صعب أن يتصور أحد وجود أشخاص يغشون لبن الأطفال أو الأدوية التى يتعاطها المرضى، أو يغشون مواد البناء فتنهار العقارات على سكانها.. المذهل أن عقوبة من يفعل ذلك حتى لو أدى فعله الدنىء إلى وفاة العشرات من الأطفال والمرضى والسكان لن تتجاوز الحبس والغرامة. رغم أن القانون أتاح للنائب العام تحويل الغشاشين فى حالة حدوث كوارث إلى محكمة الجنايات إلاَّ أن عمليات الغش والخداع تتم كل يوم وبشكل كبير مما جعل عدد كبير من القانونيين يطالبون بضرورة تغليظ العقوبة حتى يرتدع من تسول له نفسه فعل ذلك.. كما أن هناك قوانين تم تعديلها فى العام الماضى، لكنها لم تكن رادعة للدرجة التى تجعل هؤلاء يتوقفون عن جرائمهم، وكل يوم يتم ضبط عشرات القضايا ويتم تحويل أصحابها إلى المحاكم والنيابات ولم نسمع عن أحد منهم تم حبسه، وأغلب العقوبات تقف عند الغرامة التى يمكن سدادها بسهولة ويخرج ليعاود نشاطه. فى أسبوع واحد فقط أسفرت الحملات التى قام بها قطاع التجارة الداخلية بوزارة التجارة والصناعة على الأسواق عن ضبط 6 أطنان سكر غير صالح للاستخدام الآدمى لوجود تغير فى الخواص الطبيعية، و4 أطنان أرز معبأة فى أجولة بدون بيانات تجارية، بالإضافة إلى أطنان من الدقيق الفاخر داخل أجولة بدون مستندات أو تراخيص. وفيما قررت سلطات الحجر الزراعى فى ميناء سفاجا فى نفس الوقت الذى تم ضبط كميات السكر والأرز والدقيق فى القاهرة التحفظ على شحنة قمح أمريكى تصل حمولتها إلى 57 ألف طن مستوردة لحساب هيئة السلع التموينية بعد أن أثبتت نتائج الفحص المعملى لعينات من الشحنة وجود 123 بذرة من البذور والحشائش الضارة بالبيئة الزراعية المصرية، بالإضافة إلى الحشرات الميتة فى الكيلو الواحد أعلى من المسموح به و22 بذرة فى الكيلو الواحد، فطالب تقرير الحجر الزراعى الخاص بالشحنة بإجراء عملية المعالجة والغربلة فى المطاحن التى يتم توزيع الشحنة عليها بمحافظات الصعيد حتى يتم الإفراج النهائى عنها بعد إجراء فحص معملى لها مرة أخرى بعد عملية المعالجة، وكشفت المستندات الخاصة بالشحنة أنها مستوردة لحساب الهيئة العامة للسلع التموينية وتصل قيمتها إلى عشرة ملايين و272 ألف دولار. أيضاً ضبطت الأجهزة الرقابية بوزارة الزراعة 25 ألف كيلو من اللحوم والدواجن والأسماك غير الصالحة للاستهلاك الآدمى كانت معدة للبيع.. كما ضبطت الأجهزة الرقابية ألف كيلو من اللحوم تم ذبحها خارج المجازر، وقد أكد الدكتور حامد سماحة رئيس الهيئة العامة للخدمات البيطرية أن الحملات ستستمر لتوفير الغذاء الآمن الصالح للاستهلاك مشيراً إلى أن الهيئة خصصت خطاً تليفونياً لتلقى شكاوى المواطنين، وأكد أن العقوبات التى تصدر ضد المخالفين غير رادعة ومطلوب تغليظ العقوبة حتى يرتدع كل من تسول له نفسه غش المواطنين والعقوبة من سلطات المحكمة. وقال إن الجهاز لا يتوانى فى تحويل المخالفين إلى النيابة العامة وعددهم بالعشرات، وهناك عشرات القضايا التى يتم تحويلها كل يوم إلى النيابة بتهمة الغش والخداع، وعمليات التفتيش تتم بدون إنذار مسبق حتى لا يتم إخفاء السلع عن أجهزة الرقابة وتتم بشكل دقيق جداً ونحن لا نظلم أحدا أو نحيل أحدا للنيابة بدون تهمة. وأضاف أن بعض من يتم تحويلهم إلى النيابة لديهم عشرات المخالفات السابقة ولم تردعهم العقوبة لأن أغلب العقوبات التى تصدر ضد هؤلاء تكون غرامة فقط مما يسهل عليهم العودة مرة أخرى إلى ارتكارب نفس الخطأ. الأمر نفسه ينطبق على الغش فى الأدوية ففى شهر رمضان الماضى ضبطت أجهزة الأمن فى محافظة الجيزة مخزنا يبيع الأدوية المغشوشة بعد أن ألقت القبض على صاحب شقة فى بولاق الدكرور حولَّ شقته إلى ما يشبه المصنع الصغير لتصنيع الأدوية المغشوشة ووضع أسماء شركات أدوية معروفة على منتجاته ويقوم ببيعها للصيدليات، فتم ضبطه وإغلاق الشقة أو المصنع وتم التحفظ على المضبوطات، وتبين أنه يمارس هذا النوع من الغش منذ أكثر من ثلاث سنوات ولديه عدد من سيارات الربع نقل التى تقوم بتحميل الأدوية ليلاً وتوزيعها فى الأماكن النائية والمناطق العشوائية، وتبين أن أدويته ليس بها المادة الفعالة ويمكنها أن تؤدى إلى الوفاة حال إذا استمر المريض فى استخدامها فترات طويلة وتم تحويله إلى النيابة وجارى محاكمته. الدكتور زكريا جاد - نقيب الصيادلة - قال: إن هذا النوع من الغش التجارى يجب تغليظ عقوبته حتى يرتدع كل من تسول له نفسه غش المواطنين فى الأدوية لأنها جريمة خطيرة.. كما تتلقى نقابة الصيادلة شكوى ضد أى صيدلى أو صيدلية تقوم على الفور بالتحقيق فيها وتحول أصحابها إلى مجلس تأديب وإذا ثبت أنه قام بالمخالفة يتم اتخاذ قرار ضده ووارد فصله.. فجهاز التفتيش الصيدلى يقوم بدوره على أكمل وجه. التقارير الصادرة من إدارة التفتيش الصيدلى تؤكد أن هناك أكثر من 450 صيدلية تم غلقها فى العام الماضى لقيامها ببيع أدوية مستوردة وغير مصرح بها من وزارة الصحة، كذلك بيع أدوية منتهية الصلاحية تضر بصحة المواطنين. نفس الشىء يحدث فى العقارات فكل يوم تشهد مصر حالات كثيرة من انهيار عقارات نتيجة لعمليات الغش فى المبانى سواء فى غش الأسمنت أو الرمل أو الحديد والوفيات بالعشرات أيضاً. يقول أحمد السيد - رئيس الاتحاد العام للتشييد والبناء - إن عمليات الغش فى المبانى لا تأتى من قبل المقاول، ولكن تتم من المنتج الأصلى للسلعة، وهناك أجهزة رقابية على مصانع الحديد والأسمنت خاصة الكميات التى تأتى من الخارج يتم الكشف عليها جيداً وفى حالة إذا ما تم الكشف عن فسادها يتم إيقاف العمل بها، ونحن مع تشديد العقوبة فى عمليات الغش سواء فى مواد البناء أو غيرها.. كما أن عمليات الغش لا تتعدى "واحد فى الألف" فى مصر، وكلها تتم بطريقة لم يكن القصد فيها الغش، ولكن تحدث عن طريق سوء التقدير. د. شوقى السيد وكيل اللجنة التشريعية بمجلس الشورى يقول: إن الغش التجارى من أسوأ الجرائم التى تتم فى المجتمعات عموما، وفى المجتمع المصرى خصوصاً وهى جريمة قد تؤدى إلى وفاة العشرات خاصة إذا كان الغش فى المواد الغذائية أو فى لبن الأطفال مثلاً، وعقوبة الغش التجارى لا تتناسب مع حجم الجرم الذى يرتكبه الغشاش ويتم تطبيق القضية كجنحة للتدليس فى كل الأحوال، وتعتبر جريمة الغش جنحة فالمشرع ترك الحرية إلى النائب العام فى تحويل بعض جرائم الغش إلى محكمة الجنايات فى حالة ما إذا كان هناك غش أدى إلى وفاة عدد كبير من الأشخاص لأن الوفاة تعتبر قتلا والقتل يعاقب مرتكبه أمام محكمة الجنايات إذا رأت النيابة المتمثلة فى النائب العام أن هذا الشخص ارتكب جريمة أدت إلى الوفاة فلابد من تحويله إلى محكمة الجنا يات، ولابد أن تعرف أن قانون الغش التجارى الذى يتم تحويل مرتكب الجريمة فيه إلى محكمة الجنح لأن هناك قضايا فى الغش التجارى لا ترقى لتحويلها إلى محكمة الجنايات، فأحياناً يتم تحويل مرتكب جريمة الغش لمحكمة الجنح لأنه لم يضع العلامة الخاصة بالمنتج فى المكان المحدد أو أنه لم يضع السعر أو الثمن على المنتج أو أن هناك خطأ فى البيانات أو غيرها وكلها من المسببات التى لا تؤدى إلى تحويله إلى محكمة الجنح أو أنه يبيع سلعة مجهولة المصدر، لكنها سليمة بعد أن تم تحليل عيناتها فى المعامل الخاصة بالدولة، لذلك فإن الجنحة فى الغش التجارى يمكن أن نقول أنها عقوبة كافية، لكن إذا حدث عكس ذلك لابد من تحويل مرتكبها إلى محكمة الجنح وإذا زادت قضايا الغش التجارى التى تؤدى إلى الوفاة فلابد للمشروع بناءً على حجم الجرائم التى ترتكب أن يعيد صياغة القانون ويتم تشديد العقوبات سواء كانت العقوبة فى الجنحة أو فى الجناية ويمكن وقتها أن يتم تعديل القانون كلية ويتم تصنيف قضية الغش التجارى على أنها جناية، ويعاقب صاحبها بالحد الأقصى الذى حدده القانون. يضيف د. شوقى رغم كثرة الوقائع فى قضايا الغش التجارى إلا أنها لم تصل حتى الآن إلى حجم الظاهرة التى يمكن أن نطلق عليها وباء فى المجتمع، لكن يمكن تعديل القانون مع زيادة حجم الوقائع من خلال السلطة التشريعية إذا رأت ضرورة لذلك وأعتقد أنه فى القريب العاجل يمكن أن يتم تعديل مواد القانون إذا كانت هناك دوافع تؤدى إلى ذلك. المستشار سيد عبدالعزيز المستشار السابق بمحكمة الجنايات يقول إنه لابد أن نفرق فى قضايا الغش.. أولاً الغش فى المواد الغذائية ويتم تحويلها إلى محكمة الجنح، وعقوبتها الحبس سنة وغرامة ألف جنيه ويمكن أن تصل إلى خمس سنوات وغرامة عشرة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.. ثانياً: ما يصنف تحت المخالفات الاقتصادية ويتم تحويله إلى المحكمة الاقتصادية والصادر بها قانون عام 2008 والتى تصنف فيه القضايا على أنها جناية اقتصادية ويتم الفصل فيها بشكل سريع، ولكن العقوبة فيها لا تصل إلى الإعدام مثلاً ولا تصل إلى السجن المؤبد ويمكن أن تصل العقوبة فيها إلى السجن المشدد.. ثالثاً: الغش فى المبانى والذى يختص به قانون البناء والتنظيم رقم 119 لسنة 2008 عقوبات، لكن كل هذه القوانين حتى الآن لم تردع المجرم. يقول د. محمد صلاح الحاصل على دكتوراة فى القانون الجنائى والمحامى بالنقض: عمليات الغش التجارى زادت على الحد ورغم التعديلات التى تتم كل يوم إلا أنها غير رادعة، ففى الماضى كانت عمليات الغش محدودة للغاية ولم نكد نسمع من قبل عن عمليات غش للبن الأطفال مثلاً أو غش فى الأدوية لكن المكسب السريع الذى يبحث عنه ضعفاء النفوس جعلهم يفعلون أى شىء، ورغم أن أجهزة الدولة تنبهت لذلك جيداً وقامت بتعديلات فى بعض القوانين إلا أنها غير رادعة، فحتى فى قانون الغش التجارى الذى أجاز فيه المشرع تحويل الغشاش فى حالة ما إذا كانت الجريمة أدت إلى وفاة عدد كبير إلى محكمة الجنايات فإن العقوبة لا تزيد على الحبس أكثر من عشر سنوات ولا تؤدى إلى الإعدام أو حتى الأشغال الشاقة المؤبدة ويجب تغيير مواد القانون وتغليظ العقوبة حتى تتماشى مع حجم الجرم الذى يرتكبه المخالف فى حق الإنسانية. يضيف أنه إذا تم تعديل القوانين بدون عقوبة رادعة فلن يتم إيقاف نزيف الغش الذى أدى إلى انتشار الأمراض بين المصريين نتيجة تناولهم موادا غذائية فاسدة أو أدوية مغشوشة، وحتى لو تم تغليظ الغرامة فإن المخالف من السهل عليه دفع الغرامة. المستشار عادل صبرى المستشار بالمحاكم الابتدائية يقول: إن تحويل مخالفة الغش لمحكمة الجنح فيه ظلم كبير للمجتمع حتى لو كان الغش فى العلامة التجارية أو فى الأوراق؛ لأن الإنسان الذى يغش فى أى شىء بسيط غداً يستطيع أن يغش فيما هو أكبر من ذلك بكثير، والغش أشد وأقوى من القتل لأن مخالفة الغش قد تؤدى إلى قتل عشرات من البشر وليس قتل إنسان واحد، وهناك دول كثيرة غلظت العقوبة وجعلتها السجن المؤبد والسجن مدى الحياة والدول التى تأخذ بالإعدام جعلت عقوبة الغش فى حالة ما أدت إلى وفاة شخص أو أكثر عقوبتها الإعدام ونحن فى مصر نحتاج إلى مثل هذا القانون حتى يرتدع الغشاشون.