صحبنى دبلوماسى إنجليزى فى سيارتى المتهالكة.. واستغرق فى وصف خطورة القيادة فى شوارع القاهرة التى تتسم بالزحام والفوضى.. فقلت له ساخرا: لا تغطّ جهلك بالطريقة المصرية فى القيادة بحديثك المتعالى عن الفوضى.. لا أعرف لماذا تذكرت هذا الحوار وأنا أتابع الانتخابات السودانية التى جرت الأسبوع الماضى.. والتى شهدت تراشقات واتهامات واستعراض عضلات سياسية وسقوط أقنعة وانسحاب بعض الأحزاب ورقصات قبلية واستعدادا لمعارك عسكرية وتبادل ألفاظ قاسية ووصف البعض لهذه المشاهد بالفوضى المسخرة .. وهى تتجه لإعلان النتائج الأولية بعد انتهاء الفرز. فاز فى هذه الانتخابات المثيرة 27 مرشحا من 24 ألف متنافس بالتزكية، واعتبرت المعارضة دعوة حزب المؤتمر للمشاركة فى الحكومة بعد الانتخابات بأنه مقابل التزوير والخروقات التى وقعت فى الانتخابات، وقال إبراهيم الغندور القيادى فى حزب المؤتمر الوطنى الحاكم إن الإعداد لهذه الانتخابات استهلك الكثير من الوقت والجهد، وتجرى تحت إشراف المفوضية القومية التى شُكلت بموجب اتفاقية نيفاشا لعام 2005 وبموجب الدستور السودانى الذى عُدل بموجب هذه الاتفاقية.. وهذا يعنى أن الحكومة الحالية لا تدير هذه الانتخابات، بل تديرها هذه المفوضية تحت رقابة 840 مراقبا دوليا وإقليميا جاءوا من جهات عديدة منها مركز كارتر الأمريكى والاتحاد الأوروبى والمؤتمر الإسلامى وجامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقى، بخلاف 4500 مراقب محلى، ولكن رغم ما أكده الغندور، إلا أن هناك شكاوى كثيرة من تجاوزات وارتباك و«لخبطة» حدثت أثناء العملية الانتخابية لدرجة أن سيلفا كير رئيس حكومة الجنوب نفسه أخطأ عند التصويت ووضع بطاقة الانتخابات الخاصة باختيار رئيس حكومة الجنوب فى صندوق اختيار رئيس المجلس التشريعى، وبذلك أصبحت بطاقته تالفة، ولم ينتخب نفسه. وتُرجع فاطمة المحمود - المرشحة لمنصب رئيس الجمهورية عن الحزب الاشتراكى - السبب فى ذلك إلى أن نظام الاقتراع شديد التعقيد.. فالناخب عند التصويت فى الشمال يحتاج إلى ثمانى بطاقات انتخابية - بطاقة لرئيس الجمهورية وأخرى لوالى الولاية وثلاث بطاقات لمجلس الولاية «جغرافية وحزبية وللمرأة» وثلاث بطاقات للمجلس الوطنى - أما فى الجنوب فالناخب يحتاج إلى 12 بطاقة انتخابية ثمانٍ منها يتشارك فيها مع الناخب الشمالى، بالإضافة إلى بطاقة اختيار رئيس الحكومة فى الجنوب وثلاث لمجلس النواب.. ورغم كل المصاعب فرأيى الاحتكام لصناديق الاقتراع أفضل ألف مرة من الاحتكام للتشاحن والسلاح.. ووجود عملية انتخابية تشوبها بعض المشاكل أفضل من عدم وجودها. الارتباك واختلفت مع هذا الرأى عائشة الكارب - مسئولة فى تحالف المجتمع المدنى للانتخابات - التى قالت: كان من الأفضل تأجيل هذه الانتخابات لتوفير الإعداد الجيد لها.. بدلا من إجرائها فى ظل هذه اللخبطة والارتباك.. حيث لم نجد أى مركز انتخابى مطابق للمعايير التى حددتها مفوضية الانتخابات.. وقالت مريم المهدى المتحدثة باسم حزب الأمة المعارض كان من الأفضل للسودان أن يبقى بدون هذه الانتخابات التى شهدت كما هائلا من الأخطاء والتجاوزات التى تثبت عجز المفوضية عن إدارتها وتؤكد صحة قرار حزب الأمة بمقاطعة هذه الانتخابات التى وصفها تحالف قوى الإجماع الوطنى المعارض بالمهزلة أو المسخرة. انسحاب من ناحية أخرى أكد د. الطيب زين العابدين - أستاذ العلوم السياسية فى جامعة الخرطوم - أن مقاطعة أهم أحزاب المعارضة للعملية الانتخابية يضعف من مصداقيتها.. ولا يجعلها ديمقراطية تمثل الشعب السودانى.. حتى ولو كانت سليمة من الناحية القانونية.. وقد يؤدى التوتر المصاحب لها إلى حالة من عدم الاستقرار.. كما أن انسحاب الحركة الشعبية من انتخابات الشمال واستمرارها فى الجنوب يعنى الانفصال السياسى للجنوب.. أما الانفصال الدستورى والقانونى فسوف يأتى مع استفتاء يناير المقبل حول مستقبل الجنوب بالإضافة إلى أن الارتباك الذى ساد العملية الانتخابية أدى إلى مشاكل كثيرة منها أن اختفاء أسماء بعض مرشحى البرلمان أدى إلى انسحاب بعضهم ومنهم ثلاثة صحافيين فى الخرطوم هم محجوب عروة.. والهندى عز الدين.. وعثمان المرغنى.. وقد تحدثوا عن تجاوزات ومخالفات لا حصر لها.. وفى رأى مخالف أكد عبد الرحمن الخضر - والى الخرطوم والقيادى فى حزب المؤتمر الوطنى الحاكم - أن الأحزاب التى أعلنت انسحابها من العملية الانتخابية بحجة أن هناك تجاوزات لم تلتزم بقانون الانتخابات الذى حدد يوم 12 فبراير للانسحاب القانونى.. وبالتالى فهى لم تنسحب من الناحية القانونية.. وإن كانت قد توقفت عن المشاركة فى العملية الانتخابية.. وفى تقديرى ما فعلته هذه الأحزاب هو الهروب من صناديق الاقتراع ربما لإخفاء ضعفها.. وكان من الأفضل لها أن تستمر فى المشاركة لإرساء قواعد الديمقراطية التى تنادى بها.. وفى نفس الاتجاه يرى صالح على الكاتب السودانى - عضو الحزب الاتحادى - أن المشهد المرتبك الذى تعيشه السودان الآن جاء نتيجة فشل الحكومات المتعاقبة فى إدارة التعددية السودانية وأدى هذا إلى ظهور مشروعين أحدهما إسلامى فى الشمال والثانى مشروع السودان الجديد فى الجنوب. ويؤكد التيجانى مصطفى - سياسى مستقل- : الحالة السياسية فى السودان تغيرت من آخر انتخابات شهدتها البلاد فى عام 1986 الآن أصبحت هذه الأحزاب تعانى من الضعف والانشقاقات ، وأصبحت أمام خيارين إما أن تشارك وتسعى لتحسين أوضاعها.. ولكنها إن فعلت فسوف يظهر ضعفها.. فى حين أنها تتصرف كأحزاب قوية وكبيرة لذلك فضلت الانسحاب وأثارت قضايا التزوير والارتباك... إلخ... وهذا أمر طبيعى لأن حزب الأمة بقيادة الصادق المهدى مثلا يصعب عليه أن يجد نفسه بعد هذه الانتخابات وقد أصبح حزبا صغيرا لا تأثير له.. والحركة الشعبية فى الجنوب استثمرت هذا الوضع فى تكوين تحالف (دبا) بعد اجتماعها فى جوبا بقيادة أغلب هذه الأحزاب المعارضة فى نهاية العام الماضى.. وكان هدف الحركة الضغط على حزب المؤتمر الوطنى شريك الحكم للوصول إلى قانون الاستفتاء الذى سيسهل عملية انفصال الجنوب.. بعدها تخلت الحركة الشعبية بقيادة سيلفا كير عن تلك الأحزاب المعارضة وأبقت على شعرة معاوية معها. عنف محتمل وكان أغرب ما شهدته الانتخابات ما أعلنه الرئيس الأمريكى الأسبق كارتر الذى يقود فريقا من مركزه لمراقبة العملية الانتخابية، حيث أكد فى اليوم الأول من الانتخابات أن المنافسة ستكون حامية ما عدا بالنسبة للانتخابات الرئاسية التى يعتبر الفوز فيها مضمونا للرئيس عمر البشير.. وأعلن بذلك فوز البشير حتى قبل فرز الأصوات.. ولكن كارتر تدارك الموقف بعدها بيومين واستبعد احتمال فوز البشير من الجولة الأولى بحصوله على نسبة أكثر من 50% من الأصوات ، وبالتالى سيتواجه المرشحان الحاصلان على أعلى الأصوات فى جولة إعادة تستمر يومين فى العاشر من مايو المقبل.. وحذر من انهيار الانتخابات واتفاق السلام المرتبط بها.. لأنه يمكن أن يشعل حربا دينية، خاصة بعد الاشتباكات الدامية فى اليوم الأخير بين المؤتمر والحركة، وأثيرت المعارضة من موقف كارتر حتى أنها اعتبرته صفقة مع البشير لتمرير الانتخابات وبقائه فى الحكم مقابل انفصال الجنوب. الحزبان التاريخيان واتفقت بعض الآراء على أن السيناريو الأرجح لمسار الأحداث حتى الآن هو فوز البشير فى انتخابات الرئاسة بعد انسحاب أهم منافسيه - الصادق المهدى وياسر عرمان - ومن المتوقع أن يلعب الحزبان التاريخيان الأمة والاتحادى مع الحزب الشيوعى دور المعارضة العاقلة فى مواجهة أى خروج عن النص من حزب حسن الترابى أو غيره.. وسيتجه العمل بعد الانتهاء من الانتخابات بنجاح إلى الاستعداد لإجراء الاستفتاء فى الجنوب فى يناير القادم ، ومن المتوقع أن يؤدى إلى انفصال الجنوب إما بشكل خشن أى إقامة دولتين أو بشكل ناعم وفقا للخطة الأمريكية التى وردت فى تقرير دانفورت.. أى إقامة دولة موحدة أو فيدرالية ونظامين للحكم فى الشمال والجنوب.. أما فى الجنوب فإن الحركة الشعبية ستحاول إحكام سيطرتها على الجنوب وسط توترات قبلية تنذر بمواجهات عسكرية طاحنة، خاصة إذا خسر سيلفا كير منصبه كرئيس لحكومة الجنوب فى انتخابات الأسبوع الماضى.. ففى هذه الحالة ووفقا لبعض الآراء ستقاتل قبيلة الدنكا والتى ينتمى معظمها إلى الحركة الشعبية باقى القبائل - خاصة الشلك والنوير والباريه بكل فروعها - لتعود إلى السلطة انطلاقا من ولاية الاستوائية أكبر معاقل الدنكا.