قلت لنفسي وأنا أتابع بشغف بالغ الحلقات الأولي من مسلسل الجماعة: ما أروعك يا «وحيد».. لقد حققت حلما دراميا يا ليته كان قد تحقق منذ ثلاثين عاما. لكن لأن.. «الجحيم هو الآخرون» - كما قال «سارتر» - فقد اتصل بي مثقف «ريشاوي» - نسبة إلي مقهي «ريش» - بحيث كان يعيش مع رفاقه «الريشيون» «محفلط» «مزفلط» كثير الكلام.. شديد الثقة بأنه الأعلم ببواطن الأمور.. الأجدر بمعرفة خبايا النفوس.. الأعظم في احتكار الحقيقة واستخلاص الحكمة من دوائر فوضي الزمن والتاريخ.. فنبهني بفطنته المتقدة وحنكته السياسية السفسطائية أن علي ألا أطمئن إلي نوايا ذلك المؤلف الألعوبان.. فهو فلاح ماكر.. ومناور خبيث.. ومراوغ أريب.. يلعب دورا مزدوجا فيتظاهر بمعاداة الإخوان وكراهيتهم مغازلا الدولة والجهات الأمنية بينما هو في الحقيقة يصادق الإخوان ويدافع عنهم.. كما أنه مبهور بشخصية «حسن البنا» الآسرة والشديدة الجاذبية والتي تتمتع «بكاريزما» رسخها وزاد من ألقها وسطوعها من خلال تجسيده لها علي الشاشة.. إلا أنه ما يلبث بعد ذلك أن ينقلب في براعة محسوبة وينحاز إلي الدولة والأمن فيدين الجماعة ويدين ممارساتها وتوجهاتها وعنفها ودمويتها.. أي أنه يلعب دور «دكتور جايكل» و«مستر هايد».. بل إنه يتقمص دماغ «حسن البنا» نفسه.. مستخدما أساليب المداهنة والتلون والخداع وتبديل الأقنعة، حيث أرسل في أعقاب اغتيال «الخازندار» رسالة إلي الملك يستعديه فيها ضد النقراشي.. مردداً.. «إن الإخوان يلذون بعرينكم وهو خير ملاذ.. ويعوذون بعطفكم وهو أفضل معاذ ملتمسين أن تتفضلوا جلالتكم بتوجيه الحكومة أو بإعفائها من أعباء الحكم ليقوم بها من هو أقدر علي حملها».. ثم لم يتورع بعد ذلك بثلاثة أيام أن يزور ديوان وزارة الداخلية ليمتدح «النقراشي» ويقول عكس ما قال للملك تماما، مؤكدا أنه قرر إنهاء علاقته بالسياسة وهو علي يقين من نزاهة «النقراشي» باشا وحرصه علي خدمة وطنه وعدالته في كل الأمور..يتضح إذا لمن يقرأ ردود الأفعال التي أحدثها المسلسل أن هناك شخصين مختلفين يمثلان «حسن البنا» خلقهما «وحيد حامد».. لا شخص واحد.. الأول تقي ورع صاحب رسالة دينية سامية.. بل هو قديس ملهم من قبل الله سبحانه وتعالي.. بالإضافة لأنه مفوه يخطف الأسماع ويستولي علي العقول والأفئدة.. والشخص الآخر هو شيطان رجيم وشرير قاتل يهدد السلام الاجتماعي ويدبر الاغتيالات ويزهق الأرواح الآمنة ويشكل خطرا داهما ضد الدولة المدنية.. الشخصية الأولي التي يراها من يهاجمون «وحيد حامد» يروج لها الإخوان.. مدعين أن المسلسل زاد من أهمية وقيمة وشعبية «الجماعة» وتسبب في زيادة نسبة مبيعات مذكرات «حسن البنا» وأنه جاء في مصلحتهم وأفادهم من حيث آراء المؤلف أن ينكل بهم عملا بالآية الكريمة «يمكرون ويمكر الله». وإذا كان من المنطقي أن يلجأ الإخوان إلي التمويه والتغطية علي كشف «وحيد حامد» لعوراتهم بالصوت والصورة، فإنه لمن المدهش حقا - وهو ما أصابني شخصيا بالذهول- أن يتفق رأي حزب التجمع ممثلاً في «د.رفعت السعيد» معهم مؤكدا: «مهما فعل» وحيد حامد فقد ترك الأثر الكارثي في العقل المصري.. فهذا المسلسل يعرض في شهر رمضان، حيث تعلو روحانية المسلم، فيأتي المسلسل لينشر تجارة التأسلم في شهر روحاني. فلو جئنا بعدد ساعات الخطب المضللة من وجهة نظري والملهمة من وجهة نظر العامة من كلام «حسن البنا» ستجدها طويلة موحية بأن هؤلاء هم المؤمنون». ومعني كلامه أن المسلسل يشاهده جمهور عريض من المتخلفين والجهلاء، وبالتالي فإن المسلسل يضر بهم حيث إنه موجه إلي صفوة المثقفين الذين يدركون الفرق بين الظاهر والباطن.. المباشر وما بين السطور.. الحقيقي والزائف. وفي هذا الاستعلاء السخيف المتحذلق دعوة مضحكة وأكثر سخفا للترويج للمسلسلات التافهة التي عجت بها شاشة رمضان الدرامية هذا العام.. كما أنها تعتبر تصنيفا غريبا للعمل الفني.. هل هو عمل رمضاني أو غير رمضاني «عموما هذه إضافة كنت أجهلها فمعلوماتي أن الدراما لها شقان.. تراجيدي وكوميدي فقط.. وليس لها شق ثالث رمضاني». إن اليسار إذا والإخوان - ويا للعجب - يتفقان أن مسلسل «الجماعة» يعد أكبر دعاية تاريخية للجماعة في تاريخها كله وأنه لو أنتج الإخوان - كما يري د.أحمد رائف مؤرخ الجماعة - أنفسهم عملا فنيا عن مرشد الجماعة فلن ينجحوا مثلما نجح هذا العمل.. كما يري الأستاذ «محمود التهامي» أن اهتمام الرأي العام بالمسلسل يرجع بالدرجة الأولي إلي قيمته الفنية الكبيرة.. وهو الجودة العالية في الكتابة المبدعة والإنتاج الموفق في اختيار العناصر المناسبة لزمان المسلسل ومكان وقوع أحداثه.. والإخراج المتميز.. وكأن لسان حال الذين يروجون أن المسلسل جاء في صالح الإخوان هو يقول: «بالله عليك يا «وحيد» لماذا صنعت دراما جيدة».. منك لله يا أخي.. أما الحقيقة الساطعة التي يحاول المغرضون والموتورون والمتشدقون والسلفيون والظلاميون والحنجوريون والريشيون إغفالها بسذاجة مفرطة وغباء مستحكم.. هي أن «وحيد حامد» استطاع بشجاعة أن يزلزل الأرض من تحت أقدام الجماعة وأن يخلع عنهم الأقنعة ويزيل من علي وجوههم الأصباغ.. ويكشف عوراتهم وزيف دعواتهم بأسانيد موثقة وحجج دامغة وحقائق ثابتة لا تقبل جدلا أو سفسطة.. خاصة أن حوادث الاغتيالات التي عرضها المسلسل أتمت بالدقة في تفصيلات التآمر والتدبير ثم التنفيذ المتقن، حيث جسدها المخرج ببراعة ملفتة لتضرب أنصارهم في مقتل وتزيل عن وجوههم أقنعة الورع والتقوي. ولاشك أن «وحيد حامد» قد نجح نجاحا كبيرا في اختيار أسلوب السرد المناسب، فاستخدام «الفلاش باك» صنع تلاحما عميق الدلالة بين الشكل والمضمون.. الإطار والمحتوي لأنه حقق هدفين في منتهي الأهمية.. أولهما أنه أتاح له حرية اختيار الأزمنة القوية وإسقاط الأزمة «الضعيفة».. وثانيهما أنه أنشأ حوارا ومواجهة بين زمنين يجعل فيهما المقدمات تؤدي إلي النهايات.. والأسباب إلي النتائج.. وخلق توافقا فكريا بين الماضي والحاضر.. وجدلا حيويا متشابكا بين ما فات وما هو قادم في غايات الجماعة وأهدافها، بالطبع سوف يتم استثماره في الجزء الثاني من المسلسل ليثبت في النهاية أن التطرف والإرهاب أتيا من داخل عباءتهم.. أما الادعاء الساذج أن «الكاريزما» التي أسبغها المسلسل علي شخصية «حسن البنا» والتي تمثل خطرا داهما علي الأثر المطلوب تحقيقه من خلال المسلسل لأنه يجعل منه شخصية ساحرة خلابة آسرة تخلب العقول مما يشي بخطأ كبير وقع فيه «وحيد».. هذا الادعاء يدين مروجيه ويوصمهم بالجهل بفن رسم الشخصية الدرامية بأبعادها النفسية والاجتماعية والفكرية المختلفة.. ففي الدراما الجيدة لا يكتب المؤلف المبدع تفاصيل الشخصية انطلاقا من «حب» أو كره مسبق لها.. ولا يتخذ منها موقفاً أخلاقيا محددا.. ولايشرح لنا موقفه منها ولا يحثنا علي إدانتها أو محاكمتها وإلا تحولت إلي شخصية نمطية كرتونية بلا روح أو عمق. و«وحيد حامد» كاتب مبدع كبير، وليس من أولئك السطحيين الذين يحددون مسبقا إن كانت الشخصية «طيبة» أم «شريرة».. وما كان أسهل عليه أن يرسم شخصية «حسن البنا» - كما تعودوا في الدراما الرديئة - فظاً متجهما قاسيا يرفع حاجبه الأيمن ويجحظ عينيه فيتطاير الشرر منهما.. ويصرخ في انفعال هادر فتفر العروق من رقبته.. ويصبح نموذجا شريرا يدعونا جميعا إلي كراهيته والنفور منه.