السيسي يهنئ البابا تواضروس بمناسبة عيد القيامة المجيد    جامعة المنيا تحقق معدلات مُرتفعة في سرعة حسم الشكاوى    تفاصيل مشروعات الطرق والمرافق بتوسعات مدينتي سفنكس والشروق    تعرف على أسعار الأسماك بسوق العبور اليوم السبت    رفع أطنان من المخلفات وصيانة أعمدة الإنارة في كفر الشيخ    بإجمالي 134 مليون جنيه، رئيس مياه سوهاج يتفقد مشروعات مدينة ناصر وجهينة    القاهرة الإخبارية: تقدم ملحوظ في مفاوضات وقف إطلاق النار بغزة    كوريا الجنوبية: ارتفاع عدد الهاربين للبلاد من الشمال لأكثر من 34 ألفا    "3 تغييرات".. التشكيل المتوقع للأهلي ضد الجونة في الدوري المصري    إصابة 8 أشخاص في انفجار أسطوانة غاز بسوهاج    ضبط 37 مليون جنيه حصيلة قضايا إتجار بالنقد الأجنبي    الصحة السعودية تؤكد عدم تسجيل إصابات جديدة بالتسمم الغذائي    «البدوي»: الدولة تتبنى خطة طموحة للصناعة وتطوير قدرات العمال    محافظ الوادي الجديد يهنئ الأقباط بمناسبة عيد القيامة المجيد    حملات لرفع الإشغالات وتكثيف صيانة المزروعات بالشروق    عاجل| مصر تكثف أعمال الإسقاط الجوي اليومي للمساعدات الإنسانية والإغاثية على غزة    روسيا تسقط 4 صواريخ أتاكمز أوكرانية فوق شبه جزيرة القرم.    إندونيسيا: 106 زلازل ضربت إقليم "جاوة الغربية" الشهر الماضي    مصرع 14 شخصا إثر وقوع فيضان وانهيار أرضي بجزيرة سولاويسي الإندونيسية    جيش الاحتلال يقصف أطراف بلدة الناقورة بالقذائف المدفعية    «الرعاية الصحية» تعلن خطة التأمين الطبي لاحتفالات عيد القيامة وشم النسيم    صافرة كينية تدير مواجهة نهضة بركان والزمالك في نهائي الكونفدرالية    عفروتو يرد على انتقادات «التقصير والكسل»    وزير المالية: الاقتصاد بدأ بصورة تدريجية استعادة ثقة مؤسسات التصنيف الدولية    «الإسكان»: دفع العمل بالطرق والمرافق بالأراضي المضافة حديثاً لمدينتي سفنكس والشروق    أمر اداري لمحافظ الأقصر برفع درجة الاستعداد بالمراكز والمدن والمديريات فترة الاعياد    «أتوبيسات لنقل الركاب».. إيقاف حركة القطارات ببعض محطات مطروح بشكل مؤقت (تفاصيل)    سفاح فى بيتنا.. مفاجآت فى قضية قاتل زوجته وابنه    "دفنوه على عتبة بيتهم".. أبوان يقيدان ابنهما ويعذبانه حتى الموت بالبحيرة    "تطبيق قانون المرور الجديد" زيادة أسعار اللوحات المعدنية وتعديلات أخرى    5 ملايين جنيه إيرادات أفلام موسم عيد الفطر أمس.. السرب في الصدارة    تامر حسني يوجه رسالة لأيتن عامر بعد غنائها معه في حفله الأخير: أجمل إحساس    طرح البوستر الرسمي لفيلم «بنقدر ظروفك» وعرضه بالسينمات 22 مايو    برج «الحوت» تتضاعف حظوظه.. بشارات ل 5 أبراج فلكية اليوم السبت 4 مايو 2024    ما حكم الإحتفال بشم النسيم والتنزه في هذا اليوم؟.. «الإفتاء» تُجيب    إيرادات فيلم السرب على مدار 3 أيام عرض بالسينما 6 ملايين جنيه ( صور)    «القومي للمرأة» يشيد بترجمة أعمال درامية للغة الإشارة في موسم رمضان 2024    هل بها شبهة ربا؟.. الإفتاء توضح حكم شراء سيارة بالتقسيط من البنك    أسعار البيض اليوم السبت في الأسواق (موقع رسمي)    الصحة توجه نصائح هامة لحماية المواطنين من الممارسات الغذائية الضارة    رئيس هيئة الدواء يشارك في اجتماع «الأطر التنظيمية بإفريقيا» بأمريكا    عمرو وردة يفسخ تعاقده مع بانسيرايكوس اليوناني    تشكيل أرسنال المتوقع أمام بورنموث| تروسارد يقود الهجوم    بايدن يتلقى رسالة من 86 نائبا أمريكيا بشأن غزة.. ماذا جاء فيها؟    محمود بسيوني حكما لمباراة الأهلي والجونة في الدوري    المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    إسماعيل يوسف: «كولر يستفز كهربا علشان يعمل مشكلة»    حفل ختام الانشطة بحضور قيادات التعليم ونقابة المعلمين في بني سويف    مصرع شاب في حادث اليم بطريق الربع دائري بالفيوم    سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    أخبار التوك شو| مصر تستقبل وفدًا من حركة حماس لبحث موقف تطورات الهدنة بغزة.. بكري يرد على منتقدي صورة حسام موافي .. عمر كمال بفجر مفاجأة    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد ابو الغيط يكتب..أخطر 7 أيام علي خط المواجهة

قرأت منذ سنوات فى كتاب شهير لرجل الدولة البريطانى تشرشل مقولة رائعة نصها أن الأدميرال جون جيلكو هو الشخص الوحيد على الجانبين الألمانى والبريطانى الذى كان يمكن بتصرفاته وأدائه أن يؤدى إلى خسران بريطانيا للحرب خلال نصف نهار.
كان تشرشل وزيرا للبحرية البريطانية إبان الحرب العالمية الأولى وحتى خروجه فى عام 1916 بعد فشل غزو شبه جزيرة جاليبولى ومحاولة اختراق الدردنيل، وكان يقصد بهذه المقولة، الأدميرال جيلكو قائد الأسطول الكبير البريطانى فى معركته مع أسطول أعالى البحار الألمانى فى معركة جاتلاند وحيث اصطدم الأسطولان للمرة الأولى والأخيرة بكامل إمكانياتهما فى عام 1916 ولم يتمكن الأسطول البريطانى من تدمير خصمه الأضعف من حيث القدرة أو التجربة تحت قيادة الأدميرال الألمانى الشهير برنس شير، بل على العكس انتهت المعركة خلال يوم واحد، شهد أحد أكبر معارك التاريخ البحرى وبعد خسائر بريطانية أكبر عدداً فى السفن الرئيسية مقارنة بما حل بالألمان.
أخطر 7 أيام على خط المواجهة
هيئة مكتب مستشار الأمن القومى حافظ إسماعيل فى النادى الدبلوماسى المصرى عام 1974 بمناسبة مغادرته لمنصبه وبين الحضور: السفير/ طلعت الشافعى مساعد رئيس ديوان رئيس الجمهورية - السفير/ عثمان نورى مساعد مستشار الأمن القومى - السفير/ جمال بركات - السفير/ صلاح الدين الشعراوى - السفير/ أحمد عادل - السفير / عبدالهادى مخلوف مدير مكتب حافظ إسماعيل ووراءه أحمد ماهر السيد وخلفه د. زكريا عزمى، وأحمد أبوالغيط على يمين الصورة فى الخلف: بالإضافة إلى مجموعة من رجال الحرس الجمهورى - القوات المسلحة - المخابرات العامة.
وتحدث الكثيرون وكتبوا بعد المعركة وكذلك بعد انتهاء الحرب فى عام 1918 يتساءلون عن أسباب حرص أو حذر الأدميرال جيلكو وأسباب عدم استثماره لتفوقه الكبير فى حسم المعركة عن طريق نهج أكثر جراءة وعدوانية.. وجاءت مقولة تشرشل لكى تعطى جيلكو حقه بالكامل.. إذ أن هزيمة الأسطول البريطانى فى هذا النهار كانت ستؤدى بلاشك إلى هزيمة كاملة لبريطانيا فى صدام الحديد والنار الذى جرى مع ألمانيا على أرض القارة الأوروبية.
وينبغى هنا أن أشرح أسبابى فى بداية مقال اليوم بهذا التقديم وهذا الاستعراض لمعركة جاتلاند الشهيرة.. إذ استشعرت دائماً أن مصر ألقت على عاتق أحمد إسماعيل على، القائد العام للقوات المصرية المسلحة مسئوليات جساما وأن الرجل تحمل هذه المسئوليات باقتدار حاسبا وبكل دقة قدرات وإمكانيات القوات المسلحة والمهام التى يمكن أن تنجزها والأهداف المطلوب تحقيقها والوصول إليها وأخيرا الكيفية التى يمكن بها ومن خلالها حفز القوات والأفرع الرئيسية لها على تحقيق الهدف العسكرى ومن ثم الأهداف الاستراتيجية السياسية للحرب.
وأجدنى أمضى فى القول اليوم أن أحمد إسماعيل على وبعميق خبرته وحكمته كان يعى بدقة أن هدف العمل العسكرى المصرى عبر القناة ليس هو فقط تحطيم خط بارليف وكل نقاطه وحصونه - ويجب هنا أن نؤكد أنه خط محصن بعمق يستند إلى مانع مائى عريض ويماثل فى تحديه ما يمكن أن يكون قد واجهته أى من جيوش الحرب العالمية الثانية بكل قدراتها - ولكن أيضا فى احتلال هذا الشريط الممتد على طول الجانب الشرقى للقناة وضرب الهجمات الإسرائيلية المضادة وتأمين انتهاء الصدام المسلح ولدى مصر قوات قادرة وفاعلة وذات تأثير داخل أرض سيناء - حتى لو كان ذلك على شريط لا يتجاوز 10 - 15 كم - وبذلك تكون مصر قد حطمت نظرية الأمن الإسرائيلى وفرضت على الإسرائيليين والولايات المتحدة ضرورة التحرك لتسوية سياسية.
من هنا أمسك أحمد إسماعيل على بتلابيب قواته ومنع أيا من وحداته الرئيسية التابعة للجيشين الثانى أو الثالث من الانجراف المتسرع للخروج من رؤوس كبارى الفرق الخمس المشاة، بل وصمم على مقاومة كل تفكير بضرورة وأهمية التحرك الفورى لاستغلال النجاح الابتدائى والافتتاحى للمعركة بعد تحطيم خط بارليف ونجاح فرق المشاة فى ضرب كل الهجمات المدرعة المضادة وهزيمتها والتواجد بالتالى على الخطوط التى حددت منذ البداية لتحقيق الهدف الابتدائى والنهائى للعملية العسكرية وبتوابعها السياسية الاستراتيجية.
لقد جاء النجاح المصرى الابتدائى بثمن يقل كثيرا عما توقعته القيادة العسكرية والسياسية فى إدارتها للحرب.. من هنا تعرض أحمد إسماعيل على لضغوط تحثه على أهمية استغلال النجاح والدفع بالقوات وإطلاقها فى اتجاه الممرات الرئيسية فى عمق سيناء ممرى متلا/ والجدى..
وذكر البعض أيضا فى معرض تحليل المعركة والصدام العسكرى، واعتمادا على ما نشر بعد الحرب، أن رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير صدمت لانهيار موشى ديان وزير الدفاع وكذلك الجنرال جونين قائد الجبهة الجنوبية لإسرائيل عندما عادا إليها فى اجتماع عاصف عقد يوم 9 أكتوبر فى مقر قيادة الجنوب فى وسط سيناء طالبا فيه بالنظر فى سحب القوات الإسرائيلية المتواجدة فى مواجهة المصريين إلى عمق سيناء وخلف المضايق.. إلا أن مائير منعت هذا الانسحاب وقررت اللجوء وبشكل فورى إلى الولايات المتحدة لمطالبتها بالتحرك الفورى للإمداد بكل الاحتياجات الإسرائيلية من السلاح والذخيرة.. ودار جدل فى واشنطن وذلك حسبما كشفت السنوات التالية للحرب ودار نقاش بين الدفاع والخارجية وأخذ فى الحسبان رد الفعل العربى وبالذات فى مسائل الإمداد العربى بالبترول للعالم الغربى.. وحسم الأمر لصالح الخارجية وكيسنجر الذى دفع بأهمية عدم السماح للسلاح السوفيتى، حتى ولو كان فى أيدٍ مصرية، بهزيمة السلاح الأمريكى، ومن ثم اتخذ قرار أمريكى بالإمداد لإسرائيل بكل احتياجاتها وأكثر، واستخدام كل الطاقات البحرية والجوية الأمريكية لتحقيق هذا الهدف.
وأستذكر هنا، وللرد على هذه الآراء القائلة بأنه كان ينبغى تطوير الهجوم ابتداء من يوم 10 أكتوبر وقد صدت كل الهجمات المدرعة المضادة التى قامت بها إسرائيل، بالقول إن أحمد إسماعيل على كان يعلم أن السوفييت لايرغبون فى قيام الجانب العربى بكسر وقف إطلاق النار.. وأن مصر وكذلك سوريا نجحتا فى وضع السوفييت تحت ضغوط هائلة، استراتيجيا وسياسيا، للمضى فى الإمداد بالسلاح وتمكين الجيش المصرى والقوات الجوية المصرية من بناء قدراتهما خاصة فى فترة العام الممتد ما بين أكتوبر 72 وحتى أكتوبر 73 بل أقول إن مصر نجحت وببراعة ليس فقط فى إعطاء الانطباع لإسرائيل والغرب أنها غير مهيأة عسكريا ولكن أيضا فى خداع السوفييت الذين تصوروا أنها غير قادرة بكوادرها وقياداتها على استخدام هذا السلاح فى يد المقاتل المصرى.. وكانت تصلنا الكثير من تقارير سفاراتنا ودبلوماسيينا فى مناقشاتهم مع قرنائهم من الغربيين والأوروبيين بأن الجميع يتوقع أن يتقادم السلاح السوفيتى لدينا خلال عامين وأنه يصعب تصور موافقة السوفييت أو انجرافهم للمزيد من تعويض العرب بالجديد والمتطور من المقاتلات والدبابات والأسلحة الثقيلة.. وفى اعتقادى الجازم، أن أحمد إسماعيل على، القائد العام للقوات المسلحة كان يقدر أن فقدانه لهذا الجيش، مرة أخرى، أو تكرار هزيمة 67 سوف يمثل الضربة القاضية لمصر ونجاح إسرائيل على الجانب الآخر فى الإمساك بسيناء لعقود وربما أجيال قادمة.. من هنا جاء حذره الواضح فى تقييد الجيش وعدم الخضوع لمغريات التطوير ومزاياه.. حيث عواقبه أيضا كانت ماثلة أمامه.
وفى هذا السياق يجب أن أنقل عن مستشار الأمن القومى المصرى، محمد حافظ إسماعيل فى معرض تحليله لهذه الرؤية، قوله فى كتابه عن الأمن القومى المصرى ومعركة أكتوبر.. إنه وبإتمام القوات المسلحة تحقيق هدفها المباشر بتاريخ 10 أكتوبر، فينبغى أن أشير إلى أننى كنت من خلال أحاديثى مع الفريق أول أحمد إسماعيل على قبل نشوب الحرب، أدرك أنه لاينوى التقدم حتى الممرات الجبلية وأن ما جاء بتعليمات عمليات القيادة العامة بأن الهدف هو احتلال المضايق إنما قصد به أن يستحث القيادات الصغرى خلال مرحلة بناء رؤوس الكبارى على استمرار التقدم حتى الهدف المباشر للجيش.
واستمر الحشد المصرى بالتالى يتابع تجهيزاته وتحصيناته فى شرق القناة حتى دهمتنا الأزمة الأولى للمعركة مثلما سبق القول فى المقال الأخير المنشور فى مجلة روزاليوسف يوم 9 يناير2010ü. وأجد هنا وقبل الاستمرار فى سياق رؤيتى لهذه التجربة الشخصية للحرب وفى أسلوب إدارتها عسكرياً وسياسيا لزاما أن أعود وبإيجاز إلى عرض مقالاتى السابقة لكى أربط المسار بعضه البعض وحتى تكتمل الصورة مع التأكيد على قناعتى بأنه - وعندما تقرر الدول والمجتمعات أن تنهج نهج الصدام المسلح وتستخدم القوة العسكرية - فإن واجب الدبلوماسية هو استمرار التحرك لتأمين النجاح للعمل العسكرى وعدم إتاحة الفرصة لإعاقته.. وأخيرا استمرار البحث والسعى لاستكشاف كل الفرص التى ستتاح من أجل التوصل إلى الوضع الاستراتيجى والسياسى الأمثل عند الاتفاق على وقف إطلاق النار. وهذا فى تقديرى كان الشغل الشاغل عندئذ لحافظ إسماعيل، مستشار الأمن القومى للرئيس السادات ومجموعة العمل المصاحبة له.
وقد يتذكر القارئ الكريم أننى تناولت الاقتراب من الحرب واليوم الأول أو ربما الست وثلاثين ساعة الأولى للعمل العسكرى والظروف التى كانت تخيم علينا جميعا ثم تحقيق المفاجأة الاستراتيجية وما تبعها من ثقة مصرية بالنفس.. واستعراض وقف القتال وتحقيق مصر إلى حد كبير أهدافها من الصدام المسلح وباعتباره ترجمة عملية دقيقة لمفهوم الحرب وهى امتداد للسياسة بوسائل العنف المسلح.. وأخيرا أزمات الأسبوع الأول للحرب سواء على جانب تدهور أوضاع الجبهة السورية أو على جانب المساعى المشددة التى قام بها السوفييت لإقناع الرئيس السادات بقبول وقف إطلاق النار ورفضه الحاد لذلك.
واليوم نعالج تطورات العمل العسكرى وأزماته فى الفترة من الاضطرار لتطوير الهجوم المصرى والانطلاق شرقا وما صاحب ذلك من استمرار عمل دبلوماسى هادئ يحبس أنفاسه انتظارا لنتائج التطوير ولكى نصل إلى اللحظة التى نقدر فيها أن مصر وصلت إلى النقطة المبتغاة فى تحقيقها لأهدافها العسكرية ونبدأ فى السعى لجنى المكاسب السياسية.
الاستطلاع المصرى
وأبدأ بالقول أن تدهور الوضع على الجبهة السورية فرض على مصر أهمية التحرك لتخفيف الضغط على الجيش السورى واجتذاب قوات إسرائيلية رئيسية على جبهة سيناء.. إلا أن الملاحظ أن العدو الإسرائيلى كان وابتداء من يوم 12 أكتوبر يدفع بالكثير من وحداته الرئيسية فعلا فى اتجاه سيناء، كما كشف تقرير للاستطلاع المصرى فى سيناء، أرسلته العناصر المصرية المنتشرة فى العمق وراء خطوط العدو، وفى اليوم نفسه تم أيضا رصد تحرك كميات كبيرة من معدات الكبارى المنقولة وبما يشير إلى نية إسرائيل فى القيام بمحاولة لعبور قناة السويس.. وقد استغربت كثيرا عند قراءتى لهذا التقرير المعروض على حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومى.. إذ كيف يتصور الإسرائيليون أنهم سينجحون فى إزاحة القوات المصرية المتمركزة أمامهم وكيف يمكنهم التعامل مع الفرق المدرعة المصرية والأخرى الميكانيكية المتواجدة غرب قناة السويس وبالقرب منها وهى الفرق المدرعة 21،4 والأخرى المشاة الميكانيكى 32،6... وعلى أى الأحوال فمن الواضح أن هذه المعلومات لم تفرض اعتباراتها على الرئيس السادات الذى صمم على تطوير الهجوم.. أو على رؤية القيادة العامة التى تحركت تحت توجيهاته.. ومن جانبى أعلم أن جدلا حادا دار.. ونمى إلى علمنا فعلا فى هيئة مكتب حافظ إسماعيل فى هذا اليوم 13 أكتوبر - أن قائد الجيش الثانى اللواء سعد مأمون كان يقاوم فكرة التطوير لساعات طويلة حفاظا على القوات وتوازن الجيش على جانبى القناة، وأنه وفى سياق جدله مع القيادة العامة أصيب بأزمة قلبية خفيفة فرضت انزواءه وتكليف اللواء عبدالمنعم خليل بمهمة قيادة الجيش الثانى.
وكتبت فى يومياتى سعت 1700 من يوم السبت 13 أكتوبر أن أمام قواتنا حاليا ثلاث مجموعات قتال رئيسية وأن تقديرى أن دمشق لا يمكن أن تسقط.. بل ولن يسعى الإسرائيليون إلى الدخول إلى مدينة عربية بهذا الحجم والكثافة السكانية.. بل إن سوريا - على حد قولى فى اليوميات - سوف تنجح فى صد الاختراق. وأضافت اليوميات أن السفير البريطانيا قام بإيقاظ الرئيس سعت 0400 فجر يوم السبت 13 أكتوبر ونقل إليه رسالة من رئيس الوزراء البريطانى أن كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية طلب من رئيس الوزراء إليك هوم تقديم اقتراح للمصريين مفاده أن إسرائيل لن ترفض وقف إطلاق النار على الخطوط الحالية للقوات المتحاربة، وذلك إذا ما وافقت مصر.. وقد رفض الرئيس السادات هذا المسعى فى غياب أفق سياسى متكامل للتعامل مع الصدام وتوابعه السياسية.. وكان السفير السوفيتى قد أجرى هو الآخر اتصالا مباشرا مع الرئيس قبل ذلك ببضع ساعات وفى الدقيقة الأولى من السبت 13 أكتوبر مطالبا بالنظر فى وقف القتال. وكتبت فى يوميات نفس اليوم إن السوفييت يخشون على علاقاتهم مع أمريكا.. كذلك فإن لديهم خشية ولاشك على أوضاع النظام فى سوريا.. وقد طلب الرئيس وفقا لمحضر الاتصالات التى سجلها السيد عبدالفتاح عبدالله وزير الدولة لشئون مجلس الوزراء أن يكون وقف إطلاق النار مصحوباً بالاتفاق على مفهوم الانسحاب الإسرائيلى من سيناء وتفاهم على جدول زمنى لهذا الانسحاب مع عقد مؤتمر سلام تشارك فيه القوتان العظميان. وكتبت أيضا فى هذا السياق أن الرئيس يملك وضوح رؤية عظيما فهو يرى:
- إن إسرائيل تهاجم سوريا لهدف سياسى وليس عسكرى.. وللمساومة فى المستقبل.. كما أن العسكريين الإسرائيليين يبحثون عن نصر شكلى يخفى الصدمة الاستراتيجية التى تعرضوا لها وحلت بإسرائيل.
- إن الجبهة الأساسية هى جبهة قناة السويس.. وهى التى ستقرر نتيجة الصراع وأن المعركة الآن هى معركة مصر وليس سوريا وأن الفيصل سوف يكون هو نجاح مصر فى ضرب الجيش الإسرائيلى فى سيناء.
- لقد كانت مجموعة النقاط التى تحدث بها الرئيس السادات مع سفيرى الاتحاد السوفيتى وبريطانيا هى نفس النقاط التى تناولها محمد حافظ إسماعيل فى رسالته المكتوبة الأولى إلى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية مساء يوم 7 أكتوبر وأن هدف مصر الثابت هو فى التوصل إلى سلام شامل فى الشرق الأوسط وليس تسوية جزئية.. من هنا فإن على إسرائيل أن تنسحب من جميع الأراضى المحتلة، وعندئذ ستكون مصر على استعداد للمشاركة فى مؤتمر دولى للسلام تحت إشراف مناسب.
وبدأت الرسائل بين حافظ إسماعيل وكيسنجر تتزايد.. وجاء فى رسالة لحافظ إسماعيل يوم 9 أكتوبر أن على إسرائيل أن تنسحب إلى خطوط 5 يونيه ويعقد بعد ذلك مؤتمر سلام لوضع الاتفاق على سلام نهائى وأن مصر لا تمانع فى وجود دولى محدد فى شرم الشيخ للإشراف على حرية الملاحة فى مضيق تيران وصنافير.. وأخذ كل يعرض مواقفه.. ووضح أن الأمريكى فى إجاباته يناور ويراوغ لكى يستهلك الوقت انتظارا لنجاح إسرائيلى عسكرى على الأرض.. من هنا أخذت رسائل كيسنجر تطرح تساؤلات عن المقصود بإشارة مصر إلى الانسحاب من كل الأراضى وهل يسبق الانسحاب المؤتمر أم يتلوه وهكذا.. وعاودت رسالة جديدة من حافظ إسماعيل على تأكيد - مرة أخرى - الرؤية التى نقلها إلى كيسنجر فى بداية الصدام.
أزمة ثقة
لقد كانت هناك اعتبارات كثيرة للموقف المصرى الذى سار فيه الرئيس السادات ونفذه حافظ إسماعيل بالتزام واضح.. إلا أن المؤكد أن عدم الثقة المصرية فى كل من إسرائيل وأمريكا فرض ثقله على صاحب القرار بعدم التوقف عن الصدام خاصة مع خشيته أن يكون الجانبان الأمريكى والإسرائيلى يسعيان فقط إلى وقف مؤقت أو تكتيكى للنيران.. تعاود بعده إسرائيل.. عمليات عسكرية جديدة ضدنا.. إلا أن المؤكد أيضا أن القيادة السياسية المصرية ناقشت الأمر، خاصة مع تزايد الضغط السوفيتى لوقف إطلاق النار.. إذ جاء فى كتاب حافظ إسماعيل المشار إليه - أمن مصر القومى - أن الدكتور محمود فوزى كان يخشى ردود فعل سلبية فى صفوف قواتنا لو أنها دعيت الآن للتوقف، بينما تكبد القوات الإسرائيلية خسائر فادحة ويستمر تقدمها إلى الشرق من القناة.. لكن فوزى عاد واقترح أن تعلن إسرائيل احترامها للسيادة الكاملة للدول العربية المجاورة على أراضيها وأن تطلب رسميا وقف إطلاق النار.. والحقيقة أن ما كتبه حافظ إسماعيل فى هذا الكتاب لم يكن على الإطلاق بعيدا عن تفكيرى وأنا أتابع كل هذه التطورات من واقع ما أقرأه من مكاتبات ومحاضر عبدالفتاح عبدالله وغيرها من أوراق وتسجيلات تليفونية.
وتحركت مصر لتطوير الهجوم وبعد هذه الوقفة التعبوية فى الفترة من 6 إلى 13 أكتوبر والتى كان من المتصور أنها سوف تمتد حتى نهاية الصدام المسلح.. إلا أن الوضع السورى فرض الخروج منها نحو الشرق.
وعلمت أن تطوير الهجوم، تخفيفا عن سوريا، مثلما صمم الرئيس السادات، سيبدأ فى ساعة متأخرة من يوم 13 أكتوبر.. ثم تأجل حتى فجر يوم الأحد 14 أكتوبر.. وكتبت فى يومياتى سعت 1700 من يوم السبت أن إحدى طائرات الاستطلاع الأمريكية من طراز SR71 مرت فوق الدلتا والقاهرة وإلى قناة السويس وسيناء وخرجت من العريش عائدة إلى مقصدها الذى انطلقت منه فى قاعدة أمريكية بأوروبا.. وكانت على ارتفاع عال للغاية وبما لم يمكن المقاتلات المصرية أو نطاقات الصواريخ المضادة التصدى لها.. وكان لهذا الاستطلاع آثاره الهائلة على تطورات المعركة.. إذ كشفت الصور الجوية التى قدمها الأمريكيون إلى إسرائيل أن الوحدات الرئيسية المصرية الموجودة فى الاحتياط غرب القناة قد عبرت القناة إلى الشرق، أى بما يعنى النية فى التطوير.. وكشفت هذه الصور أيضا أن غرب القناة قد أصبح خاليا إلى حد كبير من القوات الرئيسية الثقيلة.. وتهيأ العدو بالتالى لتلقى ضربتنا.. ودخلت المعركة إلى ميزان غير مسبوق من الحساسية والخطورة.
وقامت قواتنا بهجوم التطوير صباح الأحد 14 أكتوبر.. وتوقف الهجوم فى المساء بعد تعرض قواتنا إلى خسائر كبيرة وصلت من حوالى 220 إلى 250 دبابة ومركبة مدرعة وهى خسائر لاشك جسيمة للغاية، وسجلت فى يومياتى سعت 0700 من صباح الاثنين 15 أكتوبر من الواضح أن هجومنا قد توقف وهذا سيكون له آثاره الخطيرة على المعركة.. كما أن من المهم عدم التخلى عن عنصر المبادأة للعدو وإلا ضربنا دون رحمة.. من هنا يجب الاستمرار فى العمليات النشطة والضغط عليه.
وقد لاحظت بعد ذلك بسنوات، أن السيد حافظ إسماعيل توصل إلى نفس النتائج التى طرحها فى كتابه أمن مصر القومى عندما ذكر كان الهجوم الذى شنته قواتنا خلال نهار يوم 14 أكتوبر قد حقق الهدف منه، حتى من قبل أن يبدأ انطلاق القوات من قواعدها داخل رءوس الكبارى.. فمنذ 13 أكتوبر توقفت العمليات الهجومية الإسرائيلية فى جبهة الجولان وأمكن درء الخطر الذى يهدد دمشق، إلا أنه مع انتهاء معركة التطوير فى مساء 14 أكتوبر، كانت القيادة العسكرية المصرية قد استنفدت طاقة قواتنا، وبذلك سلمت بميزة المبادرة التى حققتها منذ 6 أكتوبر.. إلا أن الحقيقة أيضا أن ميزة هذه المبادرة كانت تتآكل منذ بداية الوقفة التعبوية الممتدة لتنتقل فى النهاية إلى القيادة الإسرائيلية.
وأقول من جانبى وبكل اقتناع أن أحمد إسماعيل على، وقيادة الجيش التى واجهت هذا الموقف بالغ الصعوبة والحساسية فى مساء 14 أكتوبر قد اتخذت القرار الأسلم.. وهو وقف المضى فى الهجوم وتفادى تعريض القوات لمزيد من الخسائر الفادحة، خاصة لما لذلك من تأثير على مستقبل المعركة وعلى ضوء ما قد تقوم به إسرائيل من عمليات مضادة كشفت عنها عمليات الرصد والاستطلاع قبل 72 ساعة أى يومى 11 و12 أكتوبر.
وأعود مرة أخرى إلى ما تضمنه كتاب حافظ إسماعيل فى تحليله لنتائج هذا اليوم أن الأمر كان يقتضى المسارعة من جانبنا بإعادة تسليح وتنظيم الوحدات التى خاضت المعركة وإعادة تجميعها وانتشارها خلال ال24 - 48 الساعة التالية استعدادا للمرحلة القادمة والحتمية من عمليات العدو، أخذا فى الاعتبار أن فشل الهجوم المصرى يوم 14 أكتوبر كان هو المنطلق الصحيح لشن الهجوم الإسرائيلى المضاد.
والحقيقة أن هذه النقاط التى تناولها حافظ إسماعيل فى تحليله لتوابع معركة التطوير لم تكن غائبة عن ذهن صاحب القرار المصرى الذى سعى للحصول على أكبر دعم عسكرى لمواجهة متطلبات هذه المرحلة الخطرة القادمة. وترصد يومياتى سعت 0700 لنفس اليوم الاثنين 15 أكتوبر أن مصر حصلت على مائتى دبابة من يوغسلافيا، كانت سترسل خلال الأيام التالية بالبحر إلى ميناء الإسكندرية، كذلك كان هناك حديث يدور حول دبابات من كل من المغرب/ الجزائر/ ليبيا.
إن الأدميرال جون جيلكو الذى كان يمكن أن يخسر الحرب لبريطانيا فى نصف نهار.. وأن أحمد إسماعيل على، القائد العام للقوات المسلحة.. كان يمكن أن يخسر الحرب هو الآخر خلال نهار14 أكتوبر.. إذا ما كان قد صمم على الاستمرار فى عمليات الهجوم وصولا إلى مداخل المضايق مثلما كان الهدف عندئذ.
الجهد الدبلوماسى
اقترنت الأيام القليلة التالية لنجاح إسرائيل فى إجهاض جهد القوات المصرية لتطوير الهجوم يوم 14 أكتوبر بعدد من التطورات المهمة التى كان لها تأثيرها الكبير على شكل مسار العمل العسكرى من ناحية، والجهد الدبلوماسى من ناحية أخرى، فقد تحرك الرئيس السادات يوم 16 أكتوبر لكى يطرح أمام مجلس الشعب المصرى الرؤية المصرية المتكاملة فيما تتصوره مصر من شكل للتسوية المقترحة ويصوغ بشكل متكامل كل ما تحدث به مع سفراء الدول الرئيسية على مدى الأيام السابقة وما تضمنته رسائل محمد حافظ إسماعيل إلى كيسنجر طوال الأسبوع الأول للحرب.
وجاء حديث الرئيس السادات أمام المجلس لكى يؤكد أن هدف مصر هو استعادة أراضيها فى سيناء وتحريرها من الاحتلال الإسرائيلى، كما أن مصر على استعداد لقبول وقف إطلاق النار على أساس انسحاب إسرائيل من كل الأراضى المحتلة فورا وتحت إشراف دولى، وأن مصر على استعداد، فور إتمام الانسحاب من كل الأراضى المحتلة، أن تحضر مؤتمر سلام دوليا بالأمم المتحدة من أجل وضع قواعد وضوابط سلام فى المنطقة يقوم على الحقوق المشروعة لكل شعوبها، ثم ذكر الرئيس أخيرا استعداد مصر للبدء الفورى بتطهير قناة السويس وفتحها للملاحة.. ولا شك أن هذا الطرح تضمن إشارات جديدة بشأن الحقوق المشروعة لكل شعوب المنطقة وكذلك ضوابط وقواعد السلام فى المنطقة.. وهى كلها إشارات مضت فيها مصر منذ ذلك الحين وحتى الوصول إلى محادثات كامب دافيد وتوقيع معاهدة السلام المصرية/ الإسرائيلية، مرورا بمؤتمر جنيف للسلام فى ديسمبر73 .
وكان حافظ إسماعيل فى سياق اتصالاته مع كيسنجر قد نقل إلى الأخير رؤية مصرية قريبة لما تحدث به الرئيس وإن كانت قد تقدمت بعض الشىء عما جاء على لسان الرئيس أمام الشعب، وقد طلب إسماعيل يوم 10 أكتوبر أن تنسحب إسرائيل فى فترة زمنية محددة إلى خطوط 5 يونيو وذلك تحت إشراف الأمم المتحدة وأنه عند إتمام الانسحاب تنهى حالة الحرب، كما أنه وبعد الانسحاب أيضا يوضع قطاع غزة تحت إشراف الأمم المتحدة وإلى حين مباشرة الفلسطينيين حق تقرير المصير، وجاء رد كيسنجر سريعا على خطاب الرئيس أمام مجلس الشعب وكذلك رسالة حافظ إسماعيل المرسلة يوم 9 أكتوبر المشار إليها بعاليه، وحيث وضح أن أمريكا تبغى إنهاء القتال والصدام الحالى تحت ظروف تسهل التقدم نحو تسوية نهائية. وكانت هذه الفقرة فى رسالة كيسنجر كاشفة لما سعى إليه الأمريكى خلال الأسبوع التالى من القتال والتى استهدفت مساعدة إسرائيل بكل الدعم العسكرى لكى تعيد التوازن العسكرى والاستراتيجى مع مصر وبما يمكن كيسنجر أن يلعب دوره فى التقريب بين الأطراف والتحرك بها نحو تسوية للنزاع، وعاد كيسنجر لكى يؤكد لحافظ إسماعيل أن الرؤية المصرية التى جاءت فى خطاب الرئيس السادات ورسائل مستشار الأمن القومى المصرى، لا يمكن تحقيقها إلا من خلال حرب ممتدة وأن مصر عليها أن تنظر فى تقييد أهدافها إذ إن الإصرار على الحد الأقصى للرؤية المصرية سيعنى استمرار الصدام المسلح واحتمال تعرض كل النجاح المصرى المحقق حتى الآن للتآكل. وركز كيسنجر أخيرا على مطلبه فى أهمية وقف إطلاق النار على الخطوط الحالية مع تأمين موافقة الأطراف المتنازعة ببدء مفاوضات تحت إشراف الأمم المتحدة لإقامة سلام كامل وعادل على أساس القرار 242 مع أهمية التوازن بين السيادة والأمن. وكان كيسنجر فى هذا السياق قد كتب إلى حافظ إسماعيل يوم 14 أكتوبر بأن أمريكا سوف تسعى إلى إمداد إسرائيل بمعدات ومواد تستهلك.
وكتبت فى يومياتى سعت 0700 من يوم 15 أكتوبر أن هذه الرسالة الأخيرة توضح أن القرار الأمريكى فى البدء بالإمداد يشير - كحجة - إلى بدء السوفييت فعلا بإمداد مصر وسوريا باحتياجاتهما للاستمرار فى المعركة، وأوضح كيسنجر أيضا فى رسالته أن الولايات المتحدة ستوقف هذا الإمداد فور توقف القتال، وأضاف أنه يريد استمرار هذا التشاور المفيد وأنه طلب من إسرائيل عدم التعرض للمدنيين وأنه كان أيضا قد حصل من إسرائيل على موافقة بوقف إطلاق النار على المواقع الحالية إلا أن مصر هى التى رفضت الأمر.
وبطبيعة الحال فإن أى قارئ اليوم لهذه الرسائل مع ربطها بتطورات القتال على الأرض بدءا من يوم 15 أكتوبر مساء يصل إلى هذه النتيجة الواضحة أن أمريكا كانت قد قررت فى ضوء رفض مصر لوقف إطلاق النار أن تسعى إلى إحداث تغيير جوهرى على الأرض يعيد التوازن إلى الموقف، من وجهة النظر الأمريكية، ويمكن إسرائيل من تحقيق مكاسب فى مقابل المكاسب المصرية فى تحطيم خط بارليف واستعادة السيطرة العسكرية المصرية على هذا الشريط الممتد على طوال مواجهة القناة وإلى الشرق منها وبعمق 10-15 كيلو مترا.
وأقول إن هذا التبادل المصرى/ الأمريكى للرسائل والمواقف وطرح الرئيس لرؤيته بشكل متكامل أمام المجتمع الدولى، اقترن أيضا بزيارة مهمة قام بها كوسيچين رئيس وزراء الاتحاد السوفيتى، للقاهرة مساء يوم 16 أكتوبر، وكان الواضح أن الرئيس السادات وفى اختياره لموعد إلقاء بيانه أمام مجلس الشعب فى صباح يوم وصول كوسيچين، استهدف طرح الموقف المصرى المتكامل وبما لا يتيح لكوسيچين أن يؤثر على قرارنا فى المضى إلى السعى لتحقيق أهداف الصدام وعدم القبول بالمطلب السوفيتى لوقف إطلاق النار على الخطوط الحالية دون وضوح الأفق السياسى للتسوية المطلوبة.. وكتبت فى يومياتى لهذا اليوم سعت 0100 من الثلاثاء 16 أكتوبر يحضر كوسيچين إلى مصر اليوم/ سيحاول الضغط علينا من أجل وقف إطلاق النار/ سيلقى الرئيس خطابه ليسبق كوسيچين وليعلن مبادرته فى النقاط الخمس وسوف يورط ذلك السوفييت فى مواجهة الأمريكيين الذين أخذوا هذا القرار المتعلق بالدعم العسكرى لإسرائيل/ سوف يتأزم الموقف سياسيا.
وجاء فى اليوميات فى هذا السياق أيضا إشارة إلى محاولة الرئيس فى استخدام اتصالاته الوثيقة بشاه إيران لكى يتحرك فى اتجاه أمريكا ولتخفيض غلواء الموقف الأمريكى.. وهنا يجب أن أذكر أن الرئيس السادات قد أبقى على أكبر قدر من التواصل والاتصال مع الشاه منذ بداية العمل العسكرى عن طريق سفير إيران النشط بالقاهرة عندئذ.. وأخذ الشاه من جانبه يتجاوب مع السادات ويرد عليه ويسعى لمحاولة التأثير على الموقف الأمريكى لصالح مصر.. وهى مسألة لا أعتقد أنها كانت بعيدة عن تفكير الرئيس وردود فعله على ما واجهه الشاه بعد ذلك وقبول السادات بلجوئه إلى مصر.
ومن المهم هنا أن أتطرق إلى ما سبق أن تحدث به حافظ إسماعيل معى فى الأيام الأولى للصدام حيث قال ما معناه أنه لا يمانع الآن فى لقاء إيجال آلون خاصة وقد تحررت مصر من مأساة وإذلال معركة 67 (مقالى الأخير بالأهرام وروز اليوسف يوم 10 يناير 2010).. وأعود للقول بأن يوميات سعت 0100 من يوم 16 تتناول أيضا هذه المسألة مرة أخرى، وحيث عاودت مناقشة الأمر مع مستشار الأمن القومى مشيرا إلى أهمية متابعة التحرك فى اتجاه ما سبق أن تحدث به يوم 9 أكتوبر وأننا يجب أن نتسلح بالمرونة فى تفكيرنا ولا نمانع فى اللقاء مع الإسرائيليين بشكل مباشر خاصة وقد أبرحناهم ضربا.. وأجاب حافظ إسماعيل أن ما يقلقه هو سوريا والخسارة التى حلت بها فى الأراضى وكيف يمكن ترضيتها.. كذلك فإن الدول العربية التى سارعت بالمشاركة فى القتال بوحدات صغيرة سوف تمثل هى الأخرى مشكلة يجب التعامل والتفاعل معها.
تنسيق سياسى
وأعود الآن إلى زيارة كوسيچين وجلساته الممتدة مع الرئيس السادات بمفردهما وبهدف الاتفاق ليس فقط على شكل التنسيق السياسى المصرى/السوفيتى المشترك على مستوى الاتصالات مع الأمريكيين وعلى مستوى مجلس الأمن، ولكن أيضا للتفاهم على ما سوف يقوم السوفييت بإمدادنا به من معدات وأسلحة.. وأتذكر قراءاتى لأحد محاضر مقابلات الرئيس مع السفير السوفيتى بالقاهرة فى اليوم السابق لزيارة كاسيجين قوله للسفير أرجو أن تخطر صديقى أليكسى كوسيچين أن يعد نفسه ويفتح جيوبه وسوف أضع يدى فيها وأغترف مما بها من معدات وأسلحة وكل احتياجات قواتنا.
وجاء التفاهم المصرى/ السوفيتى فى نهاية هذا اللقاء بين السادات وكوسيچين الذى غادر القاهرة يوم 19 أكتوبر مع بدء تهديد حاد للوضع العسكرى المصرى، وبحيث يقوم السوفييت بالسعى مع الأمريكيين للاتفاق على تحرك سوفيتى/ أمريكى مشترك لوقف إطلاق النار مع بدء انسحاب إسرائيل فور تحقيق وقف إطلاق النار تنفيذا للقرار 242 مع الحصول على ضمانات أمريكية/سوفيتية مشتركة لتنفيذ كل عناصر هذا التفاهم.
وفور وصول كوسيچين إلى موسكو قام بطلب قيام الأمريكيين بإيفاد كيسنجر إلى العاصمة السوفيتية بشكل فورى للتشاور حول ما يمكن لهما القيام به سويا للسيطرة على الاقتتال ووقفه والتحرك فى اتجاه تسوية مرضية ومؤتمر دولى.
وأجد من الضرورى فى هذا السياق الذى سيطر عليه العمل الدبلوماسى أن أعود إلى تناول الوضع العسكرى الذى بدأ يتطور بشكل أشار إلى وجود أخطار فى تقليص نجاحنا المحقق حتى هذه اللحظة من الصدام.
سكوت مريب
وأقرأ فى يومياتى من نفس يوم الثلاثاء 16 أكتوبر سعت 1720 العدو يقوم باختراق بين ج2 و ج3 ويدفع بقوات برمائية عبر البحيرات المرة فى مواجهة منطقة الدفرسوار ويهاجم الضفة الغربية للقناة بهدف تدمير المعابر الخاصة بقواتنا وبطاريات الصواريخ المضادة للطائرات التى تعوق حرية الحركة لمقاتلاته القاذفة فى التصدى لقواتنا/ قواتنا المدرعة وأساسا الفرقة 21 المدرعة تهاجمه بعنف حتى سعت 1400 من اليوم/ سنفقد المبادأة بسبب جمودنا الحالى/ يجب أن نتحرك بسرعة وإلا سنخسر كثيرا/ ماذا يهدف العدو بعملياته هذه/ هل تطوير هجوم فى الغرب؟ ربما/ أشعر بالضيق الشديد بسبب نشاط زائد للعدو وهو ما تسببنا فيه بعدم حركتنا.. وأعود إلى اليوميات سعت 1500 من يوم الأربعاء 17 أكتوبر وقد تضمنت قولى سكوت مريب/ القتال عنيف جدا فى محور الفرقة المشاة 16 من الجيش الثانى/ لا بيانات ولا أخبار أو إبلاغات/ هل يرغب العدو بعملياته تحقيق ثغرة على الضفتين الشرقية والغربية للقناة/ يجب وبسرعة قتل قواته فى الغرب وحتى لا يكرر المحاولة..
يجب قتل قواته وليس الأسر.. القتل/ من الواضح أن العدو قد بدأ معركة مصر رغم أنه لم ينه معركة سوريا ولن يتمكن من إنهائها ومن ثم لا يتصور أنه يستطيع أن ينهى بنجاح معركة مصر.
وقد اطلعت بعد كتابة هذا التقييم بسنوات طويلة على مستند بريطانى رسمى تناول هذه الفترة من الصدام وحيث جاء بالتقرير البريطانى المعروض على رئيس الوزراء البريطانى سعت 1130 يوم الثلاثاء 16 عام 73 أن الأغلب أن تحاول القوات الإسرائيلية فى سوريا الوقوف على مواقع تهدد دمشق ولكن فى نفس الوقت تمكن الإسرائيليين من الدفاع عنها بقوات أقل وبما يتيح للإسرائيليين نقل قواتهم إلى جبهة سيناء.
وبطبيعة الحال لم أكن على اطلاع بأن إسرائيل ستقوم فى الأيام التالية بنقل الجزء الأعظم من قواتها للتعرض للقوات المصرية فى جبهة القناة.
واستمر القتال فى الأيام الحرجة التالية وتضمنت اليوميات سعت 0800 من صباح الخميس 18 أكتوبر معركة الأمس كانت حرجة للغاية/ العدو يهدف إلى إقامة رأس جسر له على الجانب الغربى للبحيرات وضرب الجيش/ قواتنا المدرعة تضربه فى أجنابه.. ونصل فى اليوميات إلى سعت 0100 من يوم الجمعة 19 أكتوبر لكى أكتب لقد فقدنا المبادأة وسندفع الثمن/ من الواضح أن للعدو فعلا قوات كبيرة قادرة على التعامل معنا فى الغرب من القناة/ المستشار مع ذلك واثق من نجاحنا فى الصدام العسكرى/ يجب أن نضرب رأس الجسر الإسرائيلى ثم نضرب الاختراق فى الشرق/ يجب أن ننتزع المبادأة بالعمل الفعال النشط وإلا تدهور الموقف وقد نضطر بالتالى إما إلى سحب الجيش من سيناء لمواجهة الاختراق فى الغرب أو خسرانه.
وتصل اليوميات بعد ذلك إلى سعت 1700 من نفس يوم الجمعة 19 أكتوبر وأكتب تحاول إسرائيل إما الحصول على مجرد رأس جسر وانتظار وقف إطلاق النار.. أى أن إسرائيل لم تهزم.. أو أن تعمل على تطويق الجيش الثانى.. وهذه العملية صعبة للغاية وتحتاج للكثير من الجهد ولا أعتقد أن لإسرائيل قدرا مناسبا من القوات لتحقيق هذا الهدف/ يقول المستشار فى أحاديثه معنا إن أمريكا وإسرائيل تعملان على خروج الجميع متساوين ومن ثم يسهل التوصل إلى تسوية تالية/ حافظ إسماعيل لا يزال متفائلا ويفكر فى الكيفية التى سنحقق بها وقف إطلاق النار حسب الاتفاق مع كاسيجين والعمل على الفصل بين القوات وأسلوب تنفيذ ذلك وكيف سنتناول رأس الجسر الإسرائيلى فى الغرب مع وقف إطلاق النار. وتصل اليوميات إلى اللحظات الحرجة يوم السبت 20 أكتوبر وأكتب قواتنا تسعى لإغلاق ثغرة الاختراق من الشرق والغرب معا وتتعرض لخسائر رهيبة ولكنها تقاتل بشراسة متناهية.
ونقترب بعد ذلك وخلال اليومين التاليين وبسرعة إلى قبول وقف إطلاق النار وأكتب سعت 0815 من الأحد 21 أكتوبر حضر أشرف مروان للقاء حافظ إسماعيل سعت 0200 من فجر هذا اليوم واصطحبه إلى الرئيس ثم عاد بعد فترة وجيزة وطلب مستشار الأمن القومى قيام وكيل المخابرات العامة رفعت حسنين باستدعاء ممثل المخابرات المركزية بالقاهرة لإبلاغه بإرسال رسالة إلى كيسنجر فى موسكو بموافقة مصر على وقف إطلاق النار على الخطوط الحالية وعقد مؤتمر سلام فورى بضمان أمريكى/سوفيتى بتحقق هذا الوقف للاقتتال وانسحاب إسرائيل/ من الواضح أن الموقف العسكرى الصعب قد فرض هذا القرار/ أبلغنا المستشار حافظ إسماعيل أن القائد العام وبعد أن قام الرئيس السادات بزيارة مقر العمليات والتأكد من خطط المواجهة مع الاختراق الإسرائيلى، اختلى بالرئيس حيث أبلغه أنه يحتاج للمزيد من الاحتياطات التى يتطلب إعدادها وتجهيزها وقتا ولكى نعاود الصدام المسلح مع الإسرائيليين فى الشرق والغرب من القناة.. من هنا فإن أحمد إسماعيل على لا يمانع من التوصل الآن إلى وقف لإطلاق النار لتحقيق بناء المزيد من القدرات والحتياطات..
وأضفت فى اليوميات أن وقف إطلاق النار قد يتم بعد حوالى ثلاثة أيام والمتصور أن إسرائيل ستقبل هى الأخرى بذلك ولا شك أن الأمريكيين سيهتمون وبسرعة بوقف القتال على الخطوط الحالية وبحيث تكون مصر فى سيناء وإسرائيل فى الغرب من القناة ومن ثم تحقيق التوازن الذى يسعى كيسنجر لتحقيقه وبحيث يتم تسهيل العمل الدبلوماسى والتوصل إلى التسوية.
وخلاصة القول مثلما رأيتها منذ 37 عاما، وتعزز اقتناعى بها عندما عاودت الاطلاع على ما كتبته عندئذ وما كتب من قبل آخرين، فى مقدمتهم حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومى.. أن إجهاض تطوير الهجوم نحو مداخل الممرات بسيناء يوم 14 أكتوبر وخسائرنا الفادحة فى ذلك اليوم.. أتاح لإسرائيل فرصة الهجوم المضاد وتحقيق ثغرة فى دفاعات قواتنا فى الشرق ثم الوثوب إلى الفضاء المصرى الخالى من القوات فى الغرب وتحقيق هذا النجاح الذى أثر على علاقات القوى بين الطرفين والتوازن العسكرى بينهما.
ولا شك أن التدخل الأمريكى الكاسح للإمداد لإسرائيل كان له تأثيره الأكبر.. ليس فقط لتحقيق هذا الاختراق.. ولكن أساسا فى تمكين الجيش الإسرائيلى فى التصدى للتطوير المصرى.. وأعتقد أنه ليس ببعيد أيضا أن خفوت القتال على الجبهة السورية فى الفترة من 13 حتى صدور قرار وقف إطلاق النار فى 22 أكتوبر كان له أثره فى إتاحة الفرصة للإسرائيليين بتحريك قواتهم إلى الجنوب نحو سيناء وهو ما كشفت عنه تطورات المعركة من ناحية، وأكدته التقارير الدولية من ناحية أخرى وهو الأمر الذى سوف تتناوله المقالات القادمة إن شاء الله.
ويبقى أن نقص الاحتياطات الفاعلة المصرية كان له أثره فى إتاحة الفرصة للإسرائيليين بالتحرك الناجح فى الغرب وتوسيع آثار التهديد للقوات المصرية.. ومع ذلك يبقى أن نؤكد أن قوة الأداء العسكرى المصرى وصلابته وتصميمه فى استمرار الضغط على الإسرائيليين فى غرب القناة وشرقها والكمائن ذات التأثير القاسى على الإسرائيليين والخسائر الكبيرة التى حلت بهم فى هذه المنطقة كان لها أيضا ثقلها فى وصول القيادة الإسرائيلية إلى الخلاصة بأن أقصى ما سوف يمكنهم تحقيقه هو إقامة قدر من التوازن مع مصر وبما يفتح الطريق لمفاوضات نشطة للتسوية.
مناورات
لقد ناور كيسنجر والجانب الأمريكى لكى يصل الوضع بين الجيشين إلى هذه النتيجة وبحيث يتحرر الجانبان من عواقب إحساس أحدهما بهزيمته من الآخر وبما فتح فعلا الطريق إلى هذا النشاط الدبلوماسى والسياسى فى الفترة التالية لتوقف القتال.. والمؤكد أيضا هنا أنه ينبغى الإشارة إلى أن النجاح الاستراتيجى المصرى كان هو الأساس فى تحريك الأوضاع وإعادة التوازن الاستراتيجى فى الشرق الأوسط بين مصر وسوريا من ناحية، وإسرائيل على الجانب الآخر، وبما أدى إلى انزواء تأثير هزيمة 67 إلى حد كبير فى علاقات الطرفين بعضهما البعض. ويبقى أن أملى كبير فى أن أتابع الكتابة فى هذا الموضوع وأستعرض هذه الفترة بالغة الصعوبة التى اتسمت بها الأوضاع العسكرية والدبلوماسية فيما بين 21 أكتوبر وحتى 28 أكتوبر، يوم توقف القتال فعلا.. كما آمل مواصلة تحليل الكثير من العناصر التى فرضت ثقلها علينا وعلى القيادتين السياسية والعسكرية للحرب وخلاصتها الاستراتيجية النهائية الناجحة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.