انتشار ظاهرة الغناء الاستهلاكي قضت علي الأخضر واليابس، فيما تبقي من أوراق الغناء المصري- التي كانت تعتبر من أهم أوراقنا الفنية الرابحة علي مستوي العالم العربي- بظهور أصوات لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بالغناء، بل أقل ما توصف به أنها أصوات تحرك الغرائز وتلعب بالعقول . ظهور الأصوات الرديئة دفعت الأصوات الجيدة للانسحاب وإن كان هذا ليس مبررا علي الإطلاق، فهذا لا يسمي إلا يأسا واستسلاما، وإن كان الشيء الوحيد الذي يحسب لهم هو رفضهم الجماعي للانزلاق إلي هاوية الفن المسف حتي لو ماتوا جوعا حفاظا علي أسمائهم وتاريخهم الذي صنعوه بشق الأنفس والدراسة والموهبة والكفاءة والحضور، وليس بهز الوسط أو العري، ورفضوا تقديم فن استهلاكي، فكان مصيرهم التهميش. أساليب المقاومة كانت مختلفة، حسب قوة وإرادة وتحمل وإصرار وعزيمة كل منهم وهي المقومات التي من المفترض أن تدفعهم للانتفاض والعودة من جديد أقوي مما كانوا. هذه القائمة هي التي كانت تطمئننا علي مستقبل الغناء في السنوات الماضية وتضم عشرة أصوات من أفضل أصوات هذا الجيل في مقدمتهم «هاني شاكر» و«علي الحجار»، «محمد الحلو»، «مدحت صالح»، «إيمان البحر درويش»، «محمد ثروت»، «نادية مصطفي»، «أحمد إبراهيم»، «أنغام» و«كاظم الساهر». أبرز المستسلمين من هذه القائمة «محمد ثروت» الذي اعتبره شيوخ الطرب عدو النشاز هو و«مدحت صالح» لغنائهما السليم بنسبة 100٪، إلا أن «ثروت» الذي سيطر علي تفكيره «البيزنس» فانشغل بمشروعاته التجارية دون أن يطور من فنه ودون أن يسعي لفتح مجالات فنية جديدة له مثل سوق الحفلات الغنائية الذي كان بعيدًا تماماً عنه اللهم إلا من بعض الحفلات القليلة التي كان يحييها علي استحياء، إلا أنه لم يكن نجما للحفلات الغنائية الخاصة ولم يسع لدعم هذه المكانة التي تعتبر هي المؤشر الحقيقي لنجاح المطرب رغم أنه الوحيد من جيله الذي اختصه موسيقار الأجيال «عبدالوهاب» بلحن له. أيضًا «نادية مصطفي» رغم حلاوة صوتها وجمال إحساسها ورقة طلتها وخفة ظلها وحضورها اللافت، إلا أنها عاشت في دور «ست البيت» الزوجة و«أم البنات» لتهمل فنها، وقد يكون هذا مقصودا نتيجة الغيرة الفنية بينها وبين زوجها «أركان فؤاد»، إلا أنه كان عليها وهي المطربة التي عوضت غياب جيل «فايزة أحمد» و«شادية» و«نجاة» وتركت بصمة عند جمهور عريض ألا تستسلم بهذه الطريقة، وألا تتحول إلي مجرد «ربة بيت» ونخسر مطربة بهذا الحجم. أما «أحمد إبراهيم» فهو الذي افتقد مشروعه الغنائي إلي إدارة تدفعه للنجاح الذي يتناسب مع إمكانياته، رغم اتهام الكثيرين له بأنه لا يمتلك الحضور ولا القبول اللذين يؤهلانه لتلك المكانة، إلا أنه كان من الممكن أن يدخل التاريخ بصوته لو استجاب لرغبة موسيقار الأجيال «محمد عبدالوهاب» الذي عرض عليه أن يعيد الأغاني التي قدمها عبدالوهاب علي مدار تاريخه بصوته، علي أن تتولي شركة «صوت الفن» التي يملكها عبدالوهاب إنتاج هذا المشروع، لكنه رفض معللاً ذلك بأنه لا يحب أن يكون صعوده الغنائي بتقليد الآخرين حتي لو كان من يقلده بحجم «عبدالوهاب»، واكتفي بأن يكون مجرد موظف في هيئة قصور الثقافة لضمان لقمة العيش دون البحث عن الإبداع الحقيقي، رغم أنه واحد من الأصوات القوية المليئة بالإحساس والتي تعيد إلي الأذهان صوت الرائع الراحل «محمد قنديل». هناك من تأرجحوا ماسكين تارة بخيوط المقاومة، ومستسلمين تارات بعد أن انشغلوا بأمور شخصية ف«مدحت صالح» المعجون بالغناء والإحساس ضيعته حياته الخاصة بعد أن كان اسمه ملء السمع والبصر محققا قفزات غنائية وضعته في المقدمة منها. «كوكب تاني» التي حصل بها علي الجائزة الأولي من تركيا، «المليونيرات» التي كادت أن تتحول إلي نشيد مدرسي من كثرة ترديدها علي ألسنة الناس. «صالح» مطرب من العيار الثقيل هو الذي هز أركان الأوبرا عندما غني فيها «3 سلامات» التي أحياها بعد أن ظلت معتمدة بصوت «محمد قنديل» لأكثر من ربع قرن لكنه كان في كل مرة يستسلم للصدمات ويعجز عن المواجهة والمقاومة. «محمد الحلو» سار علي نهج «صالح» في الدخول إلي ساحات المحاكم وإثارة الجدل حول حياته الشخصية والمشاكل التي كلما هدأت انفجرت من جديد متناسيا تطوير نفسه غنائيا، وهو الصوت الذي جمع بين الحلاوة والطلاوة والقبول وخفة الظل. «علي الحجار» لا يختلف عنهما رغم أن «الحجار» قد يكون الوحيد بين ثلاثتهم الذي قاوم مقاومة حقيقية ومازال ولم يستسلم للرياح العاتية التي اقتلعت غيره، ورغم غناء «الحجار» الكلاسيكي، إلا أنه يشفع له، وقد يكون هذا من أسباب بقائه، إن غناءه مدعوم دائما بالحس الوطني وقد يكون هذا أحد أسباب تصنيفه كمطرب للمثقفين وهو ما سبب تراجعه كمطرب جماهيري ورغم امتلاء أجندته بالحفلات، إلا أنها حفلات لا تخرج عن إطار المثقفين كالتي يقيمها في ساقية الصاوي والأوبرا والقلعة وغيرها، لكن لا أحد يراهن عليه كمطرب للحفلات الغنائية العامة، رغم أن هناك «محمد منير» الملقب ب «صوت مصر» وأيضا بمطرب المثقفين. مازال هو المصنف الأول كمطرب له وزنه فيما يتعلق بالحفلات الغنائية العامة وإن كان لا أحد ينكر أن «الحجار» يحتل المقدمة كمطرب لتيترات المسلسلات، وهو المجال الذي يعتمد عليه في بقائه علي الساحة لكنه لا يصنع جماهيرية، لأن الجماهيرية فيه مجانية عن طريق توصيل الأصوات للمنازل عبر التليفزيون. إيمان البحر درويش يعتبر حالة خاصة رغم أنه كان يتمتع بقبول جماهيري وشعبية كبيرة علي اعتبار ما كان يقدمه من شكل غنائي مختلف ومميز، إلا أن تردده ما بين الاعتزال والعودة والتدين هو الذي سحب من تحت أقدامه بساط الجماهيرية ولم يحافظ علي الفرص التي جاءته والتي كان سيستمر بها لو استغلها بشكل صحيح. «كاظم الساهر» و«أنغام» نموذجان للغناء الراقي.«كاظم» تميز عن كل من كان علي الساحة بغناء القصيدة، والتي صنعت له نجوميته وجماهيريته إلي جانب قبوله وشجن عينيه فخطف القلوب، إلا أن كاظم ترنح بعد سقوط «صدام حسين» وفقد الكثير من تعاطف الناس وأهمل نفسه، ولم يعد هو «كاظم» الحريص علي فنه وجمهوره فتراجع إلي الوراء بشكل ملحوظ، «أنغام» فقدت تعاطف جمهورها قبل أن تنطلق، فبعد أن حققت نجومية ملحوظة علي يد والدها الموسيقار «محمد علي سليمان» ووضعها علي أعتاب النجومية دب خلاف بينهما ترك أثرا وجرحا عميقا ليس في نفس والدها فقط، وإنما في نفس جمهورها الذين رفضوا عداءها لوالدها، وهو ما جعلها حتي الآن محلك سر رغم خطواتها التي تحاول السعي لتحقيقها. أما المقاوم الأعظم «هاني شاكر» الذي رفض الاستسلام وساعدته علي ذلك موهبته وصوته وإحساسه واختياراته الغنائية وتاريخه، إلا أن كل هذا لم يشفع له أمام تيار الغناء الهابط، وحدوث تغيير في مزاج الجمهور الذي انساق وراء الغناء الغريزي، ورغم محاولات «هاني شاكر» للبقاء لأطول مدة ممكنة علي الساحة، إلا أنه كان يتلقي الصدمات الواحدة تلو الأخري أكبرها فجيعة ابنته «دينا» رحمة الله عليها، «هاني» الذي كان يحاول التعامل مع الساحة بمنهج التغيير الدائم حسب متطلبات السوق دون الوقوع في دائرة الإسفاف والابتذال، وغير جلده عدة مرات أبرزها عندما قدم دويتو «حياتي» مع «شيرين عبدالوهاب» تأكيدا علي أنه علي استعداد للتفاعل مع كل الأجيال، ورغم ذلك كانت الصدمات المتلاحقة تضعفه،وها هو يقاوم أحزانه بالعودة وبقوة من خلال أوبريت «سلامتك يا مصر» احتفالا بالعيد الأول للثورة ولكن هل هؤلاء العشرة من الممكن العودة وبقوة إلي الساحة،وهل لديهم الاستعداد النفسي والفني لإعادة حساباتهم وترتيب أوراقهم من جديد ليكونوا بمثابة حائط الصد الغنائي في المرحلة المقبلة صحيح أن الظروف الإنتاجية السابقة لم تساعدهم ولا المناخ الفني أو الإعلامي الذي فضل الغث علي السمين إلا أنه كان عليهم البحث عن البدائل وعدم الاستلام بهذه السهولة، وإنت كنت واثق أنهم سيولدون من جديد في 2012 شريطة أن يكون البحث عن الفن لديهم أهم من البحث عن المادة، فماذا لو كسب الفنان ملايين الدنيا وخسر فنه؟! مع ضرورة دعم الدولة لهم إعلاميا وانتاجيا من خلال صوت القاهرة والإذاعة وعودة ليالي التليفزيون وأضواء المدينة ومحاربة قراصنة النت لحماية المنتجين لاستعادة عافيتهم الإنتاجية.