ما قاله الرئيس حسني مبارك خلال خطابه الهام في عيد الشرطة هو ملاحظة مباشرة للمؤسسة الدينية (المسيحية والإسلامية) في مصر لتراجع نفسها وتقيِّم خطابها الديني الذي أسهم فيما وصل إليه حال العلاقات في المجتمع المصري. ولقد ترتب علي ذلك طرح العديد من الأسئلة الهامة، منها: هل هناك أوجه للشبه بين البابا شنودة الثالث (بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية) وبين الشيخ محمد سيد طنطاوي (شيخ الأزهر الشريف)؟، وهل هناك مساحات من الاتفاق والاختلاف في توجهات كل منهما في القضايا العامة، وفيما يخص التعامل مع الأزمات والتوترات الطائفية بشكل محدد؟. ولنبدأ بالبابا شنودة الثالث.. الذي لا يختلف أحد في كونه شخصية من الوزن الثقيل.. شخصية كاريزماتية من طراز خاص.. له فكره وآراؤه.. التي دائماً ما يصطحبها بعض كلمات الدعابة.. مهما كانت حساسية ما يتكلم فيه أو أهميته. وهو ما يجعل قنوات التواصل بينه وبين الآخرين بدون انقطاع. يعتبر البابا شنودة الثالث واحداً من أكثر البطاركة والباباوات إثارة وجدلاً ليس فقط لأهمية مركزه الديني الذي سيكمل 40 عاماً علي توليه له في عام 2011 فحسب، بل لكونه أيضاً من المشاركين في العديد من المواقف والأحداث التاريخية المهمة في النصف الثاني من القرن العشرين، وإلي الحد الذي وصلت فيه هذه الأحداث إلي درجة الأزمة، مثل: أحداث سبتمبر سنة .1981 كما أذكر - أيضاً - أنه ابن ثورة 1919 بما تحمله من معاني الولاء والانتماء.. للمواقف السياسية الوطنية. هناك أفراد تصنعهم المؤسسات التي يتولون رئاستها لما لهذه المؤسسة من ثقل أو تأثير في المجتمع؛ غير أن الحال يختلف مع البابا شنودة الذي تولي رئاسة الكنيسة القبطية.. فأحدث تحولا جذريا في آلية عملها وتفاعلها.. مما زاد من أهمية الكنيسة ومكانتها في المجتمع من جانب، وأعطي للكرسي البابوي هيبته بإضافة أبعاد أخري جديدة له من جانب آخر. كما أنه مع مرور الوقت وتنوع الخبرات وتراكمها تنامي حضور البابا شنودة ودوره في المجتمع، وبالتبعية الكنيسة.. كظاهرة تعبر عن سيادة النمط المصري تاريخياً، وسطوته علي الأفراد وعلي المجتمع ككل في آن واحد، غير أن بروز دور البابا بدرجة أكبر من دور الكنيسة كمؤسسة هو موضع النقاش ومحل الجدل الذي يثار بين الحين والآخر.. خاصة في الحديث عن دور البابا مع كل توتر أو أزمة طائفية، أو في اختزال التوتر في شخصه وحده. - يختلف البعض مع البابا شنودة الثالث، ولكن تقف عند حدود بعض المواقف الوطنية التي تستحق التقدير.. بدون شك في مرجعيتها الوطنية، وعلي سبيل المثال: - قضية منعه للأقباط من زيارة القدس، وكتاباته المتميزة في تفنيد المزاعم الصهيونية حول كونهم شعب الله المختار أو غير ذلك. وهي قضية له إسهام بارز فيها منذ الستينيات حينما كان الأنبا شنودة (أسقف التعليم). ورغم تحفظ بعض من الأقباط علي هذا المنع، ومحاولة إثبات نقيضه؛ فأعتقد أن قراره - في حقيقة الأمر - لا يخلو من رؤية مستقبلية للوطنية ومعناها.. للتأكيد علي أن الأقباط جزء متفاعل مع هموم هذا الوطن من داخله، وليس من خارجه بالطبع. - قضية الحماية الدينية والتدخلات الأمريكية الموسمية بحجة متابعة أحوال أقباط مصر حيث كان أول من أكد علي رفض الأقباط التام للتدخل في الشأن الوطني الخاص.. لأنه لا يمكن أن نناقش همومنا الداخلية من خلال (أجندة) خارجية.. حتي ولو كان غيرنا يدعي حرصه علي الحريات. وفي الوقت نفسه، يلجأ للدولة عند كل توتر طائفي.. باعتبارها الكيان الذي تقع عليه مسئولية أبناء هذا الوطن بهمومهم ومشكلاتهم سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين. كما رفض مقابلة وفد لجنة الحريات الدينية الأمريكية للسنة الثانية علي التوالي منذ عدة أيام. أما المواقف العامة فيمكن أن نحصرها في مجالين : الداخلي.. أي النهضة التي شهدتها الكنيسة القبطية في الفترة الأخيرة للدرجة التي صارت لها مكانة رفيعة عالمياً سواء في مجلس الكنائس العالمي أو في مجلس كنائس الشرق الأوسط من جانب، وكنموذج للسماحة الدينية المصرية (نموذج مشاركة البابا شنودة في اللقاءات الإسلامية) من جانب أخر. أما الخارجي فهو المتمثل في العلاقات الحميمة التي تربط بين الكنيسة وبين كل من: مشيخة الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف ومجمع البحوث الإسلامية وبقية المؤسسات الإسلامية، والحفاظ علي قنوات للاتصال والحوار المباشر بينهم، بالإضافة إلي اللقاءات المشتركة لتوعية المجتمع المصري من بعض الأخطار، منها: مكافحة التدخين ومكافحة الإدمان. - وربما يكون هذا البعد الأخير يرتبط بشكل أساسي في تواصل البابا شنودة الثالث مع المؤسسة الإسلامية في مصر من خلال شخصية الشيخ محمد سيد طنطاوي (شيخ الأزهر الشريف).. هذا الرجل الذي يمثل صورة مجسدة للشخصية المصرية الأصيلة سواء في (طيبتها) التي تعود إلي محافظة سوهاج أو لكونه يمثل النموذج الصحيح للإسلام المعتدل والمستنير.. الذي يحرص أشد الحرص علي التواصل مع البابا شنودة الثالث.. خاصة في ظل الأزمات. - تتسم شخصية الشيخ محمد سيد طنطاوي ببساطة (الصعايدة) وأخلاقهم، وتواضع (الكبار) وشهامتهم، وسماحة (العلماء) ونبوغهم.. منذ توليه دار الإفتاء وحتي أصبح الإمام الأكبر لمشيخة الأزهر.. فهو يرفض أن يرافقه الحرس الشخصي في الكثير من الأحيان.. خاصة عندما يمشي بعد صلاة الفجر. يعتبر الشيخ محمد سيد طنطاوي من أكثر الشيوخ جدلاً سواء بالاتفاق أو بالاختلاف في العديد من القضايا ذات البعد السياسي أو البعد الفقهي.. بداية من اختلافه عندما كان مفتياً مع الشيخ جاد الحق (شيخ الأزهر الراحل) حول قضية فوائد البنوك وقضية نقل الأعضاء البشرية. ومروراً بلقائه مع حاخام إسرائيل الأكبر.. والذي تسبب في صدام مباشر داخلي بينه وبين جبهة علماء الأزهر تحت رئاسة الشيخ عبد المنعم البري.. وخارجياً مع العديد من التيارات السياسية، وصولاً إلي صدامه مع بعض الصحفيين بشكل مباشر. وهو الصدام الذي لم يتراجع فيه الشيخ محمد سيد طنطاوي من أجل الحفاظ علي كرامة شيخ الأزهر وهيبته. وذلك رغم رفضه التام لحالة الجدل التي يرفضها في كتاباته ومقالاته بجريدة الأهرام. اتخذ الشيخ محمد سيد طنطاوي مواقف حاسمة في العديد من القضايا الشائكة والطارئة التي وجد نفسه فيها مطالباً بالتحليل والتفسير والحسم، وعلي سبيل المثال: إدانته لتنظيم القاعدة وحوادث الإرهاب وقتل المدنيين، موقفه من العمليات الاستشهادية لأبناء فلسطين. ولقد اتسمت ردود أفعال الشيخ بالهدوء والتوازن في الطرح والتقديم. ويكفي عمل بحث سريع علي شبكة الإنترنت علي اسم د. محمد سيد طنطاوي (شيخ الأزهر الشريف) لنجد العشرات والعشرات من القضايا التي كان لرأيه فيها جدل وخلاف. - يحسب للشيخ محمد سيد طنطاوي أن الأزهر الشريف في عهده قد تحول إلي بؤرة اهتمام العالم كله فيما يخص صحيح الدين الإسلامي كمرجع سني معتدل ومستنير. وهو ما جعله (قبلة) العديد والعديد من الوفود الأجنبية والشخصيات السياسية من رؤساء وزارات وإلي رؤساء الجمهوريات. كما أن زيارته لأي دولة في العالم تكون محط تركيز ديني واهتمام سياسي بقدر مكانة الشيخ محمد سيد طنطاوي الدينية والعلمية.. للدرجة التي جعلت العديد من جامعات العالم بما فيها بعض الجامعات المسيحية الأوروبية والأمريكية تهديه الدكتوراة الفخرية لقيمته. - ومن الكلمات السابقة، من السهل أن نلحظ أن شخصية كل من البابا شنودة الثالث والشيخ محمد سيد طنطاوي.. من الشخصيات ذات التأثير فيما حولها سواء بالاتفاق مع ما تطرحه وتقوله، أو بالاختلاف معها لحد الهجوم عليها. وهو ما يعود إلي أن لكل منهما أفكاره الخاصة واعتقاداته الدينية وقناعاته المتعلقة بالقضايا السياسية التي لا تجعلهما ينساقان خلف حالة الفوضي الدينية الموجودة في المجتمع أو الخضوع لابتزاز البعض لهما بالتشكيك فيما يقولان. وربما يكون انتماؤهما المشترك (الأول لأسيوط والثاني لسوهاج) قد جعل منهما شخصيتين صلبتين وعنيدتين لا تتنازلان بسهولة، وفي الوقت نفسه قادرتان علي عمل توازنات ومواءمات في الكثير من الأحيان مع أكثر القضايا تعقيداً.فيما يحافظ علي صورة المؤسستين اللتين يتوليان قيادتهما. وعلي الرغم من القيم المشتركة بين كل من البابا شنودة الثالث والشيخ محمد سيد طنطاوي من (تسامح) و(حب) و(ود) في علاقتهما ببعض، فنجد أنهما لم ينجحا في نقل ما يتصفان به من (سماحة) دينية و(رحابة) فكرية إلي رجال مؤسستيهما الدينيتين من القساوسة والشيوخ بوجه خاص، وبالتبعية من خلال الخطاب الديني الموجه من رجال الدين إلي أتباعهما من المسيحيين والمسلمين من المواطنين المصريين بوجه عام. وهو ما ترتب عليه تلك (الهجمة) من تصاعد التوترات والأزمات الطائفية وتكرارها بين المصريين في المجتمع المصري في العديد من محافظات مصر. ويبقي المشهد (البروتوكولي) المتكرر بعد كل أزمة طائفية من خلال لقاءات مشتركة.. يحلو للبعض أن يطلق عليها (لقاءات أو مؤتمرات تقبيل اللحي)، والتي تترك انطباعات إعلامية لا تأثير لها في الشارع، بل أحياناً ما تأتي بنتائج عكسية من خلال قس شارد هنا وشيخ متشدد هناك. وأذكر هنا ملاحظة بديهية مهمة، وهي أن الخلل الذي أصاب الخطاب الديني علي الجانبين المسيحي والإسلامي قد ظهر بوضوح من داخل المؤسسة الدينية وليس من خارجها. ففي الجانب المسيحي.. نجد القمص زكريا بطرس الذي أخذ علي عاتقه مهمة تفنيد كل ما يقال عن المسيحية والمسيحيين من بعض المتطرفين والمتشددين، ثم تطور الأمر إلي الهجوم علي الإسلام والقرآن الكريم. واتبع الأسلوب نفسه الذي كان يرفضه من الشيخ الراحل متولي الشعراوي في قيامه بتفسير آيات الكتاب المقدس من وجهة نظره التي تسيء للمسيحية. وأصبح القمص زكريا بطرس يفسر آيات القرآن الكريم ويشرحها بما يؤكد علي وجهة نظره في الهجوم والتشكيك. ولا نعرف تحديداً موقف الكنيسة منه، وإذا ما كان موقوفاً أو مشلوحاً أو معزولاً أو متقاعدا علي المعاش. وعلي الجانب الإسلامي.. نجد د. محمد عمارة (عضو مجمع البحوث الإسلامية) الذي تعود منذ خمس سنوات تقريباً علي الإساءة للمسيحية وازدرائها في مقالات تنشر بالصحف القومية وفي حوارات تليفزيونية وفي كتب تصدر عن مشيخة الأزهر الشريف.. علي غرار كتابه الأخير الذي تم توزيعه مجاناً مع مجلة الأزهر الشريف الشهرية. كما نجد الكتب التي تصدر بموافقة رسمية من مجمع البحوث الإسلامية وتقوم بالدور نفسه الذي يقوم به د. محمد عمارة. ويمكن أن نحلل ما سبق ليس في إطار الحصر؛ بقدر ما هو نموذج عملي دال لما يحدث من داخل المؤسسة الدينية نفسها من تفكيك لمنظومة التزامها الوطني تجاه هذا الوطن.. ويترتب عليه أزمة أو توتر أو صدام.. يصنف في كل الأحوال أنه طائفي بالدرجة الأولي. فضلاً عما يحدث من خارج المؤسسة الدينية (المسيحية والإسلامية).. ويترتب عليه تداعيات تزيد من حدة المناخ الطائفي. كما لا يمكن أن نهمل ظاهرة التغذية المرتدة للطائفية بين الطرفين (المسيحي والإسلامي) في تأجيج الخلافات لدرجة لا يمكن تصورها أو تحمل نتائجها وتوقع تبعاتها. - وينتهي الحال بالمؤسستين في كل أزمة أو توتر طائفي بمواجهة الأعراض التي تحدث، ولا تعالج بشكل مباشر المرض الذي ترتبت عليه تلك الأعراض الطائفية البغيضة. وهو ما يمكن أن يحدث فعلياً من خلال خطة واضحة المعالم علي المدي الزمني القصير من خلال تنفيذ القانون وتطبيقه من خلال مفهوم العدالة الناجزة، وعلي المدي الزمني البعيد من خلال مناهج التعليم ووسائل الإعلام. ما نحتاجه هو قرارات وطنية.. يتم اتخاذها علي جميع المستويات بشكل سريع وحاسم.. لا تقبل التأويل في تفسيرها أو التهاون في تنفيذها. ؟