أوضحنا فى المقالة السابقة أن شق الطريق إلى المستقبل يتطلب توافر منظومة من القيم الأخلاقية والاجتماعية تستطيع انتزاع رواسب الماضى من نفس الإنسان، وتوجيه دفته نحو المستقبل، وتزويده بما يستلزمه التقدم من أدوات. والحقيقة أننا منذ أن توقفت عقارب الساعة فى بلادنا عن الدوران بانتصار الحنابلة والقضاء على مختلف المدارس الفكرية ذات النزعة العقلية فى أواخر العصر العباسى الثانى، توقف عطاؤنا الحضارى، ودخلنا مرحلة الجمود المعرفى والأخلاقى الذى قادنا إلى عصور الانحطاط المملوكية والعثمانية، التى زادت تراكماتها من تراجعنا فى كافة المجالات. ولقد كادت حركة الإحياء العربية فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر تنجح فى تجديد منظومتنا الأخلاقية وتحديثها من خلال التفاعل مع معطيات العصر والتلاقح الحضارى مع الشعوب المتقدمة، لولا ما تعرضنا له فى العقود الستة الماضية من تشوهات إيديولوجية حادة، تارة تحت راية الاشتراكية، وتارة أخرى تحت راية الأسلمة، مما قضى على إنجازات حركة الإحياء وأعادنا إلى المربع رقم واحد، حيث نعيش فى القرن الواحد والعشرين بأخلاق القرن الثانى عشر. فعلى الرغم من أن وظيفة الدين الأساسية هى تنظيم العلاقة التعبدية بين الإنسان وربه، إلا أن الإيديولوجية الإسلامية فى سعيها للسلطة، وكما تفعل سائر الإيديولوجيات، قد أضافت إلى الدين وظائف كثيرة لا تتفق معرفيا مع طبيعته حتى تستطيع احتكار العلم والمعرفة فى جميع مجالات الحياة باسم الدين، فاعتبرت أن الدين هو المصدر الوحيد لأخلاق المسلم، وقامت باختزال مبادئ الأخلاق فيما ورد فى القرآن والسنة من مواعظ وأوامر ونواهٍ، وحيث إن هذه الأوامر والنواهى فى زعم هؤلاء تبقى صالحة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، فلم تعد أخلاق المسلم كأخلاق بقية البشر نسبية وقابلة للتجديد والتطور، بل كتب عليها الثبات والجمود إلى الأبد. لقد روج الإسلام السياسى لهذا الاحتكار الإيديولوجى المتعسف للأخلاق، فيقول يوسف القرضاوى فى كتابه «الخصائص العامة للإسلام»: «إن الأخلاق فى الإسلام لم تدع جانبا من جوانب الحياة الإنسانية: روحية أو جسمية، دينية أو دنيوية، عقلية أو عاطفية، فردية أو اجتماعية، إلا رسمت له المنهج الأمثل للسلوك الرفيع. فما فرقه الناس فى مجال الأخلاق باسم الدين وباسم الفلسفة، وباسم العرف أو المجتمع، قد ضمه القانون الأخلاقى فى الإسلام وزاد عليه». هكذا تم اعتساف تماهيا لامعرفيا بين الدين والأخلاق، وأصبح كل ما يرتضيه الدين فضيلة، وكل ما لا يرتضيه رذيلة، أو بمعنى أدق أصبح كل ما كان يرتضيه الدين منذ 1400 عام فضيلة يجب أو يمكن الأخذ بها فى عصرنا هذا، وكل ما كان لا يرتضيه حينئذ رذيلة يجب نبذها، مما ألحق أبلغ الضرر بكل من الدين والأخلاق فى آن واحد. فالأخلاق كائن حى، يخرج من رحم العلاقات الإنتاجية والاجتماعية فى المجتمع بالتفاعل بين الخبرة الإنسانية المتراكمة والظروف الموضوعية المتطورة للواقع المعاش، وبالتالى فهى تخضع لما تخضع له جميع الكائنات الحية من أحكام وقوانين، وأهمها النشوء والتطور والنسبية والتفاعل مع البيئة والتقادم، فهى ليست قوالب سابقة التجهيز هبطت على الإنسان من السماء لتبقى ثابتة عبر الزمان. فمع ارتقاء الإنسان من مرحلة الحياة فى قطيع مثل الحيوانات إلى مرحلة الأسرة ثم العشيرة ثم الدولة، ومع تطوره من عصر الصيد إلى العصر الرعوى ثم الزراعى فالصناعى وأخيرا المعلوماتى، كان دائما بواسطة عقله القادر على التمييز بين القبيح والحسن يقوم بوضع قواعد الأخلاق وتطويرها كى تواكب متطلبات كل مرحلة، مما يتلقفه رجال الدين فى كل حين ويصبغونه بالصبغة الدينية المناسبة من حلال وحرام. فمنذ مائة عام كان من العار على الفتاة أن تخرج من بيتها، وأن تتعلم، وأن تختلط بطلاب ومدرسين من الذكور، ناهيك أن تعمل وتتوظف، وكان رجال الدين يؤيدون هذا الخلق بنصوص دينية مؤكدة، مما أبطأ مسيرة الأمة لعقود طويلة، ولكن بعد أن فرضت التطورات الاجتماعية نفسها، وخرجت المرأة للدراسة والعمل، تغيرت أخلاقنا، ولم نعد نرى فى هذا الخروج عارا، وابتلع رجال الدين النصوص القديمة بعد معارضة قوية لا يزال بعضهم متمسكا بها حتى يومنا هذا، وأظهروا نصوصا أخرى تتماشى مع هذه التطورات. إن عقل الإنسان هو الذى قاد الإنسانية عبر العصور، وهو الذى استطاع أن يخرج بها من ضيق الهمجية والبدائية إلى سعة المدنية والحضارة، فهو بما لديه من ملكات لم نستطع حتى اليوم توظيف خمسة بالمائة منها قادر على استشراف المستقبل، وتحديد الغايات والوسائل، وتزويد الإنسان بكل ما يلزمه من قيم وخلق ومهارات للتكيف مع الواقع المتغير، ومواجهة التحديات، وتحقيق الإنجازات، وإصلاح الأخطاء التى قد يقع فيها خلال مسيرته، إلا أن هذا العقل لا يعمل وهو مكبل بالأغلال، ولا يعمل وفق الأهواء والمصالح والإيديولوجيات. إن الأديان ولاشك تدعو للكثير من مكارم الأخلاق، مما يضيق المجال هنا عن تفصيله، إلا أنها تتضمن أيضا الكثير من التعاليم التى كانت مقبولة فى عصور قديمة ولم يعد ممكنا قبولها اليوم، والمشكلة أن هذه التعاليم تنطق بها نصوص لا يمكن محوها من الكتب المقدسة، ولا يعترف الكهنوت فى أى دين بتاريخية هذه النصوص وتقادمها، بل يقوم بمغالبة عقول أتباعه مؤكدا صلاحية هذه التعاليم لكل العصور حتى لا يضعف ادعاؤه بصلاحية كل ما فى هذه الكتب لكل زمان ومكان. من هنا نسمع من يؤكد أن ضرب النساء معجزة قرآنية، ومن يؤيد نكاح الأطفال ويعترض على وضع حد أدنى لسن الزواج، ومن يوصى المرأة بإرضاع زملائها فى العمل، ناهيك عما يمارس من دجل وشعوذة باسم الدين، من تفسير أحلام، إلى الاستشفاء بزيت الكهنة والعلاج بالقرآن، إلى علاج السحر والحسد، إلى إخراج الجن والعفاريت، وغير ذلك من الأمثلة التى تدمى العقول ويضيق المجال هنا عن حصرها، والتى تلقى بالمجتمع كله فى أتون الخرافة، وتقضى على منظومة قيمه الأخلاقية والعلمية. لهذا فإن اعتبار الدين دستورا وحيدا للأخلاق يؤدى إلى نتائج كارثية، ومفاسد اجتماعية لا حصر لها، نراها تتفشى اليوم فى مجتمعنا، ولا يستطيع أحد إنكارها. فإذ يدعو العقل لاحترام الإنسان لأنه إنسان، وبصرف النظر عن لونه وعرقه ودينه، نرى أكبر الأديان كاليهودية والمسيحية والإسلام والهندوسية وهى تحمى نفسها بتكفير من لا يتبعها، فإنها تنظر إلى غير أتباعها بدونية فجة، وتنعتهم بأدنى الأوصاف فى نصوص تؤدى بها الصلوات، فهم نجس، وقردة، وخنازير، وأنعام، وشياطين، وأولاد أفاعى، وكلاب، وسراق، ولصوص، وأغبياء، مما ينعكس بالتأكيد فى نظرة الأتباع لغيرهم من البشر، ويولد الكثير من مشاعر الكراهية التى تتطور فى أماكن كثيرة إلى صدامات مسلحة. وإذا يرى العقل أن المساواة بين البشر فضيلة، تغرس الأديان فى نفوس أتباعها شعورا زائفا بالأفضلية، فاليهود شعب الله المختار، والمسيحيون أبناء الرب، والمسلمون خير أمة أخرجت للناس، والهندوس أنصاف آلهة لأنهم خلقوا من جسد الإله راما ذات نفسه، ومن ثم فهذه الأديان تنكر المساواة بين الناس، سواء بين أتباعها وغيرهم، أو بين الرجال والنساء، بل وتذهب إلى حد المطالبة بأن تنعكس هذه اللامساواة اللاإنسانية فى قوانين تنظيم وإدارة المجتمعات. وإذ يدعو العقل أن تكون المحبة أساس التواصل بين البشر جميعا، تجعل الأديان هذه المحبة قاصرة فقط على العلاقة بين أتباعها، على قاعدة الولاء والبراء المطبقة فى كل هذه الأديان على اختلاف مصطلحاتها، وتأمر ببغض الآخر الذى هو دائما وحتما من أهل السعير، كما تمنع التواصل الاجتماعى الطبيعى بين الناس حين تقف حائلا دون تصاهر أتباع الديانات المختلفة، أو حين تحرم أتباعها من حق الطلاق وترغمهم على الالتزام رغم إراداتهم بعلاقات أسرية فقدت أسس استمرارها مما يؤدى إلى نتائج أخلاقية خطيرة. وإذ يرى العقل أن قتل الإنسان أسوأ الشرور على الإطلاق، نرى هذه الأديان تبرر قتل الإنسان لأخيه الإنسان، فتبيح فى أحوال كثيرة دماء وأعراض وأموال أتباع الديانات الأخرى، ليس لارتكابهم مخالفة يجرمها القانون المدنى، بل لمجرد عدم إيمانهم بهذا الدين أو ذاك، أو انتقادهم لبعض ما جاء فى أحد الكتب المقدسة، أو لمجرد رغبة أحدهم فى تغيير دينه. كثير من الجرائم يهتز لها الضمير الإنسانى بينما يباركها الضمير الدينى، فالشيخ الفانى الذى ينكح بأمواله فتاة فى مقتبل العمر ليتمتع بها لبضعة أسابيع ثم يتركها بعد ذلك لمصير أسود غالبا ما ينتهى فى سوق البغاء، والذى يعث فى أعراض الناس مزواجا مطلاقا، والذى يلقى بامرأة أطعمته زهرة شبابها فى الطريق دون أن يؤمن لها حياة كريمة من أجل الزواج بفتاة أصغر منها، والذين يجنون الأموال من تشغيل أطفال لم يبلغوا الحلم، والذين يكتفون بإخراج الصدقات ويتهربون من دفع الضرائب، والذين يخفون السلع للمضاربة على أسعارها، والذين يقومون بتشويه الأعضاء التناسلية للمرأة فيما يعرف بالختان، كل أولئك المجرمين وغيرهم تجاهلوا ما يستحسنه العقل، وما يستقبحه، واتخذوا من الدين مرجعا وحيدا للأخلاق، فوجدوا فى نصوصه العتيقة ما يسول لهم ارتكاب جرائمهم، أو لم يجدوا نصوصا تزجرهم عن ارتكابها باعتبار أن الأصل فى الأشياء الإباحة، فزلوا وسقطوا وسقط المجتمع كله فى إثرهم. ولكن ألا يشكل الدين رادعا يحمى الفرد والمجتمع من الكثير من الأمراض والآفات الأخلاقية التى تعصف بالمجتمعات البشرية كما نسمع دائما فى البرامج التليفزيونية، وكما نقرأ فى توصيات الكثير من الندوات والمؤتمرات؟! هذا ما سوف نحاول مناقشته فى الأسبوع القادم.