لم يمض قرن واحد علي تبلور الهوية الوطنية المصرية, ووضع خط واضح يميزها عن الهوية الدينية إسلامية ومسيحية, حتي دار بعض المصريين علي اعقابهم مرتدين إلي زمن سبق رسوخ فكرة مصر للمصريين التي ظهرت قرب نهاية القرن التاسع عشر. فقد أخذ ثقل الانتماء الديني يزداد بإطراد منذ بداية سبعينيات القرن الماضي الي أن بلغ اليوم مبلغا يدفع إلي الخوف ويفرض قرع أجراس الانذار بأعلي صوت. فكثير من المصريين الآن يعتبرون أنفسهم مسلمين أو مسيحيين قبل كل شيئ. هويتهم الدينية طاغية. واذا رتبنا اولوياتهم من زاوية شعورهم الحقيقي بالانتماء, نجد الدين في المرتبة الأولي, ويأتي بعده الانتماء الجغرافي الضيق الي المكان الذي نشأ فيه المرء وهنا تتقدم المحافظة( سوهاجي أو قناوي مثلا) علي المنطقة الوسع( صعيدي في هذه الحالة). اما الهوية الوطنية التي ناضلت اجيال لتأكيدها فقد صارت في المؤخرة, دون أن يعني ذلك فقد الشعور الوطني لان خلطا معيبا يشيع ويدفع الي الاعتقاد في ان المصريين لم يعودوا وطنيين. فالشعور الوطني لايبارح الانسان أي انسان في عالم اليوم بعدما يقرب من أربعة قرون علي ظهور دولة الوطن( الدولة القومية) فالهوية الوطنية والشعور الوطني ليسا مترادفين, ولاهما متطابقين, ولذلك تتراجع الهوية الوطنية حين تطغي عليها هوية فرعية أو أكثر( دينية في حالة مصر الآن) بينما يبقي الشعور الوطني كامنا يظهر في لحظات معينة ظهورا ايجابيا( في مواجهة إسرائيل مثلا) أو سلبيا( الجزائر في مسابقة لكرة القدم علي سبيل المثال) حسب مجريات الاحداث. وهذا هو مايحدث الآن وينطوي علي خطر عظيم. لم يعد كثير من المصريين يتصرفون باعتبارهم مواطنين تجمعهم هوية وطنية. فقد تداعت هذه الهوية بفعل تفاقم أزمة الوطن الذي تنسب اليه وتقترن به فالهوية الوطنية تنتعش حين يكون الوطن محلا للسعادة المشتركة عليا للنحو الذي تمناه رفاعة رافع الطهطاوي قبل مايقرب من قرنين. فإذا لم يكن الوطن كذلك, تضطرب الموازين المتعلقة بالهوية فيه. وعندئذ قد يصير الحديث عن دولة مدنية ضربا من خيال أو إبحارا في عالم الآمال. ولا يغرنك حجم المساحة التي يشغلها الكلام عن الدولة المدنية في الخطاب السياسي والثقافي, فهذا زمن العلاقة المعكوسة بين الشعارات والحقائق,وبين الكلام والفعل. وربما هذا يفسر لماذا لم تصبح المواطنة نصا دستوريا إلا عندما كفت عن أن تكون حالة واقعية, أو كادت, فقد الحق مبدأ المواطنة بالمادة الاولي في الدستور ضمن التعديلات التي اقرت عام2007, أي في الوقت الذي كانت الهوية الدينية قد بلغت مبلغها الذي اضعف الهوية الدينية ومايقترن بها من مقومات. ويحدث ذلك في حياة الناس اليومية علي الارض, وليس فقط في قنوات تليفزيونية تبث التعصب الديني في الفضاء فما ازدياد هذه القنوات عددا وتطرفا الا نتيجة مايحدث في الواقع المعاش. فالتوتر الكامن في العلاقات بين كثير من المسلمين والمسيحيين أصبح أكثر وضوحا من أي وقت مضي, وأشد خطرا من أن يمكن إغفاله أو التهوين من شأنه. فلم يكن متخيلا قبل ثلاثين عاما علي الاكثر أن تصبح القطيعة هي السمة الغالبة في العلاقات بين مسلمين ومسيحيين يجمعهم الجوار في السكن أو العمل او الدراسة. ولم يكن متصورا أن تصير المعاملات الطبيعية بين مسلمين ومسيحيين استثناء من قاعدة عامة, او تكاد تكون كذلك. فلم يكن في إمكان اي خيال, مهما يشيد به الجموح, ان يبلغ المبلغ الذي يجعله يتخيل مشهد مصريين يتظاهرون من أجل أسلمة امرأة أو تنصير رجل, ورجال دين وفقهاء يصبون زيتا علي نار يلعبون بها. ويثير هذا كله السؤال عما اذا كان النيل قد كف عن أن يسري بالطريقة نفسها في عروق بعض المصريين, بخلاف الحال حين غنينا مع الفنان البديع الراحل عدلي فخري ماكتبه الشاعر الكبير سمير عبدالباقي في قصيدة( شراع السفينة. كنا نغني من قلوبنا مسلمين ولانصاري.. في عروقنا بيسري نيلك. ونفيض حماسا عندما يتجسد الصدق في صوت عدلي فخري: بأحب صوت الكنايس واعشق هديل الآدان ياقلبي كون ألف فارس تحرس عشوش اليمام كانت هذه هي مصر فعلا حتي ذلك الوقت في منتصف سبعينيات القرن الماضي, وكنا نظن أن وحدتنا أقوي من أن تجرفها فتنة بدأت إرهاصاتها في تلك المرحلة نشازا غريبا ملفوظا. غير أن خطر هذه الفتنة يتعاظم الآن, وسيبقي هذا الخطر فوق رؤوسنا إلي أن تعي الأجيال الجديدة أن العمل من أجل مصر التي يحلمون بها يبدأ بتكاتف محبيها من مسلمين ومسيحيين, وليت الأكثر وعيا في هذه الأجيال يعيدون قراءة أغانينا الوطنية الاشد إلهاما في هذا المجال وينشدون منها مثلا: اخضرت بعروقنا فدان من فدان لاهلال عاشها لوحده ولاعاشها الصلبان فلم تكن شراع السفينة أغنية للوحدة الوطنية, بل من أجل الوطن وتحرير سيناء التي كانت تحت الاحتلال الصهيوني, ومع ذلك, فقد بدت كما لو انها مكتوبة بحروف الوحدة الوطنية ومغناة بلحنها, ولم يكن تجسد هذه الوحدة في مؤلفها المسلم ومغنيها المسيحي إلا مصادفة هي خير من أي ترتيب يحدث مسبقا للتعبير عن هذه الوحدة, فالمؤلف المسلم والمغني المسيحي مصريان, وكذلك كل من تفاعلوا مع الأغنية ورددوا معهما: شيلنا زعف النخل شيلنا فانوس رمضان كلنا الكحك بسكر والبيض الألوان وغطسنا في غطاسها وقرينا القرآن ودوقنا عيش الرحمة في النص من شعبان ياخوفي من التوهة في بحور النسيان وهل من خوف أكثر مما قد يترتب علي توهة هذه الأيام ونسيان أننا تلاحمنا وتعانق هلالنا وصليبنا في الاحزاب قبل الافراح. علي النحو الذي تصوره الأغنية ببلاغة وبساطة في كلماتها: ضي الهلال الحزين طول عمره حضن الصليب والحزن له بلدنا قصة طويلة حزينة نحكيها ولو ألف مرة للريف وأهل المدينة فيا شباب مصر احكوا قصة هلالها وصليبها مليون مرة, ليس ألفا, إلي أن تبتعد الفتنة المرة. المزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد