..ولكن ما قيمة كل هذا التاريخ؟ سؤال أثار عجبي في البداية؛ إذ كنت أحسب أن إجابته قيلت صراحة بضع مرات، وضمنا عشرات المرات، أثناء قراءتنا لكتاب «خراب مصر»: نحن لا نقرأ تاريخا، بل نحاول فهم الحاضر بالعودة إلي البدايات الأولي لهذا الحاضر. ذلك أن البدايات تكون أبسط وأوضح. فضلا عن صعوبة فهم أي حدث عند متابعته من منتصفه، فما بالكم ونحن الآن لسنا في منتصف الحدث، بل في أمتاره وربما سنتيمتراته الأخيرة. ثم إن ما نعرضه ليس «سيرة ما مضي» لكنه «الحلقة الأولي» من مسلسل نحن أبطاله، وبلادنا مسرح أحداثه، وقصته هي ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا أيضا، وأحداثه مستمرة. لهذا تعجبت شيئا ما حين سمعت السؤال في البداية. ثم وجدت فيه بعض المنطق، أو وجدته متوافقا مع المنطق السائد عندنا. ذلك أن معظم الناس في شرقنا المتخلف أصبحوا كسالي؛ وتلك علة أنه أصبح متخلفا. والكسالي لا يبحثون عن الحقائق بعيونهم، ولا يميلون إلي تمحيص الأفكار بعقولهم، بل يمارسون هذا وذاك بآذانهم. يكتفون بظنون السماع علي يقين الرؤية، ويفضلون ما هم فيه من راحة، علي ما يمكن تحقيقه من نهضة. أليس من المألوف أن يسألك أحدهم: كم الساعة؟، بينما نظرة واحدة إلي شاشة الهاتف الذي يمسكه في يده تمنحه إجابة سريعة ومؤكدة؟ ألم تعد الدروس الخصوصية هي القاعدة حتي في الجامعة حيث يجلس الطلاب، بالعشرات أحيانا، ليسمعوا ما يجب أن يقرأوه، ويلقنوا ما ينبغي أن يفهموه؟ إن معرفة «العين والعقل» معرفة محايدة، تعطي كل باحث بقدر ما يبذل من جهد، ثم إنها تمنح صاحبها الحرية، وتجعله يكتشف ما يميز ذاته في إطار المجموع، أما معرفة «السماع» فهي معرفة القطيع، معرفة اكتب ما يملي عليك، وافهم ما يملي عليك، وأسوأ ما فيها أن شخصية ذلك الذي يملي تظل محجوبة لا عن العيون فقط، بل عن العقول في المقام الأول. الكل يكتب، ويردد، متوهما أنه هو الذي ابتكر، أو علي الأقل هو الذي اقتنع بما يكتب ويردد، مع أنه لم يبتكر ولم يقتنع، بل هو من الأصل لم يفكر حتي يبتكر، ولم يناقش حتي يقتنع، لكنه «سمع» فتوهم أنه «عرف»، ثم راح يردد أوهامه هذه، غافلا عن الكيان الكبير الذي صبها في رأسه. .. ولكن ما قيمة كل هذا التاريخ؟ سؤال من المنطقي أن يطرحه البعض، مادمنا مع كتاب «خراب مصر» ل«روتستين» نقرأ لا نسمع، ونفكر لا نلقن. خذ مثلا «إسماعيل صديق» الشهير بالمفتش، الرجل الذي تناقلت سيرته وانتبه ل«تناقلت» هذه من فضلك أقلام كثيرة ألصقت به كل نقيصة، كأنه كان السوء كله، أو كأنه كان السيئ الوحيد في عصره، مع أن الرجل كانت له فضيلة كبري، لا «يجرؤ» علي إنكارها أحد، لكن لا «يجهر» بإقرارها أحد، وهي صموده الحديدي في وجه مساعي بريطانيا لاحتلال مصر، مع قبولها بتقاسم بعض ثروة بلادنا مع فرنسا، علي نحو ما تحقق فعلا. هذه الفضيلة سكت عنها تقريبا كل مؤرخينا وكتاب تاريخنا، وبينهم القوميون والناصريون، مع أنها واضحة كالشمس، وحسبك أن الرقابة المالية فرضت علي مصر عبر المراقبين جوشن وجوبير بعد 8 أيام لا غير من اختفائه (اختفي 10 من نوفمبر، وفرضت الرقابة 18 من نوفمبر 1876م) مع تحليلات صحفية وتصريحات رسمية خرجت في بريطانيا نفسها تؤكد أن التخلص من «المفتش» كان عتبة استسلام مصر، المستمر حتي اليوم، للهيمنة الغربية. ولأن «معرفة السماع» هي تلقين من دون تفكير ولا تمحيص، والآلة الإعلامية الغربية الجبارة كانت تعمل بكل طاقتها علي تلويث سمعة الرجل حتي بعد موته فإننا نجد مؤرخا مواليا لأسرة محمد علي، هو «إلياس الأيوبي»، يسهب في وصف «المفتش» بأنه كان سكيرا، ويقول مرة إنه انتحر بشرب كأس شمبانيا، مع علمه بأنه مسموم (هكذا!) ومرة أخري يشير إلي أنه مات صريع الإدمان. مع أنها تهمة تتناقض جذريا مع اتهام آخر روجه الإعلام الغربي أيضا، وهو أن «المفتش» كان متعصبا دينيا، أو «متطرفا» وربما «إرهابيا» حسب التعبير الذي يشيعه الآن الإعلام الغربي نفسه. ويدحض «روتستين» هذا الاتهام حيث يقول: «اتهمت وكالة رويتر في تلغراف (أي في خبر من أخبارها) نشرته جريدة التايمز في 13 من نوفمبر (1876) بأنه «يظهر الخديو مظهر من يبيع مصر إلي المسيحيين ويثير شعور القوم الديني علي الأمور التي اقترحها (المراقبان الماليان) جوشن وجوبير». إن من عادة الأوربيين المفسدين إذا ما ثار شعب إسلامي علي مشروعاتهم الاستغلالية أن يرموا ذلك الشعب بالتعصب الديني». هذا ما قاله «روتستين» الشيوعي اليهودي ليتواني الأصل بريطاني ثم سوفيتي الإقامة، ولهذا قلت إنه «عاشق الحقيقة». وهذا ما لم تقله، ولم تستوعبه، ولم تقره ثلة السماعين والملقنين، لأنهم كسالي علي أضعف الإيمان! ثم إن «روتستين» يعود لكشف المزايدة المتهافتة ب«التعصب الديني»، وذلك عند استعراضه واقعة اغتيال «بطرس باشا غالي» ورفض مفتي مصر أن يصدق علي الحكم بإعدام «إبراهيم ناصف الورداني»، الذي أطلق الرصاص علي رئيس النظار «بطرس باشا غالي» في 20 من فبراير 1910، لأن الأطباء اختلفوا حول ما إذا كان الرصاص الذي أطلقه هو السبب المباشر للوفاة أم خطأ الأطباء المعالجين. يقول «روتستين»: «لقد رفض المفتي الأكبر لأسباب شرعية أن يصدر الفتوي الضرورية في المصادقة علي الحكم بالإعدام، فما كان من الصحف الإنجليزية المصرية إلا أن مسخت (أي شوهت) المستند الذي سيقت فيه أسباب الرفض؛ لتوهم أنه بمقتضي الشريعة الإسلامية لا يحكم بالموت علي من قتل مسيحيا. وبعد أن شاعت تلك الصورة الممسوخة، وعملت عملها في إثارة الحفيظة الدينية في انجلترا، أرغم السير إدوارد جراي (إدوارد جراي: وزير خارجية بريطانيا من 10 من ديسمبر 1905 إلي 10 من ديسمبر 1916) علي إظهار المستند الأصلي (وذلك ردا علي سؤال ألقي في مجلس العموم في 7 من يوليو 1910) فإذا هو مستند عادي، اتبعت فيه أوضاع اصطلاحية، ولا يشير مطلقا إلي عقيدة المقتول. ومهما كانت نزعة المفتي السياسية، فإن فتواه علي كل حال قد تجوهلت، وأعدم الورداني سرا اتباعا لخطة وضعها اللورد كرومر علي أثر فضيحة دنشواي». لم تكن فتوي المفتي هي كل ما تم تجاهله، فقد تجاهلت المحكمة اعتراض دفاع «إبراهيم ناصف الورداني» علي وجود «المستر بوند» بين أعضاء المحكمة، مع أنه كان أحد قضاة محكمة دنشواي، التي كان «بطرس غالي» من قضاتها هو الآخر، ومع أن «الورداني» قال عند التحقيق معه إن مشاركة «بطرس» في هذه المحكمة التي أعدمت وعذبت فلاحين مصريين كانت من دوافع قتله، وبقية الدوافع هي: توقيع «بطرس غالي» اتفاقية الحكم الثنائي للسودان في 19 من يناير 1899، وهي الاتفاقية التي جعلت بريطانيا نظريا شريكا لمصر في حكم السودان، وعمليا فقد فصلت هذه الاتفاقية السودان عن مصر، ذلك الفصل الذي تتوالي «فصوله» وتتواصل معاناة مصر منه. كما ذكر «الورداني» بين دوافع القتل توقيع «بطرس غالي» قانون النفي الإداري، الذي يطلق يد الاستعمار والحكومة العميلة في التنكيل بالوطنيين، في 4 من يوليو. ودوره في محاولة مد مشروع امتياز قناة السويس، ولو حدث لضاعت القناة من مصر نهائيا، وإهانته مجلس الشوري والجمعية العمومية. وكلها كما نري دوافع وطنية، لا أثر فيها للتعصب الديني، الذي لم يكن الحديث عنه أكثر من كذبة استعمارية، لكن كذبة مسموعة خير من حقيقة لا يراها الناس. وكان آخر ما ذكره «إبراهيم الورداني» من دوافع دعته لقتل «بطرس غالي» هو أنه، وفي 25 من مارس 1909، أعاد العمل بقانون المطبوعات القديم. والواقع أن ما حدث لم يكن إعادة، بل بعث قانون ميت ليصبح قيدا علي حرية الصحافة. حيث كان قانون المطبوعات وهو الأول في تاريخ مصر قد صدر موقعا من الخديو توفيق في 25 من نوفمبر 1881، لكنه لم يطبق، حتي كانت حادثة دنشواي، والدور الذي لعبته الصحف الوطنية في تنبيه الحس الوطني ضد الاستعمار، فطلب «اللورد كرومر» من رئيس وزرائه «بطرس غالي» إعادة العمل بالقانون، ليطبق في مصر وللمرة الأولي تشريع يقيد حرية الصحافة، ومن يومها والتشريعات تتوالي، حتي وصلنا إلي المادة 177 من قانون العقوبات، ونصها «يعاقب بالسجن مدة لا تتجاوز خمس سنوات كل من حرض غيره علي عدم الانقياد للقوانين أو حسن أمراً من الأمور التي تعد جناية أو جنحة بحسب القانون» وهي التي يحاكم بها «وائل الإبراشي» في الدعوي التي رفعها ضده «يوسف بطرس غالي». فهل هناك من لم يدرك بعد أننا نتحدث عن الحاضر بكل حذافيره، ذلك الحاضر الذي يبدأ تشويهه بتزوير التاريخ، ثم إصدار هذا التزوير في موسوعات مدفوعة الثمن؟