لم تصبح الحقيقة خافية على أحد، فالفتنة ليست نائمة، وليست قابلة للنوم مادام العدل الاجتماعى لم تستتب قواعده، هناك من يستفيد من إشعال هذه الفتنة، وتأجيج نارها، ومد ظلها حتى يشمل البلاد جميعا، ومشعلو هذه الفتنة يزدادون يوما بعد يوم، وتستفحل أغراضهم لعرقلة تطور مقدرات هذا الوطن، والأخطر فى هذا الأمر أن الأمر كان فى الماضى السحيق عبارة عن معارك وخلافات وثارات حادة بين الأطراف الفاعلة، بين مسلمين ومسيحيين فقط. لكن الدولة منذ أن دخلت طرفا فى هذه المساحة، أصبح الأمر أكثر تعقيدا، بل صارت الدولة طرفا فى تأجيجه وإشعاله بقوة، وفرضه ليكون هو الشاغل الأكبر للبلاد والحدث الأبرز فى هذه الحالة هو ضرب كنيسة القديسين فى مطلع هذا العام، بقيادة الجهاز الأمنى الأقوى والرسمى، واتضح - حتى الآن - أن رأس هذا الجهاز هو الآمر والفاعل واللاعب الأساسى فى هذا الشأن، إذن الدولة مستفيدة من هذا التصعيد، رغم ما يحدث لها من إيلام وتقريع من الصحف، والكتاب وأطراف أخرى وتنديدات بتدخل وإدانة من التقصير المتعمد لحماية الكنائس والمسيحيين، ولكن هذه الدولة الغشيمة والخبيثة تسعى لتجييش المجتمع بجميع طوائفه وإعلامييه الذين يهرعون لتلبية النداء الوطنى، والأمس ليس ببعيد عندما هرع الإعلاميون، أقصد إعلاميى أنس الفقى وحبيب العادلى للذهاب إلى البطريركية الأرثوذكسية فى العباسية، وبثوا برامجهم من هناك، واشتعلت أقلام الشعراء فكتبوا قصائد يدمى لها القلب، وانبرى الملحنون من طراز عمار الشريعى وخلافه لإكمال ديكور التعاطف الرسمى، وأنا لا أشكك فى النوايا الصادقة التى تحرك كل هؤلاء الناس وتدفعهم لدلق المشاعر بلا حساب أو بحساب، وبالطبع يتنافس المطربون فى تقديم مواهبهم، وتلتهب الأقلام، وأنا لا أقلل من أهمية التلاحم والتزاحم والتراحم الذى يحدث، وينبثق فجأة فى المجتمع، وتظل الدولة المتغطرسة والمتعالية فى ملكوتها، تقدم تسهيلات خفية، وتشكل لجاناً وتقيم سرادقات للخطابة، وترسل وفودا للتعزية، لكن يظل القاتل الحقيقى خارج كل ساحات المحاكمة، كأنه شبح وكأنه عفريت يخشى الجميع الإشارة إليه، إما خوفا منه وإما تضليلا ليستمر موجودا وقائما وفاعلا ومؤثرا، المتهم موجود ومعروف ويتحرك بيننا، المتهم هو التقصير، هذا لو لم تكن الدولة نفسها فى حالة «كنيسة القديسين» لأن هذا الفيلم الطائفى يتكرر بأشكال أصبحت مملة، ومنذ مطالع السبعينيات، والأمر يتراكم، ونمو النعرات الطائفية يزداد بضراوة، هذه النعرات التى تكتلت وتشكلت وتنظمت فى جماعات إرهابية أذاقت مصر جميع أنواع المرارات والحقيقة أن الرئيس الراحل أنور السادات ساهم بقسط كبير فى تأجيج نار هذه الفتنة، منذ أن وضع نفسه طرفا رئيسيا فى الصراع، ولم يكن الخطاب الذى ألقاه أمام مجلس الشعب فى 14 مايو 1980 إلا مثالا صارخا وقويا لهذا التأجيج، وتحريضه المعلن على قيادات الزعامة الدينية القبطية، فقبل ذلك - كما أسلفنا - كانت الأزمة تنشب بين العناصر المتشددة من الجانبين، لكن بدخول رأس الدولة طرفا فى الصراع، جعل من تصعيد الأزمة خطيرا، وذا دلالات مؤسفة، حتى القانون الذى أصدره الرئيس السادات تحت مسمى قانون «حماية الوحدة الوطنية» فى أغسطس ,1972 لم يكن فاعلا ولم يأخذ مجراه، وقد جاء فى أعقاب حادث اقتحام كنيسة الخانكة، واتسع الموضوع للدرجة التى لم يصبح الأمر مقصورا على النطاق المحلى، بل خرج إلى النطاق الخارجى عن طريق المهاجرين الأقباط الذين نظموا مظاهرات ضد الرئيس السادات خلال زياراته المتكررة للولايات المتحدةالأمريكية، كما قاموا بمظاهرات أمام الأممالمتحدة فى نيويورك - آنذاك - تطالب بحقوق الإنسان للأقباط، ووزعوا منشورات تتحدث عن اضطهاد الأقباط وهدم كنائسهم وحرقها، وتعرض القساوسة والطلبة والعمال للقتل والتعذيب وخطف الفتيات المسيحيات على أيدى المسلمين، وفى أثناء ذلك اتهم السادات قيادة الكنيسة القبطية بأنها تعمل على منع التعديل الدستورى الذى يهدف إلى جعل الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع، وقال إنها دعت الأقباط إلى عدم التصويت ب «نعم» ضد هذا التعديل، وأن المجمع المقدس «هيئة القيادة العليا فى الكنيسة» يعد صيغة قرار بشأن التغييرات الجديدة التى أصدرها مجلس الشعب، خاصة التى تمس النواحى الدينية والنص صراحة على أن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع، وقال - صراحة - إن القيادة القبطية غير راضية عن النواب الأقباط المعينين فى مجلس الشعب وتتهمهم بأنهم عملاء للحكومة، وكلنا يعرف العداء الذى نشأ بين السادات وقداسة البابا شنودة، بعد ذلك، ثم الصراع الدامى الذى تأجج بين المسلمين والأقباط بضراوة. وأنا لا أريد أن أسرد الأحداث، ولكننى أردت أن أنوه أن التفاصيل تعود وكأنها جديدة، وتعاقب السلطات وتغيرها، واختلاف توجهاتها، منذ اشتداد الأحداث فى منتصف عام 1970 حتى الآن، لا يعفينا من سؤال ضرورى: لماذا لا تستطيع السلطات أن تغلق هذا الملف إلى الأبد؟ ولماذا تظل بلادنا معرضة طوال الوقت لاشتعال هذه الأحداث المؤسفة، رغم أن الحلول تبدو سهلة وميسرة وبسيطة، وهو أن الفاعل الحقيقى يأخذ طريقه إلى العقاب الرادع والحاسم، ولكن هذه السلطات - إن لم تكن شريكا فى الأحداث - تظل تتلكأ وتتباطأ حتى يجهز القاتل لجريمة أخرى وعدم تحقيق أركان العدالة لابد أن يولد أشكال الاحتجاج التى تبدو كأنها مفاجئة، هذه الاحتجاجات الآن أصبحت الرئة الوحيدة التى يتنفس من خلالها الأقباط، وليس من الحكمة، ولا من العدل أن ننسف هذه الرئة بأى شكل من أشكال العنف، بالطبع هناك أيد حاقدة وفاسدة تستثمر الوضع مثل بلطجية النظام القديم الذين ظهروا بقوة فى الأحداث، ومارسوا كل أحقادهم لتأجيج الموقف، وظهور البلطجية والرعاع ليس افتراء ولا بدعة، ولا اختراعا، لكنه حقيقة أقرها كثيرون من شهود العيان، فحاملو الأحجار والسيوف والمولوتوف ليسوا أقباطا، وليسوا من جنود الجيش، وليسوا جماعات إسلامية، ولكنهم - بالتأكيد - كانوا من الفلول، الذين لهم مصلحة قوية فى اشتعال الأحداث. وإذا كان هذا هو المشهد باختصار سياسيا وتاريخيا وبالطبع فهذا اختصار مخل، وبالتأكيد ناقص، ويحتاج إلى عشرات القراءات والتحليلات العادلة والعاجلة والعميقة والمتأنية، فكيف كان المشهد الإبداعى والروائى على وجه الخصوص؟ وكيف عالج الأدباء هذه القضية فى كتاباتهم؟ ومن الطبيعى أن هذا الأمر أيضا يحتاج إلى دراسات مستفيضة، وقد كتب فيها بالفعل باحثون كثيرون، وتناولوا هذا الجانب من الإبداعات على كثرتها، وتنوعها، وانطلاقها من ثقافات مختلفة ومتنوعة، وأزعم أن منطلق الكتاب المسيحيين يختلف عن منطلق زملائهم المسلمين، بمعنى أن الكاتب إدوار الخراط سيختلف حتما عن يوسف القعيد، وأن إبراهيم عبدالمجيد سيختلف بالتأكيد عن غبريال زكى غبريال أو نعيم صبرى أو جمال زكى مقار، أو عصام راسم وهناك الكاتب حسين عبدالعليم سيختلف عن رؤوف مسعد، هناك الأبعاد والمناخات والثقافات التى نشأ فيها كل هؤلاء، وبالتالى لابد أن تكون هناك تباينات، لكن هناك قواسم مشتركة ظهرت بقوة منذ أن أصبح هذا شبحًا مهيمناً بخطورة ويمد بظله على صدر المجتمع. كانت كتابات الروائى إدوار الخراط، والتى اهتمت بالجانب الاجتماعى وقدمت هذه الكتابات القبطى عبر تعاملاته اليومية المجتمعية، وظهرت شخصية القبطى عنده منذ قصصه الأولى التى كتبها فى الخمسينيات، ونشرها بعد ذلك فى مجموعتيه القصصيتين «حيطان عالية، وساعات الكبرياء»، ثم تطورت الشخصية القبطية فى ثلاثيته «رامة والتنين، والزمن الآخر، ويقين العطش» وقدم لنا شخصيتى رامة وميخائيل، بصفتهما المنسوجة فى جدارية مصرية ضاربة بجذورها فى التاريخ القديم واعتبر أن رامة هى الوارثة الحقيقية للتاريخ المصرى منذ العصر الفرعونى، مروراً بالأزمنة الأخرى حتى العصر الحديث، الخراط يقدم رامة باعتبارها مشاركة رئيسية فى الأحداث السياسية والاجتماعية، ولا نستطيع أن نرى المجتمع بدونها، وهى حاملة لجميع الجينات الثقافية المصرية، وتظل بصمتها على الشخصية المصرية بصمة أبدية لا تنمحى ولا تموت من الممكن أن تبهت هذه البصمة - أحياناً - أو تغيبها أحداث ما، أو تطمسها ظروف تاريخية معينة، لكنها ستظل أبد الآبدين موجودة وقائمة فى جسد مصر الممشوق والفتى والفارع كما يراها إدوار الخراط. هناك كذلك الكاتب رؤوف مسعد، الذى كانت روايته بيضة النعامة فاتحة لتناوله هذه المساحة المشتعلة من القضايا، ولكن تتسع هذه البداية لتأخذ مسارات أخرى فى روايته الأشمل «مزاج التماسيح»، والتى يتناول فيها هذا الهم بوضوح أكثر، وبحماس أكثر ويؤكد على خطورته من الناحية السياسية، وأظنه أحد المستشرفين لحدوث ما يحدث الآن، رؤوف مسعد رأى الأحداث من زوايا عديدة ومختلفة أكثرها الزاوية السياسية وخطورة التمييز القائم فى المجتمع على جسد المجتمع نفسه، وكانت هذه الرواية ومازالت ناقوساً خطيراً لم يقرأه المتابعون بشكل دقيق. هناك أيضاً الكاتب المتميز نعيم صبرى عبر رواياته «شبرا والحى السابع» وغيرها من روايات وأظن أن صبرى كان يريد من هذه الروايات عرض الحياة الناعمة التى كانت تفرح من العلاقات التاريخية والاجتماعية بين المسلمين والمسيحيين، وكان يكتب من منطلق تسامحى، وهذا لا ينفى صفة التسامح فى كتابات الآخرين، لكن هذا التسامح كان واضحاً بشكل مميز عند نعيم صبرى، هذا لو قارناه بكاتب مسيحى آخر هو غبريال زكى غبريال فى روايته «وصايا اللوح المكسور»، وكانت الصرخة فى هذه الرواية مدوية وواضحة وقوية، وكان الألم واضحاً وجلياً وكان يضغط بقوة على مواطن الجرح، واستطاع بشجاعة نادرة أن يشير إلى فكرة نبذ القبطى، واستبعاده، والنفور منه، هذا فى دوائر العمل، أو فى العلاقات الاجتماعية العادية، ورغم وضوح هذه الصفة وهى صفة استبعاد المسيحيين عن مراكز التأثير، وكأنها أصبحت صفة بيولوجية تخص الجسد المصرى فقط، إلا أنها ظلت غائبة عن الإبداع الروائى كثيراً، وهذه الآفة هى أول مسمار فى نعش المواطنة، وضرب لها بقوة، ونسفها، فلن تكون هناك مواطنة حقيقية مع استبعاد المسيحيين، عن مراكز التأثير والقرار ورغم انتشار منظمات حقوق الإنسان ورغم وجود وتعاظم صيحات فنية وأدبية وسياسية بحقوق المسيحيين، إلا أن الوضع يظل قائماً ويستفحل وينتشر حتى فى أشد منعطفات الوطن إيجابية، وعندما حدث التلاحم الإيجابى والطبيعى فى أجواء 25 يناير، رحنا نتحدث عنه وكأنه أعجوبة، وكأنه حدث غريب رغم أن ذلك كان طبيعياً لذلك كانت رواية «وصايا اللوح المكسور» لغبريال زكى غبريال بمثابة صرخة مدوية، وبلاغ فنى وروائى إلى كل من يعنيه الأمر، واقتراح عملى حتى نتجاوز الأخطار التى تعوق المواطنة، وربما تدمر الوطن لو استفحلت الأمور.. بالطبع ليس كل هؤلاء - فقط - من كتبوا من المسيحيين، وخاضوا فى هذه القضية ولكن بدرجات مختلفة مثل نبيل جورجى نعوم وجمال زكى مقار وهدرا جرجس وعزيز جرجس ويوسف فاقورى وغيرهم لكن هناك أيضاً كتابا ينتمون إلى الدين الإسلامى، ولكنهم مصريون بقوة، ومبدعون أيضاً بقوة وظهرت طبعاً روايات فى هذا الشأن أبرزها البشمورى للكاتبة سلوى بكر، وهى تتناول ثورة البشموريين فى العصر الوسيط، ثم روايتها الأخرى اديماثيوس الألمانى، وهناك روايتا «قطار الصعيد وقسمة الغرماء» للكاتب الروائى يوسف القعيد، ويتناول القعيد فى الرواية الأولى هيمنة المسلمين على الأقباط فى الصعيد بشكل لا هوادة فيه، ومن الممكن أن تحدث انتهاكات واقتحامات تتعلق بجميع الشئون الاقتصادية والاجتماعية، حتى نصل إلى النيل من الشرف، ثم القتل ولا يتحرك ساكن، والرواية الأخرى «قسمة الغرماء» تدور أحداثها فى المدينة وهى رواية جريئة وتدوس بقوة أيضاً على مواطن الجرح. هكذا تريد جميع الأطراف أن تقف أمام بكاء ونوح المظلوم والمستعبد والمنبوذ على ضحاياه، وهذا نوع من كسر ظهر المواطنة التى يتنادى بها الجميع، ولكن هيهات، أزعم أن المشهد الروائى المصرى يزخر بصور عديدة وعظيمة تحتاج إلى الإنصات والدراسة.