حالة من القلق المشوب بغضب مشروع لدى مصر شعباً وحكومة حين وقعت أربع من دول منابع نهر النيل فى 14 مايو 2010 اتفاقاً إطارياً للتعاون فى مجال الاستخدام المتكافئ لمياه نهر النيل، وهذه الدول هى أثيوبيا وأوغندا وتنزانيا ورواندا ثم لحقت بهما فى التوقيع كينيا فى 19 مايو وقد تفاوتت درجة القلق والغضب على عدة مستويات ولكنها أجمعت على أن مياه النيل قضية حياة لمصر وشعبها وأن حقوقها المكتسبة والموثقة فى عدة اتفاقات ومذكرات تفاهم وخطابات متبادلة ملزمة لجميع الأطراف وتضمن نصيب مصر والسودان، وهما دولتا مصب، فى مياه النيل، وأنهما على استعداد للتعاون البناء من أجل المصالح المشتركة لجميع دول حوض النيل فى المنابع والمصب معاً. مبعث هذا الغضب والقلق أنه منذ إطلاق مبادرة حوض النيل فى عام 1999 والتى تضم جميع دول المنابع والمصب، والمفاوضات ماضية من أجل التواصل إلى اتفاق إطارى يحافظ على حقوق جميع هذه الدول وينمى مصالحها المشتركة سواء فى إقامة المشروعات المائية، والزراعية، والبيئية وتنمية الموارد المائية عن طريق تعظيم الاستخدام الأمثل والتقليل من نسبة الفاقد منها سواء الذى يصب فى البحار، أو الذى يضيع فى الجبال والمستنقعات، وتبادل الخبرات، والاستثمارات فى المشروعات المشتركة وتوصلت هذه المفاوضات إلى اتفاق على النقاط الرئيسية فى مشروع اتفاق إطارى للتعاون ولم يتبق ألا ثلاث نقاط تحتاج إلى مزيد من المفاوضات للتوصل إلى اتفاق بشأنها وهى: 1 - حقوق مصر والسودان المكتسبة تاريخياً والموثقة فى الاتفاقات الموقعة بشأنها منذ عام 1881 حتى عام .1995 وترى دول المنابع أو معظمها أن هذه الاتفاقات وقعت فى عهود الاستعمار وقد تجاوزها الزمن وتتطلب إعادة النظر فيها وترى مصر والسودان أن الميراث القانونى فى الحقوق الثابتة لا يتغير وذلك وفقاً للمعايير الدولية المعمول بها بين جميع الدول وفى الحالات المماثلة. 2 - الأخطار والتشاور بشأن إقامة السدود وخزانات المياه ومشروعات توليد الكهرباء على الروافد وعند المنابع لضمان أنها لا تؤثر سلبياً على نصيب مصر والسودان من المياه. وترى دول المنابع ومعظمها أن من حقها إقامة المشروعات الكبيرة سواء الزراعية أو لتوليد الكهرباء لتحقيق التنمية لشعوبها دون قيود من دول أخرى. وترى مصر والسودان أنهما لا تفرضان قيوداً ولا تعارضان إقامة هذه المشروعات بل أنهما على استعداد للمساهمة بما تقدران عليه من خبرات ومساعدات ولكن دون إلحاق ضرر بمواردهما من المياه. 3 - نظام التصويت على قرارات مبادرة حوض النيل. ترى مصر والسودان أن يكون التصويت بتوافق الآراء أو بالأغلبية التى يكون بينها مصر والسودان، أو يكون بالإجماع. وترى دول المنابع أو معظمها أن هذا يعطى حق الاعتراض (الفيتو) لمصر والسودان ويميزهما عن باقى دول حوض النيل الأخرى، وأن نظام التصويت بالأغلبية هو الأفضل ويحقق المساواة بين الدول. وترى مصر والسودان أن هذا ليس تمييزاً لهما أو إعطاءهما حق الفيتو وإنما يهدف فقط إلى ضمان حقوقهما المكتسبة دون الإضرار بحقوق الآخرين، خاصة أن دولتى المصب أقلية بين دول المنابع. وواضح أن من أسباب الخلاف حول هذه النقاط هو طريقة حساب موارد المياه فى كل دولة من دول حوض النيل. لأن دول المنابع تتمتع بموسم أو مواسم أمطار غزيرة تعتمد عليها بنسبة تزيد على 80% فى الزراعة ومراعى تربية الماشية، بينما دول المصب وخاصة مصر فإن نسبة الأمطار فيها محدودة للغاية حيث تقدر فى مصر بنحو 2 - 3 مليار متر مكعب سنوياً كما أن سقوط الأمطار الغزيرة لفترات طويلة فى دول المنابع يجعل المياه الجوفية فيها أكثر وفرة منها فى مصر ومن ثم فإن حساب نصيب كل دولة من المياه سنوياً يتطلب إدخال جميع مصادر المياه سواء كانت أمطاراً أو مياها جوفية أو من مجرى نهر النيل ذاته. وثمة عوامل أخرى تدفع دول المنابع إلى التمسك بمواقفها بالنسبة للنقاط الثلاث موضع الخلاف والمشار إليها سالفاً، منها: 1 - حاجتها إلى مشروعات توليد الطاقة الكهربائية لتحقيق التنمية الاقتصادية والبشرية. 2 - الارتفاع الكبير فى أسعار المواد الغذائية التى تستوردها وحاجتها إلى التنمية الزراعية وإنتاج حاجتها من الأغذية وتصدير الفائض خاصة أن الدول الأفريقية تواجه مشاكل الزيادة السكانية سواء الطبيعية أو نتيجة تحسن الرعاية الصحية. 3 - اتجاه الدول والشركات الأجنبية إلى الاستثمار فى المجال الزراعى فى أفريقيا لمواجهة احتمالات أزمات غذائية عالمية وتشجيع الدول الأفريقية على تعظيم استغلال مواردها المائية. 4 - معاناة بعض دول المنابع خاصة أثيوبيا من الجفاف فى كثير من المناطق رغم كثرة الأمطار التى تسقط فى مناطق معينة فيها، وحاجها إلى استثمارات كبيرة لإقامة سدود لتخزين المياه وحفر آبار عميقة فى مناطق الجفاف. 5 - بعض المعايير التى يتبناها البنك الدولى ومنها اقتصاديات الموارد المائية والتى تقوم على قانون العرض والطلب، أى تسعير وبيع المياه لترشيد استهلاكها من ناحية ولتغطية تكاليف إقامة السدود وحفر القنوات وإقامة نظام صناعى للرى. وهو ما لا يتناسب مع الميراث الثقافى لاستخدام المياه فى الزراعة فى مصر والسودان ومعظم دول حوض النيل ولكن يلاحظ أن هذا المفهوم بدأ يلقى قبولاً ويستهوى بعض دول المنابع. 6 - القراءة المبالغ فيها من جانب أجهزة الإعلام وبعض المسئولين فى دول المنابع لمفهوم الحقوق التاريخية المكتسبة فى مياه النيل لمصر والسودان، وخاصة مصر، وكذلك ضرورة الإخطار المسبق عن المشروعات المائية فى دول المنابع، وتفسير ذلك على أنه سيطرة واستحواذ على الجزء الأكبر من مياه نهر النيل وهذا الفهم لا يأخذ فى الاعتبار عدة عوامل منها: أ) طريقة حساب موارد المياه الشاملة فى كل دولة. ب) حقيقة أن دول المنابع لا يمكنها احتجاز كل المياه أو حتى معظمها وخاصة فى مواسم الأمطار الغزيرة وإلا أغرقتها الفيضانات وألحقت بها أضراراً جسيمة. ج) إن مصر دولة متلقية لما يصلها من مياه الفيضان فى مواسم ال أمطار من دول المنابع وكانت معظم هذه المياه تهدر فى البحر المتوسط قبل أن تقيم مصر مشروع سد أسوان ثم مشروع السد العالى لتخزين هذه المياه الضائعة والاستفادة بها على مدار السنة. ومن ثم فإن الحقائق الجغرافية وطبيعة انحدار الهضبة من دول المنابع إلى السودان ثم مصر يجعل نصيبها من المياه أمرا طبيعيا وليس حقا مكتسبا فقط وإنما فيه مصلحة وحماية لدول المنابع من مخاطر الفيضانات ويبقى أمران: أولهما: التعاون مع دول المنابع فى تخزين واستغلال مصادرها من المياه التى تصب فى البحر الأحمر والمحيط الهندى، والتى تهدر فى المستنقعات بعيدا عن مجرى نهر النيل. ثانيهما: استغلال المياه الجوفية فى مناطق خفيفة الأمطار وخاصة فى أوقات الجفاف. وقد قدمت مصر الكثير من المساعدات الفنية والمالية والخبرات لدول المنابع فى هذه المجالات وربما يحتاج الأمر إلى تكثيف التعاون والتشاور على أعلى المستويات. والملاحظ أن مبادرة حوض النيل لا تتعارض مع الاتفاق الإطارى للتعاون الذى وقعته الدول الخمس، باستثناء النقاط الثلاث موضع الخلاف والسابق الإشارة إليها، كما أن المبادرة والاتفاق الإطارى يتسقان مع معظم المفاهيم التى يتبناها البنك الدولى وخاصة ما يتصل منها بالآتى: 1- ضرورة اتفاق دول حوض نهر النيل على إستراتيجية لإدارة موارد المياه فيما بينها. 2- عدم وجود تعارض بين الخطط والبرامج القومية والإستراتيجيات الأقليمية والدولية بشأن التنمية المتكاملة للموارد المائية. 3- وجود اتفاق بين الدول الواقعة فى حوض النهر بشأن الموارد المائية السطحية والجوفية على حد سواء للحصول على المساعدات المطلوبة من البنك الدولى للمساهمة فى حل المشكلات المائية لهذه الدول. هذا وإن هناك بعض المفاهيم التى يتبناها البنك الدولى وتتطلب منتهى الحيطة والحذر ومنها الترويج لفكرة إيجاد سوق عالمية للمياه يتم بموجبها نقل المياه من المناطق غزيرة الأمطار والموارد المائية إلى المناطق الفقيرة فى المياه، ويمكن نقلها عبر القنوات والمواسير والناقلات العملاقة. والحقيقة أن قضية مياه النيل لا يجب أن تخضع للفعل ورد الفعل المباشر،لأنها ليست مسألة وقتية وإنما تمتد بجذورها فى أعماق التاريخ منذ بدء الاستقرار البشرى والحياة فى حوض النيل وتمتد إلى آفاق المستقبل غير المنظور فدول حوض النيل مرتبطة ببعضها ارتباطا مصيريا بشريان حياتها وهو نهر النيل، وأى اختلاف فى الرأى حول أى موضوع يتصل بالمياه يتطلب المعالجة الصابرة والدءوبة والتى تحكمها دائما روح التعاون والمصالح المشتركة دون إفراط ولا تفريط وبكل الاحترام لحقوق الشركاء الآخرين سواء فى المنابع أو المصب وأن توافد عدد من رؤساء وزعماء دول المنابع إلى مصر وتأكيدهم أن أيا من دول المنبع لا يمكن أن تفكر أو تتجه إلى الإضرار بمصالح مصر المائية، يأتى فى هذا السياق العام ومصداقا لقول الرئيس مبارك لهم أن ما يجمع بين دول حوض النيل أكثر مما يفرقها. وأن الأمر يتطلب المزيد من المفاوضات بلغة المصالح المشتركة التى تزيل ما قد يثور من مخاوف وشكوك، وإعطاء مزيد من الثقة لخبراء المياه المصريين والأفارقة لدراسة ومناقشة أفضل الأماكن لإقامة المشروعات المائية والزراعية فى دول المنابع للحد من الخبرات الأجنبية الأخرى البعيدة عن فهم الطبيعة والتركيبة الثقافية والتاريخية والحاضرة والمستقبلية التى ترتبط برباط وثيق بين دول حوض النيل، وما قد يدسه بعض هؤلاء الخبراء من آراء فنية ذات دوافع سياسية واستراتيجية لأطراف معينة تريد شيئا من الفرقة والتباعد بين دول حوض النيل. وتحتاج العلاقات المصرية مع دول حوض النيل إلى مزيد من التنشيط فى مجالات العلاقات التجارية فى إطار منظمة الكوميسا والإطار الثنائى، وإقامة المشروعات المشتركة فى مجال الإنتاج الزراعى والحيوانى، والصناعات التحويلية لبعض منتجات هذه الدول وتقديم مزيد من الخبرات فى مجال إقامة المشروعات المائية بكل أنواعها. ويأتى قبل ذلك إعمال مزيد من التواصل على مستويات القمة والمستويات العليا ومنظمات المجتمع المدنى والبرلمانات والأحزاب، لتكون حاضرة دائما لإزالة أى توتر على مياه النيل. السفير / رخا أحمد حسن