عنده ضحكة سلف» وأحيانًا تقوم بتطوير «الريستاتيف» الغناء الموقع الأقرب للأداء على إيقاع واحد فى شكل جمل لا معنى لها مثل «على حاحا.. على حاحا»، وكأن حاحا هذا هو الضمير الغائب، وهو يتحدث عن غدر الأصحاب، المهم أن التوك توك صغير الحجم يصدر أصواتًا غنائية صاخبة، لا تتوقع أنها تأتى منه، وبعضه يتزين بالريش الملون وبعلامات سيارات فخمة مثل مرسيدس وغيرها ويضاء بألوان مبهجة من الداخل والخارج، ويكتب على ظهره عبارات مختصرة تعبر عن أزمات هذا الجيل فى الشارع الخلفى، بعضها مكثف للغاية وله ظلال شعرية مثل: - مفيش صاحب يتصاحب. - الرقم مشغول. - الصمت لغة العظماء. - تحياتى لمن دمرت حياتى. وبعضهم استعار أسماء الأفلام مثل: - المنسى. - جعلونى مجرمًا، أو منح نفسه صفات خاصة مثل: - الرومانسى. - الخديوى. - أفندينا. - الجزار. لا شك أن معظم من يقودون تلك «التكاتك» فى الشارع الخلفى صبيان يمرحون بين فكرتى العمل والتجوال الحركى الحر المشابه لفكرة اللعب. المهم ولأنه لعب وعمل، ولأن الشارع الخلفى ليست به مواصلات منتظمة فقد تكاثرت تلك «التكاتك» بطريقة مذهلة، وهذا أيضًا ليس بلاغًا لشرطة المرور لتتبعها، إنه مجرد رصد لتلك الآلات السوداء الصغيرة التى تتحرك وتصدر أغنيات غرائبية لا أسمعها إلا منها. وفى الليل، وبدون اتفاق مسبق يتجمع هؤلاء فى أحد الأفراح البسيطة فى الشارع، فقط أنوار وبعض الكراسى وفرقة تجمع ما بين «الدى جى» والعازف الحى والمطرب الذى يغير كل الأغنيات على الإيقاع الذى يحب، ووسط المشروبات المبهجة، وهذا ليس ببلاغ لإدارة مكافحة المخدرات، يرقص الجميع ويوافق الكبار على ما يحدث ويشاركون الشبان الرقص، بل ويتفرج جميع السكان من النوافذ والشرفات، ولا يغضب أحد ولا يتطوع متحذلق بالاتصال بالشرطة لأنه يريد أن ينام، فلا أحد ينام ليلتها فى الشارع الخلفى، فتلك الليالى بهجة مفاجئة يهرب فيها الجميع من قسوة النهار.. المهم هؤلاء اخترعوا رقصًا جديدًا مبهجًا فطريًا هو أقرب لألعاب الطفولة، ونادرًا ما تشاركهم الفتيات الرقص، وقطعوا صلتهم بالتراث الشعبى تمامًا فلا وجود لمحمد طه ولا لخضرة محمد خضر ولا للمزمار البلدى، ومثل ذلك من أنواع شعبية نعرفها جميعًا. إنها صيغة جديدة للشارع الخلفى يمارس فيها نوعًا من التلقى المختلط بين أفلام الرعب والبورنو ورقص الطفولة وإيقاعات الهروب من الواقع. فهل يضع الفنانون والمثقفون الشارع الخلفى فى اهتمامهم؟ إنهم ملايين كبيرة لهم عزلتهم المنفتحة على العالم وبهجتهم الحزينة، ورقصهم الفطرى وموسيقاهم وأغنياتهم التى تشبه فى صخبها الأعلى من ضجة الشارع والزحام تحديًا للضجيج بالضجيج، وللفقر بحب مفرط للحياة، وللجنون بالجنون. فمن يضع الشارع الخلفى على أجندة أولويات محاولات تجديد الخطاب الثقافى والفنى فى مصر؟ أم أن الصمت لغة العظماء