أود فى هذه الظروف التى تمر بها مصر، ويؤدى فيها المجلس الأعلى للقوات المسلحة دورا إيجابيا فى تحقيق الثقة بينه وبين الشعب أن أعود إلى بعض صفحات الماضى القريب التى تؤكد أن مصر فى تاريخها الحديث لم تعرف الانقلابات العسكرية كما عرفتها بعض الدول العربية مثل العراق والسودان وسوريا وليبيا واليمن، وذلك حرصا على توضيح أن كل عمل يشارك فيه العسكريون لا يعنى بالضرورة أن يكون انقلابا عسكريا. ويعتبر الكثيرون أن الانقلابات العسكرية عملية بغيضة على وجه الإطلاق لأنها تخضع الجماهير لحكم عسكرى وتهدد الديمقراطية.. وهو قول صحيح لأن الجيش فى مختلف الدول هو فى النهاية أداة الدولة للسيطرة والقهر.. ولذا يعتز الجيش المصرى ممثلا فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة بأنه قد وقف مع ثورة 25 يناير 2011 ولم يطلق رصاصة واحدة ضد شباب المتظاهرين. والمثير أن الجيش كان قديما يحمل فى داخله تناقضات يجب أن نقف عندها لأنها تتمثل فى الفروق الحادة بين الضباط وصف الضباط والجنود سواء فى المرتبات أو المعاملة.. وهى فروق قد تبدو كامنة ومزمنة معقولة، لكنها فى الحقيقة مكبوتة بسطوة الحياة العسكرية. وكانت مصر قبل ثورة 23 يوليو مثالا صارخا لهذه الفروق.. كان مرتب الضباط من رتبة لواء يصل إلى 125 جنيها شهريا تزيد إذا خدم فى سيناء أو السودان.. بينما كان مرتب الجندى 54 قرشا شهريا زيدت إلى 69 قرشا.. كان عليه أن يتناول طوال الأسبوع 13 وجبة عدس، وكان من ضمن الجزاءات القانونية المقررة فى قانون الأحكام العسكرية عقوبة الجلد التى كانت تنفذ بتكبيل الجنود وضربهم على ظهورهم بالسياط علنا أمام بقية الجنود! وقد خففت ثورة 23 يوليو من هذه الفروق الطبقية الحادة داخل الجيش.. حتى أصبحت فكرة الانقلابات العسكرية غير واردة تقريبا.. فلم تعد هناك عقوبة جلد الجنود.. ولم تعد الفروق حادة فى المرتبات إلى درجة مثيرة.. كما أن الدور الذى قام به الجيش بعد الثورة كان يكسبه تقدير ومحبة الشعب لما قدمه للوطن من إنجازات، حررته من الاستعمار البريطانى.. وما قدمه للشعب من عدالة اجتماعية تجسدت فى تحديد الملكية الزراعية، ومساهمة العمال فى مجالس الإدارة، ومجانية التعليم فى كل مراحله بالإضافة إلى تأميم القناة وبناء السد العالى. وهكذا أصبح هناك نسيج من المحبة والتقدير بين الجيش والشعب.. ولم تعد هناك فرصة تتيح القيام بانقلابات عسكرية.. وهو أمر عاشت فيه مصر عدة عقود منذ قامت الثورة فى يوليو .1952 وعندما قامت ثورة 25 يناير 2011 كان الجيش هو السند الأول للمتظاهرين من أبناء الشعب، وضرب مثلا لم يقم به الجيش فى أية دولة عربية أخرى خلال الثورات الأخيرة، ولم يطلق رصاصة واحدة على الجماهير.. واكتسب بذلك الاعتزاز والتقدير. والجيش قادر بإمكاناته المادية والتنظيمية على دعم الثورة بتقديم الخدمات التى تسهم فى تحقيق التنمية التى هى جانب أساسى للثورات الشعبية التى تهدف إلى تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وأخيرا أود أن أشير إلى أنه إذا رصدنا حركة الانقلابات العسكرية بعد الحرب العالمية الثانية لوجدنا أن موجتها قد بدأت تنحسر وتقل عددا.. فالوطن العربى لم يحدث فيه إلا انقلابان أحدهما حركة 19 يوليو 1971 فى السودان بقيادة المقدم هاشم العطا التى أوفدنى الرئيس السادات لمقابلته فى الخرطوم.. وانقلاب المقدم إبراهيم الحامدى فى اليمن، بينما بلغت الانقلابات العسكرية فى الستينيات أربعة فى سوريا وثلاثة فى العراق واثنين فى اليمن وواحد فى الجزائر وواحد فى السودان. وفى أفريقيا لم يقع فى السبعينيات سوى ثمانية انقلابات عسكرية فى غانا وبنين والنيجر ومدغشقر وأوغندا ورواندا وتشاد وأثيوبيا، بينما زادت على العشرين قبل ذلك. وهكذا يمكن القول إن الانقلابات العسكرية هى فى طريق الانحسار والتراجع وأنه لم يعد لها مكان.. إذ لم يعد سهلا على مجموعة عسكرية أن تحاول الوثوب إلى الحكم من أرضية وطنية، بينما هى مفلسة فكريا وتنظيميا لأن هذا نوع ما يدفعها إلى اتخاذ موقف ديكتاتورى ترفضه الجماهير وتسقطه. وهكذا عاشت مصر عقودا طويلة من الاستقرار البعيد عن الانقلابات العسكرية.. وهو الأمر الذى وضع أساسا سليما لانطلاق ثورة 25 يناير 2011 الشعبية.