كتب - عبد الجواد احمد فى لغة وتاريخ الكوارث المصرية اعتدنا فى مصر على أن هناك دائما فى كل حادث أو مصيبة أو كارثة مسئولا مجهولا عن الحادث، ولا نطالع استقالة المسئول الرئيسى من أول رئيس الوزراء حتى أصغر مسئول فى الجهاز الإدارى للجهة التى وقعت الكارثة فى نطاقها. وكان حادث مقتل العديد من الشهداء والضحايا باستاد بورسعيد سببا فى استدعاء إشكالية سياسية وقانونية تتعلق بتحديد المسئولية السياسية والقانونية عن ضحايا وشهداء الثورة ومحمد محمود وماسبيرو. ومثلما كانت العقود الثلاثة التى جثم فيها المخلوع مبارك على سدة حكم مصر مثيرة للجدل والانتفاضات والاحتجاجات والإضرابات، والتى انتهت بثورة عظيمة أسقطته ونظامه الجائر، فإن اتهامه فى جرائم قتل المتظاهرين السلميين أثناء الثورة، وكذلك الحادث الأخير وما سبق من حوادث تثير ذات الإشكالية فى تحديد من المسئول عن تلك الأحداث. يثير كذلك جدلا قانونيا وربما يصبح الأمر أيضا بحاجة إلى ثورة أخرى فى الفكر القانونى، وليس ذلك لكون القضية تتعلق برئيس، «مخلوع» ومسئولين عن الحوادث المذكورة، وإنما بالنظر إلى الوضع القانونى لهذه القضايا والتى ربما تطرح للمرة الأولى على القضاء المصرى، ولإيضاح ذلك بخصوص قضية مبارك والعادلى أولا. نطرح الفروض الثلاثة الآتية: الفرض الأول: أن تثبت أوراق الدعوى ومستنداتها أن الرئيس المخلوع قد أصدر أوامر صريحة بفض التظاهرات باستخدام القوة المسلحة. ولا شبهة هنا فى ثبوت اشتراكه فى الجريمة بطريق التحريض والاتفاق والمساعدة واستحقاقه العقاب عنها. الفرض الثانى: أن يثبت أنه أعطى «توجيهات» أو «تعليمات» بفض التظاهرات مستخدما عبارات لا يمكن معها بحسب المجرى العادى للأمور تنفيذ هذه التوجيهات، إلا باستخدام العنف المؤدى لإراقة الدماء مثل عبارات «خلصونى منهم» «امسحوا بيهم الأرض» أو «اسحقوهم». ولا شبهة أيضا هنا فى قيام مسئوليته الجنائية عن الاشتراك فى الجريمة بطريق التحريض والاتفاق والمساعدة، لأن التحريض سواء صدر من رئيس لمرءوسيه أو من شخص عادى لآخر، فإنما يكفى لثبوته أى أقوال أو أفعال تصدر من المحرض يوجه بها إرادة شركائه نحو ارتكاب جريمة معينة مع الأخذ فى الاعتبار أن الرغبة المحمومة فى فض التظاهرات لم تكن إلا محاولة يائسة للإبقاء على النظام البائد. الفرض الثالث: ألا يثبت من أوراق الدعوى شىء مما تقدم وإنما فقط أنه ترك الثوار يتساقطون شهداء ومصابين وامتنع عن التدخل بإصدار أوامره لوزير داخليته وقتذاك بوقف استخدام العنف المسلح والقوة المفرطة والحفاظ على أرواح المتظاهرين وسلامة أبدانهم، فهل يكفى هذا «الترك» أو ذاك «الامتناع» فى إقامة مسئوليته الجنائية بالاشتراك فى قتل المتظاهرين السلميين؟! وهل يكفى الترك أو ذلك الامتناع فى حق المسئول عن حادث ماسبيرو، وكذلك حادث محمد محمود وأخيرًا عن الحادث المؤلم باستاد بورسعيد؟ ومن المؤكد ثبوت مبدأ المسئولية الجنائية عن القتل العمد بطريق الامتناع، حيث أصبح السائد الآن فى الفقه أن القتل بطريق الامتناع المتعمد هو والفعل الإيجابى سواء بسواء، فى المسئولية الجنائية، بيد أنهم اشترطوا لذلك شرطين:- الأول: أن يكون على الممتنع التزام قانونى أو عقدى بالتدخل. الثانى: أن تكون الوفاة بسبب الامتناع. يتعلق هذا التساؤل بما يعرف فى القانون العقابى برابطة السببية بالامتناع. والسببية بالامتناع أو الترك، فيمكن القول بأنها الجريمة التى يحدثها الجانى وهو فى حالة سكون ولذا تسمى الجريمة السببية، فهو لا يأتى ثمة نشاط ظاهر يمكن من خلاله الكشف عن حقيقة نواياه بسهولة وصولا إلى ما إذا كان قد تعمد إحداث النتيجة أم أن الأمر مجرد إهمال وتقصير. ∎ أما التشريع العقابى المصرى فهو باستثناء الجرائم غير العمدى فى جرائم السلبية بطبيعتها لا يتضمن نصوصا خاصة بالامتناع العمدى فى جرائم القتل غير أن ذلك لا يعد سببا يمنع إقامة المسئولية ضد الممتنع، لأن النص العام لا يفرق بين وسيلة القتل بفعل إيجابى وآخر سلبى، فمن ترك نتيجة معينة تتحقق مع أنه من واجبه وفى مقدوره منعها، فهو متسبب فيها ومسئول عنها ولا يعدو امتناعه أن يكون إرادة عبر عنها بتلك الوسيلة. كما أن الفقه أكد المسئولية الجنائية عن الامتناع العمدى فى جريمة القتل، ذلك لأن المشرع يعترف للإدارة بدور سلبى فى الجرائم البسيطة مثل الجرائم غير العمدية والجرائم السلبية بطبيعتها، فأكد العديد من الفقهاء على وجوب قيام المسئولية إذا أدى الامتناع المتعمد إلى جرائم خطيرة ومنها جريمة القتل. وبالنظر إلى قضية مبارك كنموذج فعلى بقضايا القتل بامتناع، نجد أنه لا شبهة فى قيام المسئولية الجنائية للرئيس المخلوع عن جرائم قتل المتظاهيرن السلميين حالة اقتصار دوره على تركهم يتساقطون قتلى ومصابين وامتناعه عن التدخل لإنقاذهم وذلك للأسباب الآتية: أولاً: أنه المسئول عن سلامة الوطن والمواطنين والتزامه نبعا من دستوره، وقد أقسم يمينا دستوريا للحفاظ على هذه السلامة، وهذا الالتزام يفرض عليه ابتداء اتخاذ ما يلزم لمنع وقوع أى اعتداء على الوطن والمواطنين. ثانيا: أنه يقينا وحكما كان يعلم بوقوع هذه الاعتداءات حيث تنقل حيا عبر جميع وسائل الإعلام العالمية والمحلية والمرئية والمسموعة والمقروءة فضلا عن نقلها عبر غرف العمليات المنتشرة فى قصوره والجهات السيادية. مما يؤكد ثبوت المسئولية الجنائية للرئيس المخلوع عن جرائم القتل بالامتناع. وبالنظر إلى جرائم القتل وضحايا الأحداث الأخيرة باستاد بورسعيد وبتطبيق نفس المبادئ القانونية والفقهية نجد أنها تمثل نموذجا آخر من جرائم القتل بالامتناع وثبوت المسئولية الجنائية فى حق المسئولين عن تلك الأحداث بالامتناع: 1- وزير الداخلية بصفته مطلعا على الأحداث فى مصر وظروف الملاعب الرياضية وما يصاحبها من أحداث تكررت فى الآونة الأخيرة، وبالأخص عقب 25 يناير وشيوع الفوضى وغياب الشرطة وتقاعسها عقابا للشعب الذى أحدث ثورته المجيدة مما يتوافر لديه ظروف الامتناع المستمر عن التدخل للحد من تلك الظواهر بالملاعب الرياضية. 2- السيد وزير الرياضة كونه المسئول الأول عن النشاط الرياضى فى مصر ومؤسساته وملاعبه المتمثلة فى الاستاد الموجود فى كل محافظة ومنه استاد محافظة بورسعيد وذلك بامتناعه عن التدخل بموجب سلطته ومسئوليته فى مراجعة توافر المعايير والاشتراطات الدولية والقانونية فى جميع الملاعب الرسمية ومنها استاد بورسعيد حيث توافرت لديه معلومات سابقة عن الموقف فى استاد بورسعيد وغيره من قبل وحدوث مخالفات جماهيرية متعددة ومتكررة أدت إحداها سابقا إلى استبعاد مشاركة المنتخب المصرى فى مسابقة كأس العالم. مما كان يستلزم منه التدخل وإعمال مسئوليته تجاه تلك الظواهر والإشكاليات ومراجعة توافر المعايير والاشتراطات بشكل عام، وعلى الأخص ببورسعيد إلا أنه لم يفعل مما أدى إلى حدوث الحادث المؤلم وارتفاع أعداد الضحايا باستاد بورسعيد نتيجة تقاعسه وامتناعه عن التدخل لضرورة توفر المعايير المطلوبة فى استاد بورسعيد ومدرجاته. 3- مدير استاد بورسعيد ويتوافر شأنه ذات المبدأ المذكور ومسئوليته جنبا إلى جنب مع وزير الصحة. 4- سمير زاهر رئيس اتحاد الكرة ويتوافر بشأنه أيضا جريمة القتل والمسئولية عن أحداث استاد بورسعيد بالامتناع. 5- كامل أبوعلى رئيس نادى المصرى مسئول أيضا بالامتناع عن أحداث بورسعيد المؤسفة وجماهير نادى المصرى. 6- حسام وإبراهيم حسن يتوافر بشأنهما أيضا فعل الامتناع عن تهدئة جماهير نادى المصرى وتوجيههم من واقع موقعهم فى الفريق الفنى لنادى المصرى بل يتوافر بشأنهما أيضا التحريض والإثارة وهذا مؤكد من واقع السيرة الذاتية وارتباط أسمائهم دائما بأحداث مشابهة بالملاعب المصرية. مما يستلزم فى النهاية تحميل جميع المسئولين المذكورين سواء فى قضية مبارك أو قضية أحداث بورسعيد المسئولية الجنائية عن ضحايا تلك الأحداث من قتلى ومصابين أو إتلاف المنشآت العامة وإحالتهم للمحاكمة. ويستلزم أيضا التدخل التشريعى لتشديد العقوبة فى جريمة القتل بالامتناع العمدى لتصل إلى الإعدام قياسا على القتل بالسم، لأن هذه الوسيلة- الامتناع العمدى- إنما تتضمن معنى الإصرار السابق الوارد بالمادة 231ع إذا لاحظنا أن امتناع الجانى عن التدخل لإنقاذ المجنى عليه إنما يسبقه نشاط ذهنى يوازن فيه الجانى بين واجبه فى التدخل لإنقاذ المجنى عليه وبين الإحجام عن ذلك تحقيقا لرغباته ونوازعه الشخصية الإجرامية، فيغلب بعد إعمال فكره هذه النوازع الشخصية فيترك المجنى عليه يلقى حتفه مكتفيا بالمشاهدة وانتظار أن يسلم الروح دون أن يهتز له جفن أو يساوره ندم فيتراجع. ∎ المحامى بالنقض