أولاد الشوارع ظاهرة إنسانية في بلدان العالم كافة في العواصم والمدن والقري ولكنها ظاهرة تختلف في بيئة عن الأخري، ففي البلدان التي يغمرها الترف والرفاهية يكون أولاد الشوارع قد أرادوا حياتهم بإرادتهم لم يلفظهم المجتمع، بل هم الذين قد لفظوا مجتمعهم وصراعه حول المادة واللذات، فآثروا البعد وليس عندهم حقد أو رغبة في الانتقام من مجتمعهم ويطلق عليهم: LES VAGABONDS. أو المشردون باختيارهم، عاش هذه الحياة شاعر فرنسي مبدع مجدد للشعر الفرنسي سماه عبدالرحمن صدقي في كتابه الشاعر الصعلوك وهو بودلير.. وفي رسالة للدكتوراه قدمها الدكتور يوسف خليف أستاذنا الراحل في جامعة القاهرة كلية الآداب، عنوانها الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي ومن أشهرهم الشاعر تأبط شرا واسمه يدل علي شخصه، هؤلاء الشعراء كانوا أبناء الشوارع والكهوف والجبال متمردين علي قبائلهم ويحاربون أحيانا من أجل الفقراء والمستضعفين. أما في مصر المحروسة فلم يكن يدري الحكام بوجود «أولاد الشوارع» لم يلتفتوا إليهم بل نظروا إلي من يرونه منهم كما ينظر إلي الذباب والجرذان علي حد تعبير القذافي رحمه الله بل لعل شعبنا المصري العظيم لم يكن واعيا بوجود عالم اسمه «أولاد الشوارع» حتي تفجرت ثورة 25 يناير لتكشف عن أمور خطيرة بل لتعري مجتمعنا ليظهر الظلم والنهب والنفاق من جهة وليظهر الذل والهوان والبؤس، أمور ظللت حياة الأغلبية الساحقة كما كشفت عن عالم «أولاد الشوارع» وخرج علي السطح والإعلام من ينادي بأن هؤلاء هم المخربون هم الذين أحرقوا مصر، وتبين للشعب أن أولاد الشوارع صبية تائهون في الحياة لا أمل عندهم ولا سند لهم إنهم كالطير يخرج مع الفجر باحثا عما يسد جوعه وقد سقطت عنهم المبادئ والقيم، وهل للجائع المتضور وهل للمحروم من طاقة لاحترام هذه القيم وهو يعيش في بؤس دائم وشقاء ملح؟ كشفت ثورة يناير عن وجود أكثر من مليون من اليتامي واللقطاء والمعوزين موزعين بالعدل والقسطاس علي محافظات ومدن وقري المحروسة، واستيقظنا مع أناشيد الحرية والعدل والمساواة لنجد حولنا أولاد الشوارع وقد وجدوها فرصة ليعلنوا أيضا عن رغبتهم في عودة العدل الغائب والكرامة المسلوبة. من سنوات طويلة كتب المؤرخ المعاصر الدكتور عبدالعظيم رمضان رسالة نشرتها مجلة أكتوبر حين كان يرأسها الأستاذ صلاح منتصر حفظه الله أو الأستاذ أنيس منصور رحمه الله، قالت الرسالة للجالس علي سدة الحكم وقد اطمأن الاطمئنان كله ورضي الرضا كله ومن حوله حاشية الفساد تنهش في عقل وجسد مصر، قالت الرسالة: احترس أيها الرئيس فإن ثورة الجياع والبؤس ستحرق الوطن من شماله حتي جنوبه في ساعات قليلة فإن الإنسان الذي يسرق ضميره من تجار الأديان ويقفل باب عقله من فقهاء القوانين وتسلب إرادته من جلادي السلطان أبناء الجلاد الشهير «سرور» في عصر هارون الرشيد، كتب مؤرخنا رسالته ثم رحل بعد سنوات إلي الرفيق الأعلي ولا ندري هل قرأ حكام ذلك الزمان الرسالة واستوعبوها؟ وهل قرأها مصريون كثيرون، أم أنها طويت كما كانت حياة المصريين تطوي مع الأيام دون بارقة أمل في عدل أو حرية أو كرامة.. وجاءت ثورة يناير، لم تحرق مصر لم تخرب، لم تقتل وصمدت أمام جحافل الفساد والطغيان، وذهل المصريون من حجم الفساد والدمار كما ذهلوا من حجم «أولاد الشوارع» لنتوغل قليلا في الحواري والقري والنجوع قبل أن نلقي نظرة تحت الكباري وعلي زوايا الشوارع، لم يفارق خيالي مشهد من سنوات طويلة، قرية هي واحدة من أربعة آلاف قرية مصرية عشت فيها سنوات، أجمل مبانيها الجامع والكنيسة، وهذا أمر رائع فبيوت الله يجب أن تكون علي جمال وروعة نعم، نعم وقلمي محسوب علي رجال الدين، ولكن هاجسا ألح علي ولايزال يؤرقني، بيوت القري، وأغلب القري لم تتغير كثيرا منذ رمسيس الثاني، البؤس والشقاء والأمية برغم سريان بصيص كهربائي يضيء حينا ويطفئ أغلب الأحيان، وبرغم تدفق المياه من صنبور متهالك، ليس في القرية أفخم من الجامع ومن الكنيسة تطوقهما الأكواخ والعشش، وأتساءل: هل يرضي الله سبحانه وتعالي أن يسحق الإنسان خليفته باسم الأديان؟ وما جاءت إلا لخدمة هذا الكائن البشري الذي خلق حرا عاقلا علي مثال خالقه الأعظم، كيف استكان ضمير المجتمع أمام ظاهرة سكان القبور وقد بسط الأثرياء قصورهم علي امتداد الشواطئ دون تفكير أو تحليل؟؟ أسقطت الشيوعية القيم الدينية فلم تصمد إلا أقل من ثمانين عاما ثم انهارت، لأن الإنسان كائن فيه نفحة إلهية تحثه علي البحث عن مصدره ومصيره وانتشرت الرأسمالية وقانون السوق وأصبح لكل شيء ثمن وإذ بها حضارات ارتقت بالجسد ولبت حوائجه في يسر فأصيب الإنسان بما يشبه العرج النفسي، فأين السبيل وأين المفر؟ لا سبيل ولا مفر إلا في العدل والحرية والكرامة وفي تربية الإنسان ليكون سويا، إنه ليس جسدا مجموعة من الغرائز وليس ملاكا روحيا محضا من القري والنجوع من الحواري والعشوائيات تنطلق قوافل من أبناء الشوارع، وأضيف إليها الآلاف في المدن يؤرقها ظلم فادح ويعذبها تجاهل متصل، ويسوقها إلي العنف سوقا احتقار من المجتمع. كم عدد أولاد الشوارع في مصر؟ هل يدلنا أحد؟ اليتامي واللقطاء والهاربون من جحيم الفقر والطامحون إلي حياة أفضل، بنات صغيرات وصبية فقدوا حنان الأسرة، وعطف المجتمع، قلق علي المستقبل، إيقاع حياة سريع، هجرة داخلية للبحث عن عيش ملائم لمجرد البقاء علي الحياة، عوامل تعصف بالأجيال الصغيرة وتفرغ روحهم من معني الحياة وقيمتها من طعم الكرامة والحرية، ويتسع الجرح، أذكر دوما بحقيقة علمية ثابتة، أن سكان مصر سنة 2020 أي بعد ثماني سنوات يصل تعدادهم إلي مائة مليون، فهل من رجال يحبون مصر وهل من نساء يعشقن تراب هذا الوطن لديهم رؤية للمستقبل؟ من يأخذ المبادرة لرعاية أولاد الشوارع ويخلق منهم طاقة إيجابية للوطن؟ من يرحم هؤلاء المستضعفين المتهمين الآن بإثارة الفوضي وهم منها أبرياء، من يرحم من في الأرض ليرحمه من في السماء؟ أولاد الشوارع هم أولادنا ورحم الله شاعر النيل حافظ إبراهيم حين قال: كم نفوسا لو رعت منبتا خصبا لكانت جوهرا. ∎