من الخطر بمكان التوقف عند المشهد الذي تشكل في أيام التحرير والذي اعاد الحياة لنسق الاندماج الوطني بين المصريين أقباطاً ومسلمين، فالمشهد علي روعته وعمقه لا يقوي وحده علي مواجهة تراث ممنهج لتكريس الانشقاق الوطني علي أرضية الهوية الدينية. ولعل الأحداث ذات الصلة التي جرت في الأيام القليلة الماضية تؤكد جسامة الخطر الداهم من الاستسلام لوهم أن مشهد التحرير قد استقر في الوجدان الجمعي وأعادنا إلي ما كنا عليه قبل هجمة الاحتقان الطائفي التي غشيتنا مع بداية السبعينيات من القرن المنصرم ومازالت، فنكون كمن يدفن رأسه في الرمال، وقد نفيق يوماً علي واقع قد استلب الدولة المدنية تحولت فيه مصر إلي إمارة افغانية يحكمها جند الله. وقد يأذن لي القارئ أن أطرح عبر سطوري مخاوف استشعرها كونتها وقائع علي الأرض، بدأت في عمق مظاهرات التحرير، من قوي سارعت في أيامها الأولي بالتبرؤ منها، ونفي أي صلة بها ثم عندما لاحت ملامح نجاحها سارعوا بالإعلان عن دعمهم للثورة في انتهازية واضحة ولم يكتفوا بهذا بل جيشوا اتباعهم للسيطرة علي الميدان والمنصات الرئيسية فيه واستحضروا رموزا بعينها في استعراض قوة يبعث برسائل واضحة للقيادات، وفي تطور لاحق زعموا أنهم المخططون لثورة يناير بل وأن جروب "كلنا خالد سعيد" من صنعهم بل وأن وائل غنيم منتم إليهم قبلاً، وهكذا بدأ سيناريو الانقضاض علي الثورة وركوبها وإخضاعها لسعيهم السياسي وحلمهم الممتد لثلاثة ارباع القرن. كان الغرماء من فصيل آخر يرقب هذا التحرك واستشعر أنه يمثل إقصاء لهم بعد ان كانوا بحسب ما سرب من وثائق بعد اقتحام مكاتب أمن الدولة يد الجهاز في الأعمال الإجرامية التي سميت التفافاً بالفتن الطائفية، فكان أن تحركوا هم أيضاً بإعادة انتاج ما تعودوه قبلاً ووقعت أحداث قرية "صول" وهدم كنيستها وترويع الآمنين، وفرض شروطهم التي تنتقص من هيبة الدولة وتعيد الجدل حول الطرح الديني البديل، وإزاء سيطرتهم علي الثقافة الريفية لم يكن هناك بد من استقدام أحد رموزهم لتمرير قرارات احتواء الأزمة، في استعراض آخر لقوة فريق مغاير، ويتردد انهم بصدد تكرار التجربة في أكثر من موقع بالمنيا والبحيرة. وعلي صعيد آخر وفي إطار إعادة الاعتبار لسيادة القانون أفرج عن السيد عبود الزمر والذي قضي المدة المحكوم بها عليه في جريمة مقتل الرئيس الأسبق انور السادات، واستبقاه النظام السابق لسنوات رهن الاعتقال تحت ذريعة خطورته علي الأمن، واستبشرنا خيراً، لكن صدمتنا ومن ثم مخاوفنا جاءت من الاحتفاء الإعلامي به وتقديمه باعتباره فقيهاً ومنظراً أتي عملاً بطولياً، وبينما يقول "صراحة الأمر فالرجل السادات كان ينبغي أن يزاح لأنه أصبح عدواً للعرب كله في هذا الوقت وكان يستوجب إهدار دمه"، يعود بعدها ليقول "إذا كان قرار قتل الرئيس ثبت بعد ذلك خطأه فأنا لا أتحمل الوزر، ولا أندم لأنني وقتها كنت طالب علم، وأتيت عالما لأسأله فالعذر علي العالِم ...". ولا يتوقف عند هذا الأمر بل يعيد الكلام عن الجزية واستبعاد الأقباط من الخدمة العسكرية، ليشكك من جديد في ولاء الأقباط لمصر.. وغير بعيد مازال أمر تغيير اللجنة المكلفة بإعداد التعديلات الدستورية محل سجال سياسي وفكري بالمقارنة بين طبيعة وانتماءات اللجنتين، ورغم أن التعديلات كانت منبتة الصلة بالمادة الثانية إلا أن احد اعضاء اللجنة الثانية صرح بغير مقتضي بأنها لابد ان تعدل لتصبح الشريعة الإسلامية المصدر "الوحيد" للتشريع، ليلقي بلغم في الشارع السياسي.. ولم ينس الإخوان منهج المناورات السياسية، فيبادر المرشد العام بالاتصال تليفونياً بقداسة البابا مهنئاً بعودته سالماً من رحلة العلاج الأخيرة، وهي مبادرة غير مسبوقة، أعقبها بإعلان عن مبادرة لاحقة ومكملة بعرضه إقامة حوار مع شباب الأقباط عبر الكنيسة، وقد نفي البابا قبوله للعرض في عظته الإسبوعية الأخيرة تأسيساً في ظني علي عدة معطيات: 1- أن هذه الجماعة لها ثوابتها الفكرية التي تؤكد علي اسلامية الدولة وفيها يعامل الأقباط باعتبارهم أهل ذمة في انتقاص واضح للمواطنة. 2- أن الكنيسة لا تعمل بالسياسة وتقف بعيدا عن كل التيارات السياسية، واذا قبلت بالتعاطي مع الاخوان فعليها ان تتيح نفس الفرصة لبقية التيارات السياسية للقاء شبابها. 3 لقاء الشباب مع الاخوان تحت رعاية الكنيسة يمرر رسالة ملغومة لبسطاء الأقباط تقول بقبول الكنيسة لرؤية الاخوان وهو هدف هذا اللقاء. 4 اللقاء يكرس التقسيم علي اساس الهوية الدينية ويكرس السيطرة علي الشارع السياسي من منطلقات طائفية فالإخوان يقودون الشارع الاسلامي والكنيسة تقود الشارع المسيحي. 5 هذا اللقاء يجهض اندماج الشباب القبطي مع شركاء الوطن في الشارع السياسي والذي وضح في مشاركتهم الفاعلة في الاعداد والتنظيم والخروج معاً إلي ساحة التحرير ثم امام ماسبيرو وتحقيقهم نجاحات غير مسبوقة في مطالبهم. ويبقي أن تبديد هذه المخاوف أصبح مطلباً آنياً وملحاً.