فى انتخابات نقابة الصحفيين حضرت السياسة وغابت الصحافة! فى الانتخابات التى ستحسم نتيجتها بعد ساعات قليلة حضرت السياسة حضورا طاغيا ومزعجا وغابت المهنة غيابا مخجلا وباعثا على التساؤل عن سر هذا الغياب! قراءة برامج المرشحين الأساسيين الأستاذ مكرم محمد أحمد والأستاذ ضياء رشوان تكشف عن هذا الغياب المخجل للصحافة كمهنة وكحرفة وللنقابة كجهة يفترض أن تعنى بإبقاء هذه الحرفة على قيد الحياة تماما كما كانت طوائف الحرف القديمة تعنى وتهتم. حضرت السياسة بمختلف التصورات لدورها فى النقابة حضورا كبيرا إن لم يكن فى برامج المرشحين، ففى أذهان الناخبين وأعضاء كل فريق، وكان من اللافت أن كلا الفريقين صاغ مبررات سياسية تشرح لماذا يصر على تأييد مرشحه، ولم يكن هناك حرف واحد عن هموم مهنة يعلم الجميع أنها تتراجع تراجعا مؤلما، وأتحدث هنا عن مستوى الصحافة كحرفة وليس عن ظروف ممارسة الصحفيين للمهنة نفسها، وإن كان بين الاثنين رابط كبير لا يمكن تجاهله. كان من اللافت أن تلاميذ وأنصار الكاتب الكبير مكرم محمد أحمد غلب على خطابهم فكرة الخشية من سيطرة الإخوان المسلمين على النقابة، وتحول النقابة لمنبر سياسى لتيارات بعينها، وتحول النقابة إلى مؤسسة مختطفة، وخروجها من حالة الحوار الصحى مع الدولة إلى حالة العداء لها، وكان الخطاب الشائع فى الخطاب الآخر يتحدث عما يمكن اختصاره فى دور سياسى قوى للنقابة، وكان من المفهوم بالضرورة أن هذا الدور هو دور معارض. وكان من اللافت للنظر أن بعض أنصار الأستاذ ضياء رشوان هتفوا بعد إعلان النتيجة ل سلم النقابة الشهير، وبشروا بأن سلم النقابة راجع تانى، فى إشارة للسنوات التى كان السلم فيها يستخدم كمكان تجمع لأعضاء الحركات الاحتجاجية فى مناسبات وقضايا سياسية مختلفة ندر أن يكون من بينها قضية مهنية مباشرة. كانت السياسة إذن هى اللاعب الرئيسى فى الجدل الذى استبق هذه الانتخابات والانتخابات التى سبقتها وربما التى ستليها، وسيبقى الحال هكذا مادام هناك من يريد للنقابات عموما ولنقابتنا خصوصا أن تلعب دور الحزب السياسى، ومن لا يريد لها هذا الدور، وفى كلتا الحالتين تبقى السياسة هى محور الجدل النقابي والصراع بين الفرقاء بالسلب أو بالإيجاب، بالحضور أو بالغياب، فى اتجاه مقر جماعة الإخوان المسلمين أو فى اتجاه الحزب الوطنى، لكن المهنة وهمومها الحقيقية والتراجع المخجل فى مستوى الصحافة المصرية والصحفيين المصريين لا يشغل بال أى أحد. وهذا الغياب للهم المهنى فى خطاب الجميع لا يعنى إلا أحد أمرين، أولهما أن الجميع يرى أن المهنة فى أحسن أحوالها، وأنه لا داعى على الإطلاق للحديث عن مستوى الأداء المهنى للجماعة الصحفية لأن الأمر هامشى، وثانيهما أن الجميع وصلوا إلى حالة من اليأس أدركوا معها أن الخرق قد اتسع علي الراتق كما يقول المثل الشهير، وأنه لا داعى لطرح الموضوع مادام أحد لا ينوى السير فى طريق الإصلاح، وهو طريق شاق وصعب وثماره لا يتم جنيها فى التو واللحظة. طغت السياسة على النقابة منذ سنوات، وأصبح الصراع على أى اتجاه تسير فيه النقابة سياسيا، ولم يعد الصراع بين السياسة والمهنة، والحقيقة أن بين السياسة والانتباه لتدنى مستوى المهنة صراع مساحات وتعارض أولويات وليس تضاد مسارات، طغت السياسة ولم ينتبه أحد أن الصحافة المصرية كلها تشهد أزمة حقيقية فى تراجع معدلات التوزيع والقراءة والإقبال، وأن التجارب الجديدة التى تظهر تحاول اختطاف جمهور ثابت للصحافة المكتوبة، لا إضافة أو اجتذاب شرائح جديدة من القراء، ولم ينتبه أحد إلى تراجع مستوى الصحافة المصرية فى المنطقة لحساب الصحافة اللبنانية والصحافة الخليجية، ولم ينتبه أحد إلى أن حضور الكوادر الصحفية المصرية فى الصحافة الخليجية تراجع إلى درجة مخجلة، رغم أن عددا كبيرا من الصحف العربية بناها وأسسها مصريون، لم يشأ أحد أن يتحدث عن التراجع المخجل فى مستوى كثير من الزملاء الجدد الذين يلتحقون بجميع أنواع الصحف المصرية، وعن أن الصحفى المصرى بات يفتقد أساسيات العمل الصحفى مثل القدرة على الكتابة بلغة عربية سليمة أو تجنب الأخطاء الإملائية أو التفريق بين أشكال الفن الصحفى المختلفة مثل التحقيق والخبر والمقال، ولم ينتبه أحد إلى أن المدونات ومجموعات الفيس بوك وجميع الأشكال التى يمارس فيها البعض الكتابة من باب الهواية تحتوى على كتابات تشى بمواهب أكبر وأنضج من معظم إنتاج الصحافة المحترفة، هذه الهموم بات معها الحديث عن حق الحصول على المعلومات ضربا من ضروب الترف، إذ ما فائدة أن يحصل الصحفى على معلومات لا يستطيع التعامل معها أو صياغتها وتوظيفها التوظيف الصحيح؟! كان من اللافت أيضا طغيان الهم المعيشى للصحفيين على برامج المرشحين، ولا يمكن إغفال المعارك المختلفة التى خاضها النقيب مكرم محمد أحمد سواء للتفاوض على أعلى قيمة للبدل، أو خطوة تشكيل مجلس أعلى لأجور الصحفيين، أو سعيه لزيادة مساحة مدينة الصحفيين، ولا يمكن أيضا إغفال ما طرحه الأستاذ ضياء رشوان حول تصوره لفرض ضريبة الدمغة، وكل طرق زيادة موارد النقابة، بغض النظر عن إمكانية تحقيق ذلك من عدمه، ولاشك أن هذه الأفكار هى استجابة حقيقية لهموم ضاغطة، لكن هذا ليس هو الهم الصحفى الوحيد، والنقابة ليست مؤسسة اجتماعية، والحل الأنجع والأكثر بقاء هو أن يرتفع المستوى المهنى للصحفى المصرى بشكل يجعله قادرا على المنافسة فى السوق المصرية والعربية والعالمية، والحل الأكثر اتساقا مع دور النقابة هو أن تهتم برفع المستوى المهنى للصحفيين المصريين بشكل يجعلهم قادرين على تقديم منتج جذاب وناجح اقتصاديا ومهنيا، ومن غير المعقول أن يصيغ فريق من الصحفيين يرفع شعار استقلال النقابة خطابا يعتمد على المطالبة بالحرية الصحفية فقط - وهى موجودة ومتوافرة جدا بالمناسبة - إذ ماذا يفعل الصحفى بالحرية بدون مهنية؟! والعكس صحيح، ولعله ليس مطلوبا أن تتحول بعض الصحف لنشرات حكومية تماما كما أنه ليس مطلوبا أن تتحول بعض الصحف لمنشورات سياسية، وكلا النوعين موجود للأسف فى السوق المصرية. طغيان السياسة على الصحافة جعل برامج المرشحين لا تتعرض إلا لماماً لتدريب الصحفيين المصريين مع أن هذا التدريب أصبح فرض عين على نقابة الصحفيين، وليس صحيحا أن نقيب الصحفيين لا يشترط فيه أن يكون صحفيا جيدا، وإلا لما اختار الصحفيون على مدار تاريخهم رجالا مثل محمود أبوالفتح وأحمد بهاء الدين وكامل زهيرى، ولما ضمت مجالس النقابة على مدار تاريخها أسماء مثل محمود المراغى وصلاح عيسى وجلال عيسى ومحمود عوض وسلامة أحمد سلامة وصلاح الدين حافظ، والأسماء السابقة مجرد غيض من فيض، والقائمة طويلة ومشرفة، ومن الغريب ألا ينتبه أحد إلى ضرورة تأسيس معهد للتدريب تابع للنقابة ينقل فيه الصحفيون من جيل الأساتذة خبراتهم للأجيال الشابة بعيدا عن ترهات الخلافات السياسية والأداء الهيستيرى القائم على فكرة التنابذ السياسى، ولعله من الغريب جدا أن نعرف أن وزارة التربية والتعليم تحرص على إرسال عدد كبير من المدرسين المتفوقين للدراسة فى جامعات الغرب، ولا تفعلها النقابة سوى مرة واحدة كانت فيها السفرة مدعاة لاتهامات بالتخوين والعمالة إلى آخر السخافات التى بات الصحفيون النقابيون يتبادلونها مع بعضهم البعض صباح مساء. وسواء كان الصحفيون من الناصريين والإخوان هم الذين بدأوا محاولة اختطاف النقابة كما يرى البعض أو كان الآخرون هم الذين بدأوا كما يرى البعض الآخر، فواقع الحال أن السياسة قد طغت، وأن المهنة وهمومها الحقيقية قد غابت، وإن هذا نذير خطر لو تعلمون عظيم! ألا قد بلغت، اللهم فاشهد.