ل«يوسف إدريس» قصة بديعة هي.. «أكبر الكبائر» بطلها «محمد» شاب في الثامنة عشرة من عمره من هؤلاء الفلاحين الذين تطلق عليهم نساء القرية «الجدعان».. لا من الجدعنة ولكن من حداثة السن والعزوبية وخلو البال.. وهو مهما اشتغل في الغيط لا يتعب ومهما نام لا يستريح، ومهما أكل لا يشبع. في يوم صيف حار قضي كل صبحه يجري خلف حمار «القنادلة» الذين يعمل عندهم حاملاً نقلات السباخ إلي الغيط البعيد.. استبد به العطش فأسرع إلي بيت الشيخ «صديق» ليشرب من زير زوجته «أم جاد المولي» التي تطلب منه أن يرفع بلاص الماء الاحتياطي ويدلقه في الزير الذي انخفض ماؤه.. يحتك كوعه بطرحتها وذراعه بذراعها وفانلته بثوبها وساقه بساقها، وهي تقف إلي جواره أمام الزير وتمد يدها تريد انتزاع البلاص منه.. يقول «يوسف إدريس»: فجأة دق قلب «محمد» وكأن أحدهم ساهاه وقذفه فجأة في الترعة، فقد أحس- هكذا- أن «أم جاد المولي» امرأة.. وبدلاً من أن يمسك بأذن البلاص مباشرة.. لف ذراعه بلا خبث أو تدبر.. بالغريزة- وراء رقبتها- وقبض علي البلاص بقوة فأصبحت هي بقوة- أيضًا- في حضنه. -- المهم تنشأ علاقة محرمة بينهما فوق سطح منزلها، كما ينشأ ارتباط شرطي لدي «محمد» بين صوت الشيخ وهو يؤذن وبين رغبته في الاتصال بزوجته.. كان كلما سمع الشيخ «صديق» يؤذن أو يحيي مولدًا أو ليلة.. يترك ما في يده ويتجه إلي البيت، وبقفزة واحدة يصبح علي سطحه.. وهذا هو الأغرب كان يجد الشيخة «صابحة» هناك بنفس طرحتها البيضاء وكأنها وصوت زوجها علي ميعاد».. ويبرز «يوسف إدريس» خيانة الزوجة «بالطوفة» التي ألمت بالشيخ وجعلته يغالي في التدين وسهر الليالي في الموالد يذكر ويجعل من نفسه إمامًا للذاكرين.. ويصب عليها نقمته لأنها لا تصلي، فإذا صلت ظل يواصل نقاره حتي تصوم «الستة».. وهي قابلة علي مضض الأمر بكل الهلوسة التي اجتاحته وعلي تركه الأرض مهملة لا تجد من يعتني بها ويسقيها وعلي إهماله لها وللدار ولكل شيء وتفرغه لنوبات العبادة التي تبدأ مع العشاء ولا تنتهي إلا بعد الفجر حيث يصلي وينام للضحي ويروح منهم دور الماء في الساقية ويعطش القمح. وكلما تطور الشيخ في وصوله وانغماسه، كان «محمد» هو الآخر يتطور ويتهور حتي إنه كان يذهب إلي سطح البيت مرتين في الليلة.. أحيانًا أو حتي في النهار. حينما يقتل التعود الرغبة ويزهد «محمد» في «أم جاد المولي» ويقرر أن يتوب عن المعصية.. يبقي ما يشغله ويسأل عنه الأصدقاء هو: ماذا سيكون عقاب الآخرة.. يجمعون أنه سيدخل النار حتمًا ومعه «أم جاد المولي».. لكن «يوسف إدريس» ينهي القصة بتلك العبارة: «أكاد أضحك علي هاتف ساخر عربيد كالبلياتشو ينتصب أمامي فجأة، ويؤكد ويقسم أن الشيخ «صديق» هو داخل النار حتمًا ومن أوسع الأبواب». -- تذكرت تلك القصة الرائعة وأنا أتابع مأساة «كاميليا شحاتة» زوجة كاهن «دير مواس» التي هجرت منزل الزوجية عدة أيام عند قريبة لها بالقاهرة، وكانت تنوي ألا تعود لولا أن انقضت عليها يد الأمن وأعادتها صاغرة إلي قبضة الكهنة- وليس إلي بيتها- ثم إلي المجهول رغمًا عن إرادتها الحرة وسحقًا لحقوقها الإنسانية وخضوعًا لرغبة السلطة الدينية.. وعلي الرغم من أنها ليست كبطلة قصة «يوسف إدريس» قد خانت زوجها أو هربت مع عشيق- إلا أن الإدانة قد دمغتها زورًا بأنها خضعت لابتزاز وإغواء زميل مسلم لها.. كان الاتهام موجهًا- بقسوة وفظاظة- من زوجها نفسه الذي لم يتورع أن يطعن في شرفها ويستبيح عرضها وينحط بكرامته وكرامتها.. ويتنكر في لحظة لمذبح يسجد أمامه ورعًا وتبتلاً.. ولصلوات ابتهال وتضرع يتلوها تدعو إلي الصدق والتقوي والفضيلة وعدم الاغتياب: «من قال منكم لأخيه يا أحمق لا يستحق ملكوت السماوات.. ويناول المصلين سرًا مباركًا من أسرار الكنيسة المقدسة.. ويتلقي اعترافاتهم بخطايا ارتكبوها وعينه تدمع حزنًا وأسي علي ما آل إليه حال بشر ضعيفي الإيمان، تمكن الشيطان اللعين من إفساد قلوبهم وضمائرهم فيطلبون منه أن يصلي من أجلهم طلبًا للمغفرة. والكاهن يقدم علي هذا الفعل القبيح بدم بارد لينفي عن نفسه شبهة إساءته لمعاملتها وضربها وإهانتها وانصرافه عن رعايتها فوقته كله مكرس لرعاية أبناء كنيسته. لكن المجتمع السلفي المغلق المعادي للمرأة بحكم الموروثات والمسلمات والتقاليد البالية.. وبحكم أنه يسبغ علي زوجة الكاهن صفة «أم الشعب» التي تلقي علي كاهلها وهي في ريعان شبابها لتكبلها بأثقال تدمر المشاعر وتزهق النفس وتحولها إلي كائن خشبي بلا روح إنسانية حقيقية. هذا المجتمع يدينها علي الفور دون أن يفكر أو يتريث أو يتيقن من حقيقة الأمر.. ويوافق فورًا علي الانقضاض عليها وتجريسها ثم جرجرتها ذليلة مهانة إلي سجن انفرادي تغيب فيه بالمهدئات المهلكة للعقل والجسد، وتحاكم قسريًا دون أن تملك حق الدفاع عن نفسها عن جريمة أن تفكر- مجرد تفكير- في رفض حياة لا تريدها مع زوج لا تريده. والمثير للدهشة حقًا هو الصمت المطبق لجمعيات حقوق الإنسان والنخبة وصفوة المثقفات من عضوات المجلس القومي للمرأة والجمعيات النسائية.. ورائدات النضال ضد المجتمع الذكوري المتسلط.. وضد الرجل الذي صدعن رءوسنا صراخًا واعتراضًا علي ظلمه وجبروته وطغيانه في الوقت الذي يرين أنه ليس سوي كائن متطفل زائد علي الحاجة لا قيمة له ولا دور في الحضارة الإنسانية.. ويطالبن بمعاقبته- كما صرحت إحداهن- بتنظيف المراحيض العامة إذا ما أخفق في القيام بواجباته الزوجية.. كما طالبت بأحقية الزوجة في تحديد أوقات الاتصال وفقًا لرغبتها دون أن يحق له الاعتراض أو التأجيل أو التذمر. وكتبت د. «نوال السعداوي» مؤخرًا مقالاً تؤكد فيه أن المرأة هي مركز الكون وأصل البشرية، حيث سبقت الرجل في العلم والفلسفة والمعرفة والعدل، وكانت «إيزيس» في مصر القديمة إلهة الحكمة ومعات إلهة العدل وحواء إلهة المعرفة وقد سبقت آدم إلي شجرة المعرفة.. ولم يكن الرجل سوي كائن أبله غبي كان في فجر الإنسانية يغتصب أطفاله أو يأكلهم دون أن يعرف أنهم أطفاله وأن المرأة هي التي بدأت قوانين التحريم بمنع الرجال من اغتصاب وأكل الأطفال. -- حسنًا.. أود أن أذكرهن فقط أن أكبر إهانة للمرأة المعاصرة هي تقاعس المجتمع المدني- وعلي رأسه المناضلات الفاضلات- عن حماية حق «كاميليا» كإنسانة حرة تم احتجازها في مكان مجهول وقهرها وقمعها واغتيالها نفسيًا والعمل علي إعادة غسل مخها من جديد بعد غسل مخها السابق «والمقصود طرد الأفكار الشريرة التي تأثرت بها بإيعاز من الأشرار.. تلك الأفكار الخاصة بالحرية والإرادة المستقلة والرغبة في الحياة الإنسانية الكريمة». وأي عار يوصم نخبة المثقفات إن هن تخاذلن عن نصرة امرأة حاولت أن تطلق صرخة تمرد ضد القهر والظلم الاجتماعي والإنساني فتم قمعها واعتقالها واغتيال حريتها ووصمها تارة بالانفلات الأخلاقي والضعف الإيماني وتارة أخري بالاضطراب النفسي والعقلي. إن تخاذل نخبة المثقفات هو «أكبر الكبائر».