يصلح كتاب "مصر ضد مصر" للباحثة اللبنانية دلال البزري لأن يكون وصفا معاصرا لمصر مطلع القرن الحادي والعشرين، الكتاب أشبه بجدارية واسعة غنية بالتفاصيل المتشعبة من الفن إلي السياسة، ومن الدين وتمثلاته في المجتمع وتاثيراته عليه إلي المثقف ومشاكله (أمراضه؟). جدارية البزري تكشف عن الترهلات والغضون التي وسمت وجه مجتمعنا في لحظته الراهنة مقارنةً بأمسه الواعد، وتحاول رد الاعتبار للمعني الذي يُعد البطل الأول في الكتاب، حيث تحاول البزري البحث عنه بدأب، إلا أنها تُفاجأ بغيابه عن معظم السجالات المجتمعية التي ترصدها وتحللها، لأنه (أي المعني) يكون الضحية الأولي حين تسود الغوغائية، وحين يكف الحوار عن كونه كذلك متحولاً إلي مونولوجات صاخبة، متوترة، وبعيدة عن العقلانية. ما يميز كتابات البزري بالأساس أنها تكتب من موقع المراقب اللامنتمي وبالتالي غير المنحاز، الأمر الذي يمكنها من المحافظة علي رؤية عقلانية بعيدة قدر الإمكان عن التشوش الذي تسببه العواطف والأهواء. وهي حين تتصدي لرصد ظاهرة ما تقاربها عبر تفاصيلها البسيطة والهامشية التي قد لا ينتبه إليها الآخرون، وتخرج من هذه التفاصيل البسيطة بتحليلات ونتائج خافية عن عيون كثيرة شوّش عليها الاعتياد. هذا الحوار كان من المفترض أن يجري منذ عام، تحديدا بعد صدور الكتاب مباشرة، غير أن انتقال دلال البزري للإقامة في بيروت، وعدم معرفتي بوسيلة اتصال بها هناك، عطله كثيراً. وفي النهاية تم عبر البريد الإلكتروني الأمر الذي يعيق إمكانية الأخذ والرد التي يتيحها التحاور وجهاً لوجه. سألتها في البداية: كتابك الأخير "مصر ضد مصر" يُظهر أن هناك "مصران" إحداهما ضد الأخري، لكن يخيل لي أن الأمر أكثر عشوائية وفوضي، حيث توجد أكثر من صورة لمصر وكل منها تصارع الأخري وتتقاتل معها. من واقع تجربتك، كيف يمكن لعالم الاجتماع مقاربة مجتمع متناقض ومتعدد كهذا من دون الوقوع في فخ التعميم؟ "المصر" الاولي المقصودة في عنوان هذا الكتاب هي مصر الماضي، القريب والمتوسط، المضيافة الرائدة المنتجة المرحّبة الطيبة الواعدة بمستقبل زاهر. اما "المصر" الاخري المقصودة فهي مصر التي نعرفها الآن، كما تصِفين وجها من أوجهها في سؤالك. من جهة أخري، المقاربة السوسيولوجية الراهنة لم يعُد لها وصفة أكاديمية جاهزة لمقاربة مصر. مصر هائلة، شاهقة، موغلة في الذاكرة التاريخية. مصر معقدة ومركبة ربما أكثر من أي بلد سواها، وتغيراتها ليست كلها ظاهرة علي الملأ، وإن طفت علي سطحها النتائج الدراماتيكية، وغالبا الكارثية، لهذه التغيرات. أميل الي مقاربة غير شمولية لمصر. كأن تمزجي الملاحظة والوصف والاحصاء (إن وجد) والتحليل والجزئيات والفرديات. وكل هذا الجهد محصلته الاخيرة قطعة من "البازل" للصورة الضخمة. أو فلنقل انه جانب من جوانب مصر. يوجد رصد لعدة أنواع من المثقفين مثل: المثقف التليفزيوني، والمثقف الندواتي، وذاك المتملق لوعي العوام، والأهم والأخطر الظلامي المتخفي في ثوب الاعتدال. هل هؤلاء مسؤولون عن الشيزوفرانيا التي يعاني منهم مجتمعهم أم أنهم مجرد نتاج له؟ ولماذا من وجهة نظرك لم يعد المثقف عاملا مؤثرا في التغيير؟ مثله مثل أي انسان، المثقف مسؤول وهو نتاج مجتمعه في آن معاً. لا فصل اكيداً بين الحتمية الاجتماعية والمسؤولية الفردية. النقاش دائما يدور حول درجة تأثير أحدهما علي الآخر. لكن الفرق بين المثقف وبين أصحاب الأدوار الأخري، أن المثقف يُفترض أنه يتمتع بوعي مختلف. الوعي أداة ينفرد بها، والوعي هو الذي يوجب عليه التغلّب علي الحتمية ويحمّله مسؤولية مضاعفة. أما أن لا يعود للمثقف تأثير أو دور، وخاصة في التغيير، فهذا لأن الثقافة نفسها انعدم دورها، ولأن التغيير ايضا صار إشكاليا. وإن حصل، فلا يعدو تقهقراً عما كان. اعتبرتِ قضية هند الحناوي نقطة تحول تاريخية لجهة دخول العلم ممثلا في تحليل ال"دي إن إيه" طرفا أساسيا فيها، ولاختلاف مسلك هند ووالدها عن المعتاد في مثل هذه القضايا، لكن هل تعتقدين أن هذه القضية أسهمت أو قد تسهم علي المدي الطويل في تغيير مجتمعي ما أم أنها مجرد حالة فردية؟ قضية هند الحناوي من نوع القضايا ذات التأثير البعيد وغير المرئي. إكتشاف الDNA فتح باب إنجلاء الكذب الذي يتلطي خلفه آلاف الرجال الناكرين لأبوتهم، أو العدد الأقل، ربما، من النساء الخافيات سرّ أمومتهن. سيف ال DNA سوف يغير سلوكهم بحيث يخترعون طرقاً اخري، أكثر إتقاناً، للضحك علي بعضهم البعض. كتبتِ انه عندما كان "جسد النساء عاريا، علي ما يقال، كانت له حرمته الخاصة. لم يكن الاعتداء عليه هوساً عاماً. أما الآن وبعدما غطي الجسد الأنثوي منعا للفتنة، وصار الحجاب فريضة عادية والنقاب فريضة محمودة، يتعرض الجسد الأنثوي لاستباحة غير مفهومة".. من وجهة نظرك ما الأسباب وراء هذه المفارقة؟ تكمن المفارقة في كون الجسد الانثوي الواقعي المستور يتعايش مع الجسد الانثوي المثير المعروض علي الشاشة، في الاغنية الكليبية خصوصا. وفنانات الكليب في مقدمة كل الفنانين، نجمات النجوم... وتكمن المفارقة أيضا في الرفض اللاواعي لوجود كل هذا العدد من النساء في المجال العام، فيما كان خروجهن في الماضي مرحّباً به، بنفس درجة الترحيب بالحداثة. وهذا الرفض لا يعود فقط الي سيطرة الايديولوجية الدينية المتطرفة علي الفضاء الشعبي والنخبوي علي حد سواء. بل أيضا إلي عودة تشييء المرأة، وإنتشار عدواه... حتي في الاوساط "المتنوّرة"، أو "الليبرالية". فمتي يتكلم هؤلاء عن امرأة، أية امرأة، ولا يكون السؤال الملحّ: "هل هي حلوة؟"؟ ترفضين الرأي القائل بأن الحجاب هو في النهاية حرية شخصية انطلاقا من أن هذا "تجاهل صارخ للضغط الهائل الممارس من أجل الحجاب والنقاب من قِبل المجتمع والأب والأخ علي السيدة والفتاة"، هل يعني هذا رؤيتك للنساء كضحايا بشكل مطلق فيما يخص هذه النقطة؟ ألا توجد "أصوليات" وظلاميات من النساء أيضا؟ وألا توجد من ترتدي الحجاب عن اقتناع ؟ المرأة جلاد وضحية. اليوم اكثر من اي وقت مضي، تقف المرأة ضد بنات جنسها، أو ضد أية فكرة تؤازر تمكين بنات جنسها، إعتقاداً منها أنها بذلك إنما تحمي نفسها أو بنات جنسها. الحجاب عن اقتناع: طبعا موجود. ولكن أي اقتناع؟ علينا أخذ "الاقتناع" علي الدرجة المطلوبة من العمق. كيف حصل الاقتناع داخليا؟ هل جاء الاقتناع من محيطها، أو من خارجه؟ هل "هبط" عليها الاقتناع من غير تاثيرات متنوعة الشكل والمصدر؟ واذا كان الموضوع موضوع اقتناع خارج عن سياقه، فلماذا لم تتحجب النساء قبل هذه العقود الثلاث؟ لماذا جاء الحجاب تصاعدياً؟ وفي هذا المناخ الثقافي الديني بالذات؟ كيف صعد الحجاب من الطبقات الفقيرة الي الأيسر منها ثم الأيسر... حتي بلغ نجوم الشاشات. محض صدفة؟ كل هذا؟ ثمة اتفاق طبعاً علي أن هناك تصاعدا للتيار السلفي في العقود الأخيرة، لكن بخصوص مسألة الحجاب، أري أن معظم من يتناولون هذه القضية، يرونها فقط في بعدها الديني، ونادرا ما يلتفت أحدهم للبعدين الاجتماعي والاقتصادي لها، فمفهوم العيب عادة ما يتفوق علي مفهوم الحرام لدي الكثيرين خاصة في الريف بحيث يتحول الحجاب ومعه الكثير من ظواهر التدين إلي عادة اجتماعية أكثر منها فرض ديني، أيضا ترتدي الكثيرات الحجاب في الطبقات الفقيرة لأنه "أوفر" اقتصاديا. ما رأيك؟ مفهوم "العيب" أصبح من التاريخ. الشيوخ المسيطرون علي عقولنا لم يعودوا يأخذون به، بعدما اصبح المجتمع بأسره يستشيرهم في كبائره وصغائره. فرضوا مفهوم "الحرام" بدلا منه، لأنه أكثر شرعية من مفهوم "العيب" برأيهم، وأكثر ديمومة منه. "الحرام" يستمد شرعيته من عند الله، الثابت، فيما "العيب" يستمد شرعيته من المجتمع، المتحوّل. من جهة أخري، لم ألحظ ناحية "إقتصادية" للحجاب، خصوصا وسط بين الشابات من النساء، إلا اذا كن عاملات وفقيرات وكادحات. لكن خارج هذه الحالة أري تكلفا اقتصاديا و"فنيا" كبيرا في الحجاب، خاصة بين الشابات: الأقمشة، الألوان المتناسقة مع الثياب، التقليعات المختلفة، السعي الي التفرّد عن بقية النساء... المحجبات. حضرت فرحا لمحجبات أمضينَ وقتا مع التي تعمل لهن "موديل" الحجاب، هو أطول من الوقت الذي تأخذه السافرات للتزّين عند صالون حلاقة عادي... وأكثر تكلفة وتكلفا! أشرتِ إلي حادثة اعتبرها مهمة جدا، هي لجوء احدي الحركات المعارضة من غير الإسلاميين إلي طقس غيبي ينتمي إلي الدين الشعبي هو "كنس عتبة السيدة والدعاء علي الحكام الظالمين"، هل تصنفين هذا الحدث ضمن تملق وعي العوام، أم أنه يدل علي وعي مثقل بالغيبي والخرافي؟ هناك الاثنان. وإن بدرجات متفاوتة. نعم، الحركات الاحتجاجية تحاول دائما الضرب علي النقاط "الضعيفة" للعامة. تنزل اليها لتجنّدها وتكسب تأييدها وحماستها. وإن خَذَلها العوام في غالبية الاحيان. ولكن إغراء الغيبية قائم أيضا. خاصة في ظل المناخ الديني الذي نشهده. تجدين أناساً من عتاة الليبرالية او العلمانية، ومع ذلك لهم إيمانات غيبية قوية، ليس في الطقوس وحدها، بل في آلية التفكير وطرح الحلول كذلك. كتابك "السياسة أقوي من الحداثة" أزعج الكثيرين وقت نشره، لدرجة أن البعض رأي أن الشهادات مختلقة، ما تفسيرك لهذا الانزعاج؟ هل يعود في جزء منه إلي أن الشهادات المقدمة خدشت الصورة المشتهاة عن مصر لدي كثير من المصريين؟ - الانزعاج من صورة سلبية لمصر، أصبحت ردة فعل تقليدية ومكرّرة. لا يمر يوم من دون أن نسمع أو نقرأ شيئا من هذا القبيل. غير المطمئن في الامر أن مثقفين "كباراً" لا يتوانون عن اللحاق بهكذا ركبْ. والانزعاج هذا يكون مضاعفا عندما تصدر هذه الصورة، أو هذا المشهد، عن باحث، أو كاتب عربي. ففي حين تتصدر كتابات الغربيين السلبية عن مصر الصحف المصرية اليومية، وبلهفة غريبة، كأنها تحقق سبقاً صحافياً، فإن الموقف يكون النقيض تماما لو صدرت كتابات بنفس الرؤية عن كاتب عربي؛ ولبناني خصوصا... فتكون ردة الفعل كما تصفين في سؤالك. وأكثر ما أتذكره من ردود الفعل علي كتابي "السياسة اقوي من الحداثة"، مقال لأحد المرموقين من الكتاب المصريين، يقول فيه: "لبنانية...!؟ وتريد ان تكتب عن مصر...!؟". وكأن في "اللبنانية" شائبة تحول بينها وبين الكتابة (أو البحث) عن مصر. وددتُ لو اعرفها، هذه الشائبة... علي العموم، ليتني اختلقتها هذه الشهادات. في هذه الحالة سأكون روائية من غير أن أعلم!