انتعشت بورصة الفتاوي السياسية في مصر قبل وبعد ثورة 52 يناير ولكنها تفاقمت خلال الأيام القليلة الماضية، وأصبحت الفتوي سبيلا لتحقيق الأغراض السياسية والشخصية، حيث وجهت بالأساس ضد منافسي التيار الإسلامي من فلول النظام السابق أو الليبراليين، بل اعتبرت أن الأقباط خصم سياسي للشريعة، حيث صدرت فتاوي ضدهم تحرم التصويت لهم في الانتخابات البرلمانية. وكانت البداية بإطلاق الشيخ عمر سطوحي - أمين عام لجنة الدعوة الإسلامية بالأزهر- فتوي تحرم التصويت في الانتخابات لصالح فلول الحزب الوطني المرشحين في الانتخابات البرلمانية.. وقال سطوحي في فتواه: «لا يجوز لأي مصري غيور علي دينه ووطنه ويحب مصر أن يصوت لأمثال هؤلاء - فلول النظام السابق - خاصة لمن أثبتت التحقيقات والقضاء أنهم أفسدوا الحياة السياسية، وأظهروا مصر أمام العالم بصورة سيئة، لأنهم لن ينسوا ما حدث لهم ويكنون في نفوسهم حب الانتقام والانتصار للنفس، مما بدر من الشعب ضدهم. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل وصف من يصوت لهم ب«الخائن لوطنه»، وقال: «كل من يصوت لصالحهم يعد خائنًا لوطنه، حتي إن أظهروا الحب لمصر، فهذا خداع وغش ومكر بهدف الوصول إلي أهدافهم التي يخططون لها، وعلي الشعب أن ينتبه. إلا أن أكثر الفتاوي إثارة للجدل صدرت عن الشيخ محمود عامر القيادي بالتيار السلفي، التي حرم فيها التصويت في الانتخابات البرلمانية المقبلة لمن وصفهم ب«العلمانيين والليبراليين والأقباط»، معتبراً أن من يصوت لصالحهم آثم، وخائن للأمانة، وسبق لعامر إطلاق فتوي تجيز توريث الحكم لنجل الرئيس الأصغر جمال مبارك قبل نحو عام، وأطلق هو نفسه فتوي الانضمام لحزب الحرية والعدالة لأنه صورة من صور العبادة والتقرب إلي الله في خدمة الشعب المصري.. وهناك من الفتاوي السياسية الكثير، منها من حرم الزواج من الفلول، وهناك من حرم الديمقراطية والخروج علي الحاكم، ومنهم من طالب بضرورة إعطاء الصوت الانتخابي للسلفي، ومنهم من وصف مبارك بأنه أمير المؤمنين. وفي فتوي جديدة مثيرة للجدل قال البعض إن التصويت لحزب النور «صدقة جارية» لمئات السنين، وعدم التصويت سيئة جارية.. لنفس مئات السنين أيضا! وهو ما جاء علي لسان القيادي السلفي «سلامة عبدالبديع» بأحد مؤتمرات حزب النور الانتخابية.. وفي المقابل وصف محمد علاء الدين ماضي أبوالعزائم شيخ الطريقة العزمية، التصويت للسلفيين في أي انتخابات قادمة بأنه «هدم لمصر»، واعتبر أن كل صوت يدلي به مواطن لصالح سلفي فهو يعد بمثابة هدم طوبة في بناء مصر. وإن كان قد ثارت هناك حالة من الجدل العارم، في العام الفائت حول فتوي د. عبدالرحمن البر أستاذ الحديث بجامعة الأزهر والقيادي بجماعة الإخوان من أن من لا يذهب للتصويت في الانتخابات كمن تولي يوم الزحف. فإن القيادي بنفس الجماعة «صبحي صالح»، أفتي - هو الآخر - قبل شهور بعدم جواز زواج الأخ الإخواني من غير الإخوانيات.. وقال بمؤتمر للجماعة: «أتستبدلون الذي هو أدني بالذي هو خير»؟! معتبرا أن الزواج بهذه الطريقة خطأ في مسار التربية يؤخر النصر، وأن زواج الإخواني بالإخوانية يؤدي إلي إنجاب إخواني بالميراث! من جانبهم، رفض علماء الأزهر مثل هذه الفتاوي مؤكدين أنها تمثل استخداما للدين في غير محله لتحقيق مصلحة شخصية، وهذا ما أكده د. عبد الله النجار عضو مجمع البحوث الإسلامية وعضو مجمع الفقه الإسلامي بجدة، حيث قال إن هذه العبارات لا يصح أن توصف بالفتاوي لأنها أقرب للنكات المضحكة وصدرت عن ناس فارغة بهدف مغازلة المجلس العسكري أو النظام السابق. مؤكدا أن ما نشر علي لسان هؤلاء ما هو إلا تقديس للمصلحة الشخصية ورغبة في عَرَض الحياة الدنيا ونَيل الشهرة. ووصف دكتور النجار هؤلاء بالدجالين الذين استغلوا عدم وعي الناس وعدم اهتمامهم بالأمور الدينية وضعف إيمانهم لتحقيق رغباتهم الشخصية للوصول إلي المناصب القيادية، وهو ما جعل هؤلاء يعملون علي استباحة عقول الأمة. وأكد دكتور النجار أنه خطأ كبير إدخال الدين في الألاعيب السياسية، لأن هذا التلاعب هو تدمير لرصيد الأجيال القادمة من الدين.. واصفا هؤلاء بالمخربين لهداية الدين أمام الأجيال القادمة، مشيرا إلي أنه لو أن هناك من يتصدي للدين الإسلامي لوضع هؤلاء في السجون لأنهم يرهبون الأفكار ويخرجونها عن معانيها الأصلية. وعن أغرب الفتاوي التي تعجب لها قال: سمعت من يصف الرئيس السابق بأنه أمير المؤمنين، هل من أذل الناس طيلة ثلاثين عاما يوصف بأمير المؤمنين؟! هذه إساءة لأمراء المؤمنين.. هذه فتوي تطالب بالقدسية لسارق مصر، بالإضافة إلي فتوي تحريم الخروج علي الحاكم حتي لو كان ظالما.. هذه الفتوي لم تنظر إلي ظلم الحاكم وأنه سارق، وهذا يتنافي مع الإسلام الذي يقوم علي العدل الذي هو أساس الملك، والحاكم الظالم السارق لابد أن يحاكم كبقية البشر. من جانبه، أكد الشيخ محمود عاشور - عضو مجمع البحوث الإسلامية - أن الدين أكبر وأعظم وأكرم من الاستخدام لغرض دنيوي دنيء لأن الدين جاء ليصلح أحوال الناس ويحقق السعادة والعدل والطمأنينة في المجتمع، مشيرا إلي أن استخدام الدين لتحقيق هدف شخصي يعد خروجا بالدين عما شرع له وعما جاء به الرسول - صلي الله عليه وسلم - مؤكدا أن هذه الفتاوي توظف الدين توظيفا مزيفا وغير صحيح لأن الدين لم يأت لاختيار المرشحين البرلمانيين أو لتكفير الناس، مشيرا إلي أن من يفعل ذلك هو شخص جاهل لم يتعلم الدين ولم يدرسه، ويستخدمه طبقا لهواه الشخصي. وأضاف عاشور إنه بعد الثورة انقسم المجتمع إلي فرق وطوائف وائتلافات ولكل منهم غرض معين، والنبي - صلي الله عليه وسلم - قال: «سيأتي يوم تنقسم فيه أمتي إلي 73 فرقة وكلهم في النار إلا فرقة واحدة» فسأله الصحابة: أي فرقة؟ قال: «ما أنا عليه وصحابتي»، والمقصود بهؤلاء من يسيرون علي نهج الرسول الكريم وصحابته. وقال إن فتوي تحريم الديمقراطية من أغرب الفتاوي التي سمعتها لأن الديمقراطية هي الوجه الآخر للشوري التي أجازها الله تعالي بقوله: «وأمرهم شوري بينهم»، فكيف نحرم ما أحله الله وذكره في كتابه العزيز، كما أن الفتوي التي رفضت التصويت للأقباط تمثل رأيا لجاهل لم يقرأ عن الإسلام، فالنبي هو أول من أقام وحدة وطنية في العالم من خلال ميثاقه مع اليهود في المدينة حيث قال النبي عنهم: «إن لهم مالنا وعليهم ما علينا». وأكد عاشور أن الثورات كالزلازل تحدث بعدها توابع تخرج الحشرات الضارة والثعابين والعقارب ونحن نعيش الآن وسط هذه الحشرات التي خرجت علينا كتوابع للثورة، وخاصة أن ما يثار الآن من فتاوي ليس له أي سند ديني أو مرجعي. الشيخ عبد الحميد الأطرش رئيس لجنة الفتوي بالأزهر الشريف قال: إن ما يحدث الآن من إطلاق الفتاوي بصورة عشوائية ظاهرة غير صحية، وخاصة أن هذه الفتاوي تحرم ما حلله الله وتبيح أشياء أخري باسم الإسلام، وهو ما ظهر بفتوي تحريم الزواج من الفلول وتحريم التصويت للقبطي والعلماني، وهي أمور بعيدة عن الإسلام وتعكس العبث في القول لأن اختيار شريك الحياة لا يتم علي أساس توجهه السياسي والحزبي، كما أن التصويت للمرشحين لا يتم علي أساس ديني أو طائفي، خاصة أن الإسلام الحقيقي يحترم أصحاب الديانات الأخري لقوله تعالي: «لا نفرق بين أحد من رسله»، كما أن عمر بن الخطاب فرض للقبطي معاشا من بيت المسلمين لأنه لا يصح أن نأكله لحما ونرميه عظما، كما أن النبي «صلي الله عليه وسلم» وقف في جنازة قبطي وعندما سُئل أجاب: «أليست نفسا»؟! وشدد الأطرش علي أنه لا يجوز استخدام الدين لتحقيق غرض دنيوي أو مصلحة خاصة. مشيرا إلي أن ما يحدث اليوم سيدمر المجتمع بأكمله بسبب جهلاء يريدون تحقيق مكاسب سياسية خاصة دون النظر إلي المصلحة العامة للوطن. دكتور عبد المعطي بيومي - عضو مجمع البحوث الإسلامية - قال: سمعت كلاما مؤسفا من أبو إسحاق الحويني الذي عبر عن محاربته ورفضه للديمقراطية، وهو ما يوضح أنه لا يعلم معني هذه الكلمة. مشيرا إلي أن الفتاوي السياسية ليست فتاوي لأنها تفتقر لأي دليل شرعي، كما أن قائل هذه الفتاوي متأثر بانتماءاته الحزبية، ولذلك أصبحت هذه الفتاوي تعبر عن توهمات سياسية ودعوات عاطفية لتيار معين. ونبه بيومي أن هذه الفتاوي خاطئة دينيا وسياسيا خاصة أن الترشيح في الانتخابات يكون لأداء مهمة معينة، ويخوض الانتخابات الشخص الذي يجد في نفسه القدرة علي العطاء دون النظر إلي مذهبه العقائدي أو السياسي، فالنبي «صلي الله عليه وسلم» اختار عبد الله بن أريقط المشرك ليكون مرشدًا له ولأبي بكر الصديق في أخطر رحلة في الإسلام والتي كانت بين مكةوالمدينة، وهو ما يعني أن الرسول ائتمن غير المسلم، مشيرا إلي أن من يدعون الآن بضرورة اختيار السلفي أو الإخواني في الانتخابات عليهم أن يكفوا عن ذلك لأنهم لا يعلمون شيئا عن الدين الإسلامي. ولفت إلي أنه مع توظيف الدين في السياسة لتحقيق صالح العباد وتحقيق المنفعة العامة، أما من يبحث عن منفعة حزبية خاصة فعليه التوقف عن هذا لأنه أمر محرم. وعن أغرب الفتاوي التي قابلها قال ما أثير حول التصويت علي الإعلان الدستوري والإعلان بأن الموافقة علي الإعلان الدستوري أمر ديني وواجب شرعي ومن يرفضه هو غير مسلم، وأطلقت علي هذا التصويت مسمي «غزوة الصناديق» وهو أمر غريب ينبئ بأن الاتجاه السياسي سيكون خطرا علي أصحاب هذا الاتجاه وعلي الوطن ككل. مطالبا هؤلاء بالتوقف عن هذه التوهمات ومراقبة ضمائرهم. دكتورة سعاد صالح - أستاذ الفقة المقارن جامعة الأزهر - أكدت أن دور رجل الدين هو توجيه النصيحة للحكام من خلال المنهج الذي شرعه الله لتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، مشيرة إلي أن الفتاوي التي تصدر الآن دون أي ضوابط دينية أو مرجعية فقهية تعكس حالة التملق للحكام واسترضائهم من خلال فتاوي تخدم منهجهم في الاستبداد، وهو ما كنا نعاني منه منذ ثلاثين عاما مضت ويتكرر الآن بين الفصائل الدينية وهي أمور بعيدة عن الدين الحقيقي. وشددت دكتورة سعاد علي ضرورة توعية وتبصير المنتخبين بكيفية الاختيار لمرشحيهم من خلال علماء دين مستنيرين ويخشون الله. ووصفت أصحاب الفتاوي الغريبة بأنهم خفافيش الظلام الذين كانوا تابعين لجهاز أمن الدولة والذين أصبحوا الآن هم حماة الثورة والتفوا حولها، مشيرة إلي أن هؤلاء يريدون تحقيق الشهرة والظهور الإعلامي. ولفتت إلي أن فتوي إلزام الإخواني بالزواج من إخوانية تعد من أغرب الفتاوي المثيرة للضحك لأن الرسول الكريم حدد الشروط للرجل وللمرأة في الزواج، ولم يذكر من بينها النسب لحزب الإخوان، وهو ما يعد تشريعا جديدا لم يشرعه الله. من جانبه أكد الدكتور سالم عبد الجليل - وكيل وزارة الأوقاف - أن هناك عددا من الفتاوي التي تحتاج إلي مراجعة وضبط وهي التي انتشرت في الآونة الأخيرة، مشيرا إلي أنه علي يقين بأن أصحاب هذه الفتاوي نياتهم طيبة ولديهم حرص علي الدين إلا أن بعضهم أحيانا لا يكون عنده تصور كامل للواقع. ولا شك أن الفتوي تستنبط من النصوص الشرعية، لكن لا يمكن قراءة النصوص بعيدًا عن الواقع الذي نعيشه، مشيرا إلي أن الديمقراطية مصطلح سياسي يعني حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب يراه البعض حرامًا ومخالفًا لما ينبغي أن يكون في ظل الشريعة الإسلامية التي ينبغي أن يتحاكم إليها الشعب. لكن ماذا لو كان غالبية الشعب يدينون بالإسلام ويريدون التحاكم إلي مبادئ الشريعة الإسلامية في العموم ؟ فيمكن عندئذ أن تكون الديمقراطية وسيلة لتحقيق هذا الهدف، وبالتالي تكون الديمقراطية بهذا الفهم صحيحة ولا توصف بأنها كفر، ولا يوصف المنادي بها بأنه كافر أو خارج علي الإسلام. وفيما يخص فتوي الخروج علي الحاكم قال إنه في الأدبيات الإسلامية يحرم الخروج علي الحاكم الذي وصل إلي الحكم بطريق مشروع ويحقق وجوده مصلحة الأمة. حتي لو وقعت منه معاصٍ في خاصة نفسه سنقوم بنصحه ولا نخرج عليه. بل لو وقع منه ظلم فردي علي سأتحمله، وهذا معني الحديث وإن جلد ظهرك وأخذ مالك، أما إذا تعدي ظلمه لأبناء المجتمع فالخروج واجب ويصبح النقاش حول مسألة التوقيت المناسب والوسيلة أو الطريقة المناسبة. وحول عدم جواز التصويت لقبطي أو علماني أكد دكتور سالم أنه لا يجوز الحديث عنها بالحلال والحرام لأنها من الأمور التي تقبل الأخذ والرد، والصواب فيها أن يقال علي الناخب أن يعطي صوته لمن يحقق المصلحة العامة للوطن وينبغي تغليب المصلحة العامة علي المصلحة الشخصية. ونبتعد عن كلمة حرام وحلال. ونبه علي أن فتوي تحريم الزواج من الفلول أو أبنائهم هي مسألة أقرب إلي السياسة من الدين، لأن الزواج له شروط وأركان وموانع وليس من الموانع كونه من الفلول. هذا كلام لا يليق. مؤكدا أننا أمرنا بأن نتخير من الرجال والنساء من هم أصحاب دين وخلق، وليس من الموانع كونه من الفلول. مشيرا إلي أن وصف الحاكم بأنه أمير المؤمنين هو نوع من التملق السخيف الذي لا يليق بالعالم قوله لأن الحكام الحاليين بشر عاديون جاءوا إلي الحكم بطرق مختلفة بعضها يوصف بالشرعية والبعض الآخر يوصف بغير ذلك، ولا يوجد اليوم أمير للمؤمنين لكن يوجد حكام بعضهم يسمي ملكًا، والبعض الآخر يسمي رئيسًا وهم في النهاية يديرون شئون البلاد ولهم حق الطاعة ما لم يفسدوا أو يأتوا علي مصالح شعوبهم. وناشد جميع الدعاة بأن يكونوا واقعيين في آرائهم وفتاواهم. مشيرا إلي أن واجب الخطاب الديني في هذه المرحلة هو حث الناس علي المشاركة الإيجابية واختيار المرشح الأصلح والذي يراعي قيم وأخلاق الأمة ويحرص علي مصلحة الوطن. داعيا المرشحين إلي عرض برامجهم الانتخابية بواقعية وصدق دون مبالغة أو تجريح لأحد المرشحين الآخرين.