د. عالية المهدى تكتب : هذا السؤال فرض نفسه في كثير من الحوارات التي دارت وتدور حول التحولات الحادثة في شخصية المواطن المصري في العقود الأخيرة. فصورة المجتمع والمواطن المصري سواء في واقعه أو مسلسلاته تشير إلي انتشار مظاهر التدين الخارجي مثل الحجاب، النقاب، اللحي، والجلباب، البرامج والقنوات الدينية ونجوم الدعاة الشباب والكبار، اللقاءات والندوات الدينية.. إلي آخر ذلك من ظواهر تنم عن حدوث تحول سريع في الواقع المحيط بنا انعكس علي ملامح شخصية المواطن مقارنة بعقود سابقة مثل الأربعينيات، الخمسينيات، الستينيات من القرن الماضي.. وفي إطار مناقشة هذه التحولات تثار العديد من التساؤلات لعل أهمها: ما هي العوامل التي دفعت وتدفع لإحداث هذه التغيرات السيكولوجية، الدينية والاجتماعية للمصري؟ وما القوي التي تسرع من خطي التوجه في هذا المسار؟ هل انعكست هذه التغيرات بصورة إيجابية علي سلوكيات الأفراد؟ وبمعني آخر هل ترتبط هذه المظاهر بتغير سلوكي حقيقي يتسق ويتفق مع ما يدعو إليه ديننا الحنيف؟ لعل السؤال الأخير هو مربط الفرس في هذا المقال. المتابع للمشهد في الشارع المصري والحياة اليومية وسلوكيات النسبة الغالبة من المواطنين لابد أن يصاب بحالة اندهاش شديد من فرط المفارقات الواضحة ما بين الشكل والجوهر في سلوكيات الأفراد، فعلي حين تتجه النسبة الغالبة من المواطنين للمبالغة في الاهتمام بشكل الملبس، فإنها لا تبالي بنفس الدرجة بمدي استقامة سلوكياتها واتساقها مع ما يدعو إليه الدين الإسلامي السمح وباقي الأديان بوجه عام. ولا يملك المرء إلا أن يتذكر مقولة الإمام محمد عبده حين ذهب إلي أوروبا ثم عاد إلي مصر في نهاية القرن التاسع عشر «حين كانت أخلاقيات المواطنين في مصر مختلفة عن اليوم تماما»، حيث علق الإمام مقارنا سلوكيات الأفراد في أوروبا والشرق، قائلا: وجدت في الغرب إسلاما من غير مسلمين، ووجدت في الشرق مسلمين من غير إسلام»، وهذا الرأي هو دليل واضح علي أن الكثير من الأفراد في مجتمعنا ليس لهم من التدين إلا القشور الخارجية، وقد يكون تفسير هذا التعليق أنه وجد في أوروبا أناسا تتمسك بكثير من طيب أخلاقيات التعامل التي يطالبنا بها ديننا وسائر الأديان الأخري من الالتزام بالصدق في المعاملات والأمانة في العمل الذي يوكل للفرد عدم الكذب وتجنب النميمة والنفاق، حسن معاملة الكبار والصغار والمرأة والرفق بالحيوان، والعطف علي المحتاج والضعيف واليتيم، بينما لم يكن أهل الشرق حينذاك يلتزمون ببعض من هذه الأخلاقيات وغيرها. --- الآن وبعد مرور أكثر من مائة عام، فإن الصورة قد تبدلت، فبالنظر إلي سلوكياتنا سواء في المنزل أو الشارع أو العمل أو أي تجمعات اجتماعية أخري يؤكد مقولة الإمام محمد عبده بصورة أكثر قوة في كل مناحي حياتنا. ففي المنزل كثيرا ما تجد الأم تنصح ابنها عند ذهابه للمدرسة: «اللي يضربك اضربه»! كأنما المدرس المربي قد انتفي دوره في المدرسة، وكأنما الحق لا يؤخذ سوي باليد والعدوان وليس بالحسني والأخلاق الحميدة. والحديث عن التربية يذكرني بواقعة قيام إحدي الأمهات بإملاء ابنها وغيره من الطلبة إجابات الامتحان بالميكروفون من الشارع أمام المدرسة، وحين اعترضت أم أخري علي هذا التصرف الخاطئ غير التربوي كانت النتيجة تعدي الأم «ذات الميكروفون» ومجموعة من الأهالي المؤيدين لها علي الأم المعترضة، بما اضطرها للشكوي في القسم، ومن ثم تم عرض هذا الموضوع في التليفزيون. كذلك تذكرني هذه الواقعة بقصة قيام أحد المراقبين الملتحين علي امتحان مادة من مواد الشريعة في أحد المعاهد الدينية بإملاء إجابات الامتحان النموذجية من كراسة طالبة متفوقة لباقي الطالبات المنقبات وغيرهن وقبولهن فكرة الغش! كما قامت مراقبة أخري في ذات المعهد بإملاء الطالبات الإجابات، مع كل ما في ذلك من إساءة لتفسير الآية الكريمة «وتعاونوا علي البر والتقوي» صدق الله العظيم. فهل هذا هو نمط السلوك الذي يود أو يقبل بعض الأهالي غرسه في عقول أبنائهم «فلذات أكبادهم»؟! وهل هذا سلوك مقبول من أي شخص متدين وملتزم؟! انظر إلي أطفال المدارس كيف يتعاملون في المدرسة مع الأدوات المدرسية من مكاتب وكراسي وسبورات ودورات المياه.. وحين يخرجون من مدارسهم ظهرا، كيف يعتدون علي الأشجار القليلة في الشوارع، أو الحيوانات الصغيرة المسكينة التي يشاء حظها العاثر أن تقع في أيديهم، أو السيارات القابعة علي جنبات الطرق، معظم تصرفاتهم تنم عن عدوانية غير مبررة وقيم مفتقدة سواء في المنزل أو المدرسة أو حتي في دور العبادة. أما في الطريق إلي العمل فإن الجهد يهدر حتي قبل أن يصل الفرد إلي عمله ما بين معركة قيادة السيادة أو ركوب الميكروباص، وبعد أن كنا نسعد ببداية يوم جديد علي أغنية أم كلثوم «يا صباح الخير يللي معانا»، أصبح من الضروري قبل أن ننزل صباحا للعمل أن ندعو ربنا أن يعدي هذا اليوم الجديد علي خير قائلين: «استعنا علي الشقا بالله»، فقد ضاق الخلق وأصبح الناس أقل تسامحا تجاه بعضهم البعض. فلم يعد السلوك المتحضر جزءا من أبجديات تعاملنا مع بعضنا، فالكل في الطريق يتسابق ويلعن ويشتم وكأننا في أرض معركة، ولسنا في سبيلنا للسعي للرزق، ويزداد الأمر صعوبة في شهر رمضان الكريم، فتصبح الأخلاق أشد حدة والأصوات أعلي والاستعداد للخناق والعراك أسرع والقدرة علي التسامح أقل. ولم يعد شهر رمضان شهر التقشف والإحساس بالفقراء، بل تجد أن كثيرا من الأسر الميسورة وبعض الأسر المتوسطة تحول الشهر الفضيل لاحتفالية غذائية مبالغ فيها، وسهرات رمضانية لا طائل منها، مهملة جوهر الدين من العبادات ومساعدة المحتاجين والإحساس بالفقراء. أما في أماكن العمل فحدث ولا حرج، فالقلة القليلة هي التي تلتزم بأداء عملها بدقة وإتقان وأمانة لوجه الله، وجزء ولو صغير من وقت العمل ضائع ما بين مناقشات لا علاقة لها بالعمل، أو خلافات زملاء، أو مضايقات للعملاء أو المتعاملين أو عرقلة لسير العمل بحجج مختلفة، وكثيرا ما يرتبط خروج صاحب العمل لقضاء مصلحة بانصراف العاملين لديه عن إنجاز العمل بذمة وأمانة كما هو مفترض، ولن أتحدث هنا عن الفساد الذي يعد واقع انتشاره وحده انعكاسا لعدم التزام أخلاقي وديني يسود ما بين أبناء الطبقات الاجتماعية المختلفة. في اعتقادي أننا تمسكنا بالشكل في معظم تصرفاتنا وأهملنا جوهر الدين فيما يتعلق بالأخلاق والمعاملات، فطغت الشكليات المضحكة أحيانا والمبكية كثيرا علي الأخلاقيات القويمة والمعاملات السوية، فقد خلف هذا الإهمال أجيالا من الآباء والشباب والأطفال الهشة غير المتعلمة وغير المسلحة بأسس الأخلاق الحميدة، فكيف لهؤلاء الآباء الشباب أن يربوا أبناءهم علي أسس سليمة؟ إن فاقد الشيء لا يعطيه. --- لقد آن الأوان لأن نراجع أنفسنا ولنتجاوز إهمالنا في تنشئة أبنائنا لعقود طويلة، وليكن أحد أهم مشروعاتنا الأساسية هو تنشئة جيل من الشباب الطموح، المتعلم، المثقف والملتزم بأخلاقيات التعامل الراقية. وتحقيق هذا الهدف يتطلب أولا وأخيرا تضافر جهود علماء الاجتماع والنفس، والأسرة والمدرسة والمعلم، وأجهزة الإعلام ودور العبادة، في منظومة ترسم الخطوات الواجب اتباعها لتقويم وضع مقلوب يلزم تصحيحه حتي يكون عندنا أمل في أن الأجيال المقبلة سوف تتحمل مسئولية بناء مصر علي أسس سليمة. أستاذ الاقتصاد وعميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية