لا يمكن وفق معطيات اللحظة أن نفاضل بين التفاؤل والتشاؤم كمدخل لاستقراء ورصد توقعات العام الجديد، حتي لا يتحول الأمر إلي انحياز عاطفي يدخل بنا إلي متاهة الأمنيات، بينما الواقع يسير في عكس الاتجاه، فما يأتي به الغد يتشكل عبر واقع اليوم، ودليلنا أننا قبيل مطلع عام 2011 كنا نمني النفس بعام يحمل حلولاً علي الأرض لقضايا الملف القبطي في ضوء كونه عام الانتخابات الرئاسية، هكذا جاءت سطور مقالي بمجلة روز اليوسف في أول أيام تلك السنة، فإذا بالأيام تحمل لنا انفجاراً من العيار الثقيل بدأ يوم 25 يناير ولم يتوقف بعد، كانت النار تسري تحت الهشيم، وكان النظام آيلاً للسقوط، وفي لحظة فارقة التقت الإرادات وانفجر البركان. علي أن الأمر لا يختلف كثيراً عندما نقترب من استشراف ما يمكن أن تحمل 2012 في جعبتها، بعد أن بدأت ملامح سطورها في الظهور فنحن أمام اكتساح للتيارات السياسية الإسلامية الراديكالية لمقاعد البرلمان، وما صاحب ذلك من تصريحات تحمل نبرة استعلائية تجاه التيارات الأخري مدنية وليبرالية ويسارية، وإعادة إنتاج لتصورات دولة ما بعد وصول الإسلاميين خاصة فيما يتعلق بغير المسلمين، الأقباط تحديداً، والتي تتأرجح بين إعادتهم الي المربع الذمي وبين تطمينات تسعي لتخفيض درجة حرارة التخوفات القبطية، وعلي صعيد آخر تتجمع في الأفق سحابات صدام بين المجلس الأعلي للقوات المسلحة بصفته السلطة الحاكمة وبين تلك القوي وفق تصورها أنها صاحبة الحق في رسم ملامح الدولة استناداً إلي التفويض الشعبي عبر صناديق الاقتراع، فبينما يسعي المجلس إلي انتقال مشروط للسلطة يدعمه في ذلك العديد من القوي السياسية تخوفاً من أن ينقلب القادمون علي آلية الديمقراطية، فننتقل من دكتاتورية فرد إلي ديكتاتورية تيار، تري القوي الإسلامية أن أي شروط توضع هي ضد الشرعية وانتقاص من حقها في رسم المشهد السياسي والحياتي، وربما شهدنا بعضاً من هذا في رفض وثيقة السلمي ورفض المجلس الاستشاري والمطالبة بتقديم انتخابات رئاسة الجمهورية علي وضع الدستور لتكتمل أركان سقوط الثمرة في ملعبهم، فإن جاء الدستور بنظام رئاسي فهو لهم، وإن جاء بنظام برلماني فهو مطوع لهم، وإن جاء بنظام مختلط فلن يذهب بعيداً عنهم، وغير بعيد تجربة حزب جبهة الإنقاذ في الجزائر 1994 حين أعلنت عقب فوزها بأغلبية البرلمان أن هذه الانتخابات هي آخر عهد الجزائريين بالديمقراطية، وما تبع ذلك من انقلاب قادة العسكر لتدخل الجزائر علي أثره في حرب أهلية دامية امتدت لما يزيد علي العشر سنوات. وفي الأفق صدام محتمل آخر كشفت عنه المعارك الانتخابية خاصة في جولات الإعادة والتي انحصر التنافس فيها في أغلبية الدوائر بين الإخوان المسلمين والتيارات السلفية، وشهدنا كيف يتحول فيها الحلفاء إلي أعداء، وهذا يرشحهما في إطار التنافس تحت قبة البرلمان إلي طرفين يزايدان علي التشدد باعتباره الأكثر جذباً ومغازلة للناخبين وفق التجربة الآنية. فإذا انتقلنا إلي صفوف الأقباط يمكن أن نلمس بوضوح ملامح تأثير كل هذا عليهم، وربما يسهم في رسم ملامح صورة العام الجديد، فعلي الرغم من الحراك الإيجابي الذي شهد خروجا ملموساً ومتزايداً للأقباط من عباءة الكنيسة سياسياً ترجم في المشاركة بالإعداد والتنفيذ والدماء في انتفاضة 25 يناير وما تلاها في التحرير والقائد إبراهيم وماسبيرو، ثم في مشاركاتهم في الائتلافات الشبابية الثورية المختلفة، علي الرغم من هذا نلمح بوادر انتكاسة تتمثل في شيوع دعوات الهجرة الدائمة عن مصر، وثمة دعوات بالعودة إلي الاحتماء بأسوار الكنيسة مجدداً، والأخطر في اتجاه معاكس وإن بدا علي استحياء الدعوة إلي تبني العنف عند بعض من الشباب في مواجهة إرهاصات الانقلاب علي مدنية الدولة وحقوق المواطنة، وهي دعوة لا يختص بها شباب الأقباط وحدهم بل والعديد من غير الأقباط ممن يرون أنهم مستهدفون من قبل دعوات إحياء دولة الخلافة. وقد تشهد السنة الجديدة خططاً ممنهجة لأسلمة القوانين المنظمة للعلاقات المجتمعية والاقتصادية، كما بشرتنا تصريحات بعض من الرموز الراديكالية التي فازت بمقاعد برلمانية، كفرض الحجاب، وتقنين جباية الزكاة والجزية، وفي مناورة إعلان تأسيس «جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المصرية» علي صفحات شبكة التواصل اللاجتماعي الفيسبوك منسوبة لشباب من السلفيين المنتمين إلي حزب النور، ونفي الحزب لهذا، والذي يحسبه البعض تشبهاً ببالونات الاختبار وجس النبض التي يجيدها الإخوان المسلمون. لكنها في النهاية تحمل مؤشرات ترسل رسائل ملغومة لغير المسلمين وربما لغير المشايعين للتيارات الراديكالية، الأمر الذي يرشح العام الجديد لأن يكون مسرحاً للتوتر والمصادمة بدرجاتهما المختلفة. ولا يمكننا رسم ملامح مشهد 2012 بغير أن نقترب من نشطاء الأقباط في المهجر، وقد تحملوا في سنوات النظام السابق الكثير من الاتهامات وما أظن أن القادمين الجدد سيتخلون عن هذه الاتهامات، وكأن الوطنية لم تغادر الحدود الجغرافية للوطن معهم، ولعلنا ندرك أن تقنية التواصل وآليات الاتصالات تجعلهم في قلب الحدث، فماذا ننتظر منهم وهم يتابعون عن كثب وبقلب واجف ما يجري علي أرض الوطن، وهل سيصمتون علي اختطاف أركان مدنية الدولة واستهداف المصريين الأقباط بحسب ما يتردد في فضاء إعلام التيارات الراديكالية وحالة الارتباك بين التصريح ونقيضه، ظني أن الأمر أخطر من أن ندعه في مربع التوقعات والافتراضات، بل يستوجب أن يترجم إلي ضوابط قانونية غير قابلة للتلاعب اليوم وغداً تحمي الحقوق الأساسية للمواطن لكونه مواطناً بعيداً عن الهوية الدينية أو المذهبية. لعل هذا يقودنا إلي ملمح آخر من ملامح المشهد المرتقب، وهو أن يأتي وضع الدستور الجديد قبل الانتخابات الرئاسية، وقبلهما يصبح وضع ضوابط وأطر وملامح الدستور في اتفاق ملزم لجميع الأطراف أمراً حتمياً لنتجنب الانقلاب علي الحقوق الأساسية للمواطن، تحت غطاءات دينية غامضة وملتبسة ومختلف حولها، هذه الحقوق تمثل حجر الزاوية في كل دساتير الدول المدنية الحديثة، ويتطلب هذا أن ترتفع قوي الأغلبية فوق رؤاها الذاتية الضيقة، وتكف عن معارضتها التقليدية، والتي حملت قبلاً إشارات دامية قد تجرف الوطن إلي ما هو أبعد من المصادمات. وهنا يكون السؤال ما هو السبيل إلي ترجمة هذا علي الأرض؟ ظني أن الكرة في ملعب المجلس العسكري باعتباره السلطة الحاكمة وفقاً للإعلان الدستوري، الأمر الذي يعطيه الحق في إصدار إعلان دستوري جديد يحدد هذه الضوابط بعيداً عن جدل الوثيقة والمجلس الاستشاري، وقد نكون بحاجة الي التفريق بين التعديلات الدستورية التي تم الاستفتاء عليها، وبين الإعلان الدستوري، فقد كان الترتيب الطبيعي أن يبقي دستور 71 قائماً بعد التعديلات، أما وقد أعلن المجلس العسكري إعلاناً دستورياً فهو يقر بسقوط الدستور وتعديلاته، وإن عاد وضمنها في الإعلان الدستوري، والذي يحسب هنا وفق رأي فقهاء دستوريين بمثابة قانون، يملك من أصدره أن يعدله أو يستكمله، وهو في حالتنا هذه المجلس العسكري، متي توفرت له الإرادة السياسية. قد تحمل السنة الجديدة ترجمة علي الأرض للشعارات الطوباوية التي رفعت وملأت الفضاء السياسي والإعلامي من قبل تيارات الإسلام السياسي، وقد تحمل ترجمة للتصريحات الاستعلائية والدموية التي حاصرتنا من رموزهم في لعبة توزيع الأدوار التقليدية، وهنا نستحضر التجارب السابقة من نظراء لهم أفضت إلي مخاطر التقسيم كما حدث في السودان أو المجاعات وسقوط الدولة، الصومال نموذجاً، أو الدخول إلي جحيم الحرب الأهلية التي مازالت رحاها تدور في أفغانستان، أو تجثم علي السلطة ولا تبرحها وتدخل بالقضية الوطنية في متاهة بلا قرار كما فعلت حماس بالقضية الفلسطينية، وكلاهم، الصوملة والسودنة والأفغنة والحمسنة، خيارات لا نقبل أن تجد لها موقعاً بيننا. ولا أظن أن تيارات الإسلام السياسي المصرية تسعي إليها أو تقبل بها، فهم مصريون خلصاء قبل السياسة وبعدها، قد نختلف مع بعض طرحهم لكننا نصطف معاً لحساب الوطن. علي أن الصورة لا تكتمل بغير الاقتراب من المؤسسة الكنسية بعد أن امتد أمد التعامل معها باعتبارها الممثل السياسي للأقباط من قبل النظم الحاكمة فيما بعد يوليو52 وهو تعامل لم يكن ابتداعاً من هذه النظم بل هو موروث مصري قديم لم يتغير مع انتقال مصر إلي نسق الدولة القومية، ولعل من يعود إلي رصد المؤرخين الثقاة علي الجانبين يلمس هذا بجلاء، علي أن التاريخ المعاصر شهد تحولاً واضحاً إذ تلاقت الإدارات السياسية والكنسية في تكريس تمثيل الكنيسة للأقباط سياسياً، وقد يري كثيرون أن الكنيسة كانت مدفوعة لذلك دفعاً بعد تصاعد التيارات الراديكالية الإسلامية بدعم رئاسي بدأ مع قدوم السادات في محاولته تقليص وتقويض المد الناصري واليساري حينها، لذلك ترجمت الكنيسة احتواءها للأقباط في إنشاء مجتمع مواز يحقق الاكتفاء المجتمعي للأقباط داخلها، حتي تنتهي موجات الاستهداف الإرهابي لهم، وهنا نتوقف كثيراً عند خروج شباب الأقباط سياسياً من عباءة الكنيسة بفعل حراك 25 يناير ونتساءل هل سيشهد عام 2012 تأكيداً لهذا الخروج باتجاه الاندماج الوطني أم سيشهد ردة مجددة للانزواء خلف الأسوار الكنسية؟ ظني أن هذا مرتبط بأمرين: أولهما قناعة القيادة الكنسية بأن دورها السياسي لم يعد خياراً صحيحاً في ضوء حساب التداعيات التي كان الأقباط وقودها، ويقينية أن الكنيسة لا تملك التعاطي مع أدوات السياسة ومناوراتها، وأن تلتفت إلي أنها محملة بواجب إعداد رعيتها لترجمة القيم المسيحية بحسب الإنجيل لحياة أكثر فاعلية وحياة أخروية أفضل وترجمة تلك القيم علي الارض إسهام وطني في المقام الأول، ظني أن الأمر مرتبط بتوفر الإرادة لدي القيادة الكنسية وهو في ظني أكثر تعقيداً من مجرد التمنيات، ولهذا قصة أخري، لكن الإيجابي في هذا الأمر أن الصف الثاني في القيادة الكنسية يبشر بانفراجة داعمة لتوجه العودة إلي الدور الروحي للكنيسة بعيداً عن التطلعات السياسية، وفقاً لبداياتهم المختلفة. الأمر الثاني يتعلق بالتوجه السياسي الذي يسيطر علي الحكم الجديد ومدي إيمانه بدعم الاندماج الوطني وتفعيل ذلك علي الارض، فمازال خطر الانزواء قائماً في ضوء التصاعد المتواتر للتيارات الراديكالية. ويبقي أن الأقباط مكون أصيل في المشهد المصري لن يتخلوا عن وطنهم مهما كانت السيناريوهات المحتملة، وفق درس التاريخ المتكرر، ولن يغردوا خارج السرب، ولن يعودوا إلي الانزواء خلف أسوار الكنيسة التي رفع عنها عبء تمثيل الأقباط سياسياً وفق مخطط النظام السابق، وظني أنها في طريقها إلي تفعيل دورها الروحي التاريخي والأولي بالاهتمام، يقيني أن مسيرة الأقباط الاندماجية ستستمر مهما كانت تكاليف المشاركة، هكذا تقول ميادين التحرير.