ربما بحكم إدمان جلد الذات، أو لمرض وراثي مجهول في چيناتنا، فإن تعبير «العصر الذهبي» لا يطلق في مصر علي الحاضر أبداً أياً كان هذا الحاضر: ملكياً أو جمهورياً.. اشتراكياً أو انفتاحياً.. شمولياً أو ديمقراطياً، فالحاضر دائماً «أسوأ» وفق القاعدة التي تتعاطها النخبة والإعلام ومن خلفهما عموم الناس.. والماضي - أياً كان - هو «العصر الذهبي» الذي ولي ولن يعود، والذي يجب أن نعيش في مندبة جماعية بعد غيابه ولا نملك إلا أن نترحم عليه في سرادقات يأس شعبية لا تنفض منذ بدايات القرن العشرين وحتي الآن، أي علي مدي ما يزيد علي مائة عام، فكل عهد - وفق القاعدة السابقة - أدني مما سبقه وكل حاكم أسوأ ممن جاء قبله وكل جيل أقل قيمة وإمكانيات من الجيل الذي مضي، وهكذا تبدو مصر من بين كل بلاد الدنيا وكأنها محكوم عليها حكم مؤبد بالانهيار والتضاؤل والخسارة لدرجة لابد أن تسأل نفسك معها: إذا كانت هذه القاعدة النخبوية التي تلقي قبولاً شعبياً مستمراً هي قاعدة حقيقية، فكيف مازلنا نعيش إذن؟ بل كيف مازالت مصر موجودة أساساً علي خريطة العالم مادامت تسير من سيئ إلي أسوأ ومن انحدار إلي انكسار إلي انهيار. والأكثر عبثاً أنك حين تطرح السؤال: كيف إذن مازلنا نعيش؟ تأتيك الإجابة الخالدة: «إنها معجزة».. وعليك أن تكتفي بهذا التفسير الميتافيزيقي وتصدقه وتعيش في ظله (!). ووفقاً لهذه القاعدة التي نتوارثها بكفاءة، فإن النخبة التي تقود والإعلام الذي يسود حالياً يدفعان منذ سنوات للحفاظ علي تراثنا الخالد في اليأس والشعور بالضآلة، فالزمن الذي نعيشه لابد أن يكون هو الأسوأ في السياسة والاقتصاد والفكر والعلم والفن، ولا أقول الدين لأن المشتغلين به وصلوا إلي الحد الأقصي في خلطه بالسياسة وبالتالي فليس من مصلحتهم كشف أي انهيار في حالة المجتمع الدينية.. وخلف هذه النخبة وهذا الإعلام تمضي الحالة الشعبية في أننا نعيش زمن الفقر الأشد والأخلاق الأردأ والسياسات الأسوأ واللاعلم واللاتعليم واللاإنجازات.. زمن الأقزام في السياسة والصحافة والفكر والفن وغيرها.. لا يعيش بيننا كبار ولا تسود فينا قيمة ولا يحدث تطور، نحن وفق هذه القاعدة وصلنا إلي ما دون القاع في كل شيء ولا أمل في أي شيء. وإذا كان من المنطقي بالنسبة لأي عقل سوي وأي نفس سليمة أن ما أقوله هنا ليس معناه أننا نعيش زمناً وردياً بالقطع، إلا أنني في المقابل أري أن استمرار واستمراء تعاطينا لقاعدة الماضي الأجمل والحاضر الأسود وصل الآن إلي حدود الكارثة الحقيقية، لأن سطوة وطغيان وانفجار الإعلام يجعل انتشار هذا الاتجاه وقدرته علي التأثير قاتلة، سواء كان هذا ممن يفعلون ذلك عن وعي لحسابات سياسية أو عن جهل وضيق أفق ومسايرة لتيار صاخب. وفي يقيني فإن المجتمع المصري، إلي جانب ميله الفطري للحنين إلي الماضي ومرضه الوراثي في الندب عليه والسجن داخله، هو مجتمع في حالة تشوش لا عجز، وفي حالة شحن مكتوم يخطئ من يتصور أنه إذا انفجر سينفجر فوضي وهدماً، بل هو في تقديري يحتاج إلي نوع من تنزه النخبة عن مصالحها الضيقة وحساباتها الصغيرة، بحيث تستطيع أن تفتح أمام هذه الحالة من الشحن الشعبي أبواباً تفجر طاقاتها المحبوسة إيجابياً لا لصالح نظام أو حكومة بل لصالح مجتمع لابد أن يعيش مشدوداً إلي الأمام لا إلي الخلف ولا إلي حيث المجهول. إن طاقة إيجابية من هذا النوع تتفجر أمامنا الآن بكل وضوح ويجب أن ننتبه لها جيداً ونحلل نتائجها التي نراها هذه الأيام أمامنا علي مدار 24 ساعة يومياً.. وهي مثال نخطئ إذا تعاملنا معه علي أنه مجرد تجليات في مجال الفن وأعني به الأعمال الدرامية التليفزيونية التي يتابعها الملايين بشغف علي جميع القنوات الرسمية والخاصة.. المصرية والعربية. إن النسبة الأغلب من تلك المسلسلات تتجاوز حدود الدراما الاجتماعية المسلية.. نحن نري أمامنا في مسلسلات مثل «الجماعة» و«أهل كايرو» و«قصة حب» و«حكايات بنعيشها» و«الحارة» و«بالشمع الأحمر» و«شيخ العرب همام» وغيرها نقداً ناضجاً ورصداً ذكياً لتاريخ مصر وحاضرها دون انحيازات فجة أو رؤي موتورة أو انسحاقاً أمام الماضي أو تسويداً للواقع دون عقل أو ضمير. يحدث هذا بدرجة مدهشة من الحرية تدعو للثقة والتفاؤل وبدرجة من النزاهة تدعو للاحترام وبدرجة من الفن تدعو للفخر وبدرجة من إبداع كتابها يجب أن تدفعنا جميعاً إلي أن نملك شجاعة وثقة في أنفسنا تجعلنا ندرك أن كباراً كثيرين يعيشون بيننا وأن هذا هو «العصر الذهبي» للدراما التي لا يمكن أن تظهر إلا في عصر ذهبي للحرية وعصر ذهبي لنوع لا يستهان به من الصناعة. ونوع من التأثير المصري في المنطقة العربية يجب ألا نفرط فيه وأن نتحمل مسئولية مضمونه.