كارثة استاد بورسعيد التى أدمت قلوب المصريين تأتى كحلقة ضمن حلقات مسلسل تراجيدى اقتربت مدة عرضه من العام والكل يعلم مضمون هذا السيناريو، ولذلك يتوقع أحداثه إلا أن هناك إصرارا وعنادا من البعض على المضى قدما فى استمرار العرض مع إدراكهم أن النهاية المتخيلة لهم مرفوضة جماهيريا. ولا يمكن لعاقل أن يرى فيما حدث بمدرجات ملعب المصرى مجرد احتقان أو انفعال جماهيرى لحظى أو عشوائى، والمؤكد أنه عمل إجرامى مدبر ومخطط له بإتقان، ولهذا من الصعب فصل ما حدث عن السياق العام لما يحدث فى البلاد خلال الفترة الأخيرة.. فالمأساة كرست ما هو قائم بالفعل من انفلات أمنى غير مسبوق لدرجة بات السطو المسلح يتم جهارا نهارا أو بصفة شبه يومية دون خوف أو رادع فى جميع مناطق العاصمة، وأصبح خطف الأطفال والمساومة عليهم والبلطجة وأعمال السلب والنهب يشكل ظاهرة فى كل ربوع مصر. يتناغم مع الانفلات الأمنى الانفلات الإعلامى فى عدد كبير من الفضائيات التى أطلت علينا خلال العام الماضى والمدعومة بأعداد كبيرة من الأفاقين والمتحولين وأصحاب المواقف المتلونة وتجار الكلمة الخبيثة الذين يفتون فيما لا يعلمون وينطقون بما لا يؤمنون به، يدسون السم فى العسل من خلال برامج وحوارات ظاهرها الحرية والشفافية والجرأة فى إبداء الرأى وتبنيه، وباطنها الوقيعة بين مختلف التيارات السياسية وخلق حالة من البلبلة لدى الجماهير، البعض من هؤلاء يتدثرون بعباءة الحرية والديمقراطية زيفا وخداعا، والأمر لا يعدو أن يكون السعى من جانبهم وبكل جرأة وقوة إلى رفع معدل النمو المالى والاقتصادى الخاص بحساباتهم البنكية، أما موارد الدولة واقتصادها وأمنها واستقرارها بالنسبة لهم، فالمسألة فيها نظر! ليلة المجزرة وسعيا للوقوف على آخر الأخبار التى تأتى من بورسعيد تنقلت بين العديد من تلك الفضائيات وسمعت العجب العجاب! تحليلات تنم إما عن جهل حقيقى أو أن صاحبها يدرك تماما، ويعى لكل كلمة ينطق بها، سمعت أحدهم يقول بعد تفكير عميق لمجزرة بورسعيد أن مرتكبيها من المؤكد هم أنفسهم أو على نفس شاكلة من يعطلون مصالح الناس فى ميدان التحرير؟ بل زاد : إن هؤلاء هم أنفسهم من تظاهروا أمام مجلس الشعب قبل يومين، ما هذا الهراء؟! الغريب أن مقدم البرنامج يبدو أن الكلام يأتى على هواه، ولذلك يترك الكابتن صاحب التحليلات العرجاء المسمومة ليحرض الشعب وأسر ضحايا مجزرة الاستاد إلى مواجهة من يدعى أنهم القتلة المتواجدون فى التحرير، لصالح من هذا؟ أليست هذه هى الفتنة ذاتها؟ المحلل الهمام وإمعانا فى تأكيد سطحية رؤيته وهيافة استنتاجاته، قال بالحرف الواحد: إن فريق النادى المصرى لن يستطيع بعد اليوم اللعب فى أى محافظة مصرية أخرى، وجمهور بورسعيد لن يدخل أى ملعب آخر! ولم يفت المحلل الهمام أن يوجه انتقاداته إلى حالة البلادة الأمنية التى كان عليها الضباط والجنود داخل الاستاد، حيث كانت واضحة تماما للعيان، لكن لسوء حظ صاحبنا أن وزير الداخلية تداخل هاتفيا وتحدث عن الأحداث والترتيبات الأمنية، وزاد وأفاض بكلام كثير لا معنى له، لكن المخجل أن المحلل الهمام الذى كان يهاجم الأمن قبل مداخلة الوزير انفعل بطريقة مصطنعة ليؤكد أن رجل الشرطة مظلوم ولابد أن يقف المواطنون لدعمه والشد من أزره حتى يعود إلى ما كان عليه فى سابق عهده! إلا أنه وعلى استحياء طلب ألا يستخدم الضباط العنف المفرط! هذا نموذج مكرر فى العديد من الفضائيات التي ظهرت على الساحة مؤخرا ولا يخفى على المشاهد العادى وليس الذكى كشف نوايا تلك النوعية من تجار الكلمة الخبيثة. على أى حال، فإن المسألة برمتها باتت قيد التحقيق من قبل النيابة العامة وننتظر ما ستسفر عنه لجنة تقصى الحقائق التى شكلها مجلس الشعب، إلا أننا - وبكل صدق - محبطون، ودوافعنا كثيرة ربما توصلنا إلى حالة تشاؤمية لمستقبل هذا البلد الذى تقف كل أجهزته مشلولة الإرادة ومغلولة الأيدى فى مواجهة عدد من عمال وزارة الزراعة أو الرى يضرون بسمعة مصر ويضربون ما بقى لنا من نصيب فى السياحة - وهو بالفعل قليل - فى مقتل، غير عابئين بما وصلت إليه البلاد من أوضاع اقتصادية وأمنية وأخلاقية متردية.