البحث العربي مستمر عن بطل. هناك صمود عربي حقيقي وتمسك بفكرة البطل - المنقذ الآتي فوق حصان أبيض. في المخيلة صورة لبطل ما يأتي ويخرج العرب بقدرة قادر من وضعهم الراهن. ينام عشرات الملايين كل ليلة، من المحيط إلي الخليج، وهم يحلمون بأنهم سيستفيقون علي ولادة بطل. ليس هناك من يريد أن يسأل ولو من باب الحشرية لماذا العرب الآن في وضع لا يحسدون عليه، ولماذا الحاجة الحقيقية إلي مسئولين يتعاطون مع الواقع بدل الهرب منه إلي الشعارات. تكمن المشكلة علي الأرجح في غياب الرغبة، حتي لا نقول الشجاعة في تسمية الأشياء بأسمائها. علي سبيل المثال وليس الحصر، ليس هناك من يريد أن يسأل لماذا لا علاقة للعرب بالثورة التكنولوجية التي يشهدها العالم مثلما أنه لم تكن لهم في يوم من الأيام علاقة بالثورة الصناعية، لماذا لا علاقة لهم بالبرامج التربوية الحديثة، لماذا لا يجرؤ مسئول كبير ويتحدث عن أخطار النمو السكاني غير الطبيعي، خصوصا في بلدان عربية فقيرة؟ لماذا لا يتجرّأ سوي عدد قليل من الزعماء العرب علي التطرق إلي أوضاع المرأة التي تشكل في نهاية المطاف نصف المجتمعات العربية؟ حسنا، وفق العرب أخيرا ببطل وطرأ تدهور علي العلاقات التركية - الإسرائيلية. ما الذي سيترتب علي ذلك... وإلي أي مدي يمكن لتركيا أن تذهب في المواجهة مع حكومة بنيامين نتانياهو التي يبدو كل همها محصورا في تكريس الاحتلال لجزء من الضفة الغربية، بما في ذلك القدسالشرقية. اسم البطل الجديد تركيا التي تحدت إسرائيل وقررت فك الحصار عن غزة. ماذا كانت النتيجة؟ سقط تسعة قتلي من المواطنين الأتراك الذين كانوا علي إحدي سفن «أسطول الحرية» بعدما لجأت إسرائيل إلي القوة. أرادت تأكيد إصرارها علي متابعة حصارها لغزة بحجة وجود أسير لها في القطاع من جهة ورغبتها في تفادي تحولها إلي ميناء إيراني من جهة أخري. ماذا بعد، هل نام أهل غزة بطريقة أفضل في تلك الليلة التي تلت المحاولة التركية لفكّ الحصار؟ في كلّ مرة وُفَق العرب ببطل، كانت الكوارث. في أساس ما يعانون منه حاليا كارثة البحث عن بطل في مرحلة ما بعد النكبة في العام 1948 كانت سلسلة الانقلابات العسكرية بداية التدهور المستمر للمجتمعات العربية انطلاقا من سوريا. هذا التدهور بلغ ذروته في مرحلة ما بعد العام 1956 عندما صعد نجم جمال عبدالناصر إثر دحر «العدوان الثلاثي» بفضل الولاياتالمتحدة... فعثر العرب أخيرا علي بطل أخذهم إلي كارثة حرب 1967 مرورا بكوارث أخري لا تقل أهمية عنها، علي رأسها الانقلاب العسكري في العراق في الرابع عشر من تموز -يوليو 1958 كان هذا الانقلاب الدموي، الذي استهدف الهاشميين، بمثابة الخطوة الأولي علي طريق تمزيق المجتمع العراقي ووصول العراق إلي ما وصل إليه اليوم. لا حاجة إلي تعداد أسماء كل «الأبطال» الذين لجأ إليهم العرب معتقدين أنهم سيأخذونهم إلي مكان ما أفضل. بعد جمال عبدالناصر، صفقوا طويلا لآية الله الخوميني في العام 1979 معتقدين أن ساعة الخلاص من إسرائيل اقتربت وهم لا يدرون أن عين الخوميني كانت علي العراق وعلي دول الخليج العربي وعلي لبنان والجزر الإماراتية الثلاث. وصفقوا طويلا لصدّام حسين، خصوصا في مرحلة ما بعد ارتكابه جريمة غزو الكويت. لم يكن معروفا من أغبي من الآخر. هل صدّام أكثر غباء من الذين نزلوا إلي الشارع دعما لمشروعه الانتحاري فصدّق أن هذا الجمهور يمثل شيئا... أم أن جمهوره، الذي اختفي فجأة بالطريقة نفسها التي ظهر فيها، يتفوق في غبائه علي صدّام نفسه؟ وصفقوا طويلا قبل ذلك لأبطال الثورة الفلسطينية الذين ساهموا مع غيرهم من لبنانيين وغير لبنانيين في ارتكاب أبشع الجرائم في لبنان، بما في ذلك الدخول في لعبة الصراعات الطائفية وتغذيتها. حاولوا قبل ذلك تخريب الأردن لأسباب لاتزال مجهولة... أو ربما معروفة أكثر من اللزوم. وصفقوا طويلا ل«حزب الله» قبل أن يدركوا أنه ليس سوي ميليشيا مسلحة يمكن أن تأخذ لبنان والمنطقة إلي كارثة في أي لحظة. لا داعٍ لتعداد الكم الهائل من «الأبطال»، أو أشباه الأبطال، الذين صفق لهم العرب باسم «المقاومة» أحيانا وباسم «الممانعة» في أحيان أخري كثيرة متجاهلين أن مشاكلهم الحقيقية في مكان آخر. ربما أكثر ما تجاهله العرب الباحثون عن بطل، قد يأتي وقد لا يأتي... والأرجح أنه لن يأتي، إن الإنجاز الوحيد الذي حققوه في السنوات الستين الماضية يتمثل في احتواء إسرائيل وإبقائها في عزلة تامة. لم تستطع إسرائيل اختراق أي دولة عربية أو أي مجتمع عربي علي خلاف قوي إقليمية أخري لعبت علي الوتر الطائفي والمذهبي واستغلته سياسيا إلي أبعد حدود... فوصل تدخلها إلي اليمن. في استطاعة التركي، أكان رجب طيب أردوغان أو عبدالله غلّ أو أحمد داود أوغلو، المزايدة علي العرب قدر ما يشاء في موضوع غزة. سيجد الإيراني بالمرصاد له، خصوصا أن طهران نجحت إلي حد كبير في خطف القضية الفلسطينية واللعب علي الانقسامات الداخلية وكانت لها أيادٍ بيضاء في مجال تكريس القطيعة بين الضفة وغزة. في حال كانت تركيا تريد تأدية خدمة للفلسطينيين وقضيتهم، فإن الخطوة الأولي في هذا المجال تفترض ابتعاد رئيس الوزراء أردوغان عن كلام من نوع أن «غزة بالنسبة إلينا قضية تاريخية... وسنكون حازمين حتي رفع الحصار عنها ووقف المجازر والإقرار بحصول إرهاب دولة في الشرق الأوسط». لا يختلف اثنان علي أن إسرائيل تمارس إرهاب الدولة. لكن المنطق يقول إن غزة ليست قضية تاريخية في أي شكل. علي من يريد خدمة غزة وأهلها المساعدة في إنهاء الوضع الناجم عن انقلاب «حماس» علي السلطة الشرعية الفلسطينية. إنها الخطوة الأولي في اتجاه رفع حصر الظالم الذي تفرضه إسرائيل علي القطاع. التركيز علي غزة يخدم إسرائيل وحكومة بنيامين نتانياهو. الموضوع ليس موضوع غزة والحصار الذي يتعرض له القطاع بمقدار ما أنه موضوع كيفية لعب تركيا لدور يتجاوز عقدة أن علي الإخوان المسلمين الذين يحكمونها حاليا دعم «الإخوان» المنتمين إلي «حماس» في غزة وذلك خشية أن يسقط الجميع في الحضن الإيراني. مثل هذا الدعم سقوط في الفخ الإسرائيلي ليس إلاّ. يكمن البديل من هذا السقوط في دعم البرنامج السياسي الفلسطيني القائم علي خيار الدولتين. كل ما عدا ذلك إضاعة للوقت وابتعاد عن المنطق ودخول في لعبة البحث عن بطل. هذه اللعبة لا تعدو كونها عملية استغلال لحال العجز التي يعاني منها العرب. إنها لعبة ممجوجة دفع العرب والفلسطينيون ثمنها غاليا دما وأرضا.