بغض النظر عن أعوام سابقة ومواقف سابقة، يستحق شيخ الأزهر أن ينال جائزة الشجاعة هذا العام، ويستحق أيضا أن ينال لقب "المظلوم"، شيخ الأزهر واحد من غير الموهوبين فى مخاطبة الرأى العام، وهى موهبة يحظى بها كثيرون فى مصر لكنها أبدا لم تكن دليل قيمة أو معيار كفاءة، شيخ الأزهر لايحظى بهذه الموهبة، لكنه عالم كبير، واحد من أكبر علماء التفسير فى العالم الإسلامى، والذين يعارضونه يختلفون على مواقفه لكنهم لايجادلون فى علمه، وهو بطل لمعارك دائمة ممتدة عادة ما يكون الإعلام طرفا مباشرا فيها، وجماعة الإخوان والسلفيين وجبهة علماء الأزهر أحيانا، وهو دائما عرضة للهجوم. لكن ما يثير إعجابك حتى ولو لم تكن موافقا للشيخ على طول الخط، أنه لايجبن، ولا يتراجع ولا يتحسب للهجوم، ولا يفكر وهو يخطو نحو عامه الثمانين أن يتوخى الحذر، وأن يرفع راية الحرص، وأن يدخل فى منطقة المواقف الآمنة التى لاتثير غضب هؤلاء وأولئك، هو الإمام الأكبر شيخ الأزهر عصبى المزاج، عالى الصوت، المستعد دائما لأن يخوض المعارك دفاعا عَمَّا يؤمن به وهذا هو ما يستحق الإعجاب، الشجاعة فى إعلان المواقف لا المواقف نفسها. الربع الأخير من هذا العام شهد واحدة من أقوى وأسخن معاركه معركة النقاب، كان محقا وصادقا، وعالما مستنيرا، لكنه كان مثل مؤلف عبقرى يتعامل مع مخرج فاشل، الأفكار رائعة والمواقف نبيلة لكن الإخراج سيئ، بل سيئ للغاية فى 5 أكتوبر من هذا العام كان موعده مع الحملة الجديدة، يتفقد معهدا أزهريا للبنات فى مدينة نصر، يدخل فصلا تدرس فيه طالبات الصف الثانى الإعدادى، يجد طالبة منقبة مخالفة لقرار يحظر النقاب داخل المعاهد الأزهرية، يطلب منها أن تخلع النقاب فتعترض وتجادله، ينفعل ويجادلها "أنا أفهم فى الدين أحسن منك ومن اللى خلفوك"، تبكى الطالبة وتكتب الصحافة، ويعلق الكتاب بقسوة، إخراج سيئ، لنص جيد، وبضاعة جيدة تعرض بطريقة سيئة أو بأسوأ طريقة ممكنة، والحق أننى لم أتعاطف مع شيخ الأزهر بقدر ما تعاطفت معه فى هذا الموقف.. حيث بدا الرجل وكأنه يحمل تهمة جاهزة هى القسوة على تلميذة وإهانتها ومعاملتها بطريقة لاتليق ! لم ينتبه أحد إلى أن الرجل يحمل فى تكوينه جزءا من تراث وتقاليد الأزهر القديم، وهو تراث يسمح للعلماء بمعاملة تلاميذهم بقسوة وفظاظة أحيانا لكنها مغلفة أيضا بروح الأبوة "هل تذكر مشهد اقرأ يا أعمى فى مسلسل الأيام عن قصة طه حسين"، تراث يمتد إلى الكتاتيب القديمة والفلكة التى كان عريف الكتاب يعاقب بها الطالب إذا قصَّر أو أخطأ، شىء من هذا كان فى خلفية الرجل الكبير الذى استفزه أن تصمم الطالبة على ارتداء النقاب فى وجوده رغم أن الأكيد أنه يكبر جدها فى السن بكثير، وأنها أصغر من أصغر أحفاده والمعهد معهد بنات، فنيا كان لابد أن يشعر بالإهانة، وأن يعبر عن ذلك بالغضب، وكان لابد أن يغضب أكثر؛ لأن الفتاة حاولت أن تجادله من منطق دينى! طالبة فى الصف الثانى الإعدادى تجادل الإمام الأكبر!؟ أى أستاذ عادى كان لابد أن يشعر بالإهانة، فما بالك بالإمام الأكبر وهو يخطو نحو عامه الثمانين، انفعل ورد عليها.. أنا أفهم فى الدين أكتر منك ومن اللى خلفوك! هو بالتأكيد يفهم فى الدين أكثر منها، ومن الذين "خلفوها« أيضا، لكن ما هكذا تورد الإبل! الحقيقة إن المشهد ليس بسيطا ولا تافها واسمحوا لى أن أقرأه قراءة أخرى زادت من محبتى للامام الأكبر، هذه القراءة تقول إن هناك صراعا ضاريا فى العالم الإسلامى بين مدرستين مدرسة الوسطية والتى يفترض أن الأزهر هو ممثلها.. ومدرسة السلفية التى تقوم على الفهم الجامد والشكلى والحرفى وهى مدرسة أخرى أقل عمراً، وأصبحت فى السنوات الأخيرة أكثر نفوذا وثراء وقدرة على تجنيد الاتباع واختراق المراكز، نظريا من المفروض أن يتصدى الفهم الوسطى للفهم السلفى المتشدد والسخيف، فعليا ولاعتبارات متعددة لم يحدث هذا، تجاهل الأزهر الأمر لسنوات طويلة، مارس الطناش لفترات أطول، تظاهر بأنه لايسمع، ولا يرى وبالتالى لم يتكلم، حتى جاءت اللحظة الفاصلة والتى تسمى فى الدراما بذروة الحدث، فوجئ شيخ الأزهر بالعدو فى بيته، النقاب فى معهد أزهرى، الأعداء اخترقوا الحصون، والأنكى أن الطالبة تجادله وتقول له إن النقاب فرض ومن صحيح الدين، الطالبة بالطبع لاتعرف شيئا عن هذا الصراع الطويل والممتد بين الإسلام هنا والإسلام هناك، لكن نقابها استفز شيخ الأزهر ووضعه أمام الحقيقة عارية، لذلك ثار وأغلب الأمر أن ثورته كانت ضد نفسه لا ضد الطالبة، لم يكن أمامه إلا أن يعلن موقفه ويتلقى سيلا من الهجوم البذىء من (توابع) السلفية فى مصر، هجوم كبير ومنظم ومتتالى لا يضع اعتبارا لسن الرجل، ولا مقامه، الرجل لم يرد الهجوم الذى يعرف جيدا من ورائه، واصل التظاهر بأنه لا يعلم شيئا وبأنه لايفهم فى السياسة مع أنه سياسى أريب، لكنه أيضا ثبت على موقفه، واستوعب كل الهجوم الذى تظاهر أنه لايسمعه ثم عاد ليقول ولو "النقاب ليس فرضا وهو فى أحسن الأحوال عادة وليس عبادة".