كتب - اغادريد مصطفى قصص ثلاثة شبان قهروا الظلام وأثبتوا أن الحياة لا تتوقف عند أي صدام أو عائق.. «مبروك» جامعي لم ييأس رغم فشله في تحقيق عمل عادي، فعمل ما هو ليس عاديا.. «عادل» الذي حفظ أسماء ملوك الفراعنة وأرشد سياح المتحف المصري!.. «صبري» احترف الكاراتيه ليصبح متفردا في اللعبة ويتفوق علي المبصرين. استمرت أحلامهم تراودهم للعمل والزواج. قبل سنوات قليلة أنهي مبروك دراسته في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة عين شمس بتقدير عام جيد، غير أن جميع محاولاته للعمل مدرسا للغة العربية باءت بالفشل وكانت تصدمه عبارة بلهاء هي «إذا كان المبصرون لا يعملون فكيف يعمل المكفوفون».. ويقول مبروك «فقدت بصري منذ أن كان عمري 7 أعوام، كنت أري بصورة مشوشة غير مكتملة وعندما خضعت لعملية في عيني لم تثمر شيئا، والآن لا أري إلا ضبابا.. تعلمت طريقة برايل مبكرا واجتهدت في دراستي وتوقعت فيه أن أحصد تعب السنين لكن أدارت لي الدنيا ظهرها، ولم أتمكن من العمل مدرسا «للغة العربية» بأي مدرسة خاصة أو حكومية، فقررت العمل - تباعا - علي حافلة ركاب يقودها والدي ولا يمتلكها.. بالرغم من دهشة الجميع من امتهاني هذه المهنة إلا أنني نجحت وأثبت وجودي فأصبح لي أصدقاء ينتظرون الحافلة خصيصًا للركوب معي، بل والأكثر من ذلك هناك سائقون طلبوا من والدي أن أعمل معهم علي سيارتهم، وفعلت ذلك وكان الزبائن ينتظرون السيارة التي أعمل بها ليركبوا معي. بمرور الوقت تمكنت من التمييز بين العملات المعدنية والورقية بعد كثرة التعامل بها كما أن مهنتي تتعامل عادة في العملات المعدنية يسهل التفريق بينها عن طريق الحجم.. من الأمور التي كانت تضايقني أن يستعماني أحد ويخدعني مستغلاً عاهتي فيتهرب من دفع الأجرة أو يرفض دفع الأجرة لابنه لذلك عندما كنت أكتشف ذلك أصر علي إنزال الراكب لأنه غير أمين وأراد أن يخدعني.. بعد مرور وقت طويل أصبحت أتعامل كتباع محترف، أقف علي باب الحافلة مثل التباعين المبصرين وأنادي علي زبائني وعندما يركب أحدهم أدق بيدي علي الباب الأمامي للحافلة ليتحرك والدي. تزوجت من فتاة ضريرة منذ عدة شهور وأعيش حياة هادئة ومستقرة معها خاصة لأنها تراعي شئون المنزل «وطباخة ممتازة» وعلي خلق. --- «عادل مصطفي فؤاد» 40 عاما والذي بدأ حديثه قائلاً: لدي 3 إخوة مبصرون واثنان غيري مكفوفان والسبب أن والدي ووالدتي أقارب. أعمل مرشدا سياحيا للمكفوفين وسعيد بهذا العمل لأن المجال مفتوح لمساعدة غيري، أنا حاصل علي ليسانس آداب قسم اجتماع، وبدأت فكرة العمل كمرشد سياحي عندما كنت في الجامعة، استعنت بطريقة برايل والكمبيوتر الناطق وشرائط الكاسيت للتعلم كما أنني التحقت بفريق المسرح وكنت ممثلا جيدا ورشحت للعمل في المركز الثقافي الفرنسي للشرح للمكفوفين بعض الأشياء عن حياة الفراعنة وكان هذا الأمر صعبا جدا فكيف أستطيع توصيل معلومة لكفيف لم ولن يراها والموصل أيضا كفيف، لكن المركز علمنا كيفية الشرح، خاصة أن الإرشاد عن طريق اللمس للأثر وأجعله يري باللمس ما لا يراه بعينه، أصبحت يده هي عينه التي يري بها، وهي التي توصل المعلومة للمخ.. يأتي إلينا المكفوفون من المدارس والجامعات والجمعيات الأهلية ونبدأ في إرشادهم من خلال موضوع يتم التجهيز له مسبقا مثل موضوع الزراعة في مصر القديمة أو الكتابة الهيروغليفية ثم يأتي معي الدارسون وأجعلهم يلمسون القطع المسموح بلمسها مثل الجرانيت والبازلت وهي التي لا تتأثر باللمس ومؤخراً قررت إدارة المتحف المصري توفير جوارب للمس الآثار حتي لا تتأثر بالعرق عند لمسها.. الشرح للكفيف يحتاج تكنيكا معينا يبدأ بالتهيئة النفسية وإخراجه من حالة الخوف التي يعيش بها، لأن الكفيف يعيش بمفرده في غرفة وهمية مظلمة تماما، يشعر بأنه فاقد كل شيء بالإضافة إلي عدم اتصاله بمن حوله يجعله يشعر بنقص شديد لذلك أبدأ بدمجه مع من حوله داخل المتحف من خلال الاعتماد علي المؤثرات الصوتية. حصلت علي دورات مكثفة في المركز الثقافي الفرنسي وبدأت في جمع المعلومات عن الآثار واستخدمت طريقة برايل في حفظ الأسماء الصعبة للملوك حتي أستطيع شرح الآثار مع دمج الجانب الاجتماعي بها بهدف القضاء علي الفجوة ما بين القديم والجديد، وفي عام 2004 انضممت لمدرسة المبصرين التابعة للمتحف المصري والتي دورها الشرح للمكفوفين.. زرت كل قاعات المتحف وأماكن الآثار التي سوف أقوم بشرحها فيما بعد.. كنت في البداية أقع وأصطدم بالأسوار أو الفتارين حتي حفظت المتحف بكل قاعاته والطرق الداخلية وكل ما فيه عن ظهر قلب وهو ما ساعدني علي اصطحاب أفواج المكفوفين من باب المتحف وحتي القاعات التي نريد زيارتها دون الاحتياج لمرشد.. في عام 2005 قررت إدارة المتحف عمل مدرسة خاصة للمكفوفين وكنت من الأساسيين بهذه المدرسة وانضم إلينا اثنان وتبادلنا الخبرات في مجال الإرشاد الذي يحتاج حرفية في الإلقاء والشرح لتوصيل المعلومة كاملة للكفيف ثم بدأنا بعمل معارض في دار الأوبرا المصرية يقوم خلالها الكفيف في تحويل ما رآه من آثار وما تعلمه من معلومات عن قدماء الفراعنة إلي أشكال من الصلصال والطين الأسواني خاصة بالمكفوفين ويتم تكريم كل من عمل به، ثم تطورنا أكثر وبدأنا في شرح موضوعات مهمة مثل الحيوانات في مصر القديمة أنا متزوج منذ 6 سنوات من زوجة مبصرة، ربة منزل.. لم أجد أي عائق في الارتباط بها وتزوجت في فترة زمنية قصيرة جدا وأعمل دائما علي ألا أشعرها بأني كفيف لذلك أعتمد علي حواسي كلها في عمل كل شيء بمفردي، فهي زوجة متفاهمة جدا، وليس لدي أي حساسية في حياتي الزوجية ومتعايش بشكل طبيعي. «صبري عطية السيد» - 30 سنة - متزوج من عامين من زوجة مبصرة من المنصورة أنجب منها «بدر» الذي عمره عام ،تزوجها بعد أن تقدم للعديد من بنات جيرانه إلا أنهن رفضنه بسبب إعاقته ولم يصارحنه بسبب الرفض ويقول: ترجع إعاقتي إلي أني ولدت مصابا بمياه زرقاء علي عيني وقتها كان الطب غير متقدم كنت أري لكن نظري كان ضعيفاً ومع ارتفاع الضغط علي عيني ضعف أكثر، وفي 1984 خرجت من عملية سببت لي شرخا في الشبكية أدت لحدوث نزيف داخلي وانفصال شبكي ومع مرور الوقت فقدت البصر نهائيا وعمري 4 سنوات، وأعتبر هذا الطبيب سببا في امتحان إلهي لاختبار قدرتي علي التحمل ،قد يكون لله حكمة في أن أعيش باقي حياتي كفيفا وأظل غير مبصر، لا أري الأشياء التي يراها المبصرون، ومن وقتها رضيت بالأمر الواقع وامتنعت عن زيارة الأطباء ووالدتي ظل لديها أمل في عودة نظري. لدي 4 أخوات وكلهن مبصرات يساعدنني ماديا ويتكفلن بنفقات زواجي،.. في السنة الرابعة في قسم لغة عربية جامعة الأزهر تعلمت لعبة الكاراتيه وعمري 20 عامًا والسبب أني بحثت في ألعاب رياضية كثيرة جدا ووجدت بها معاقين كثيرين خاصة إعاقة كف البصر ماعدا الكاراتيه حتي علي مستوي العالم..رغم أن كل من حولي توقعوا فشلي لكن مدربي تحداهم، شجعني كثيرا وبالفعل نجحت وحضرت تمارين ووجد المدرب لدي إرادة وعزيمة فطلب مني الإحساس فقط قائلاً: «إن البصر ليس هو كل شيء في الألعاب الرياضية» فالتركيز والإحساس أهم وهو بالفعل مدرب كفء ووصلت إلي تعلم «كاتة» وحصلت علي حزامين أسود «2 دان» تدربت مع مبصرين فلم يدربني تدريبا خاصا علي اعتبار أني كفيف بل كان يتحدي فريق المبصرين بي في التدريب علي «الكاتة» فكان يغمي عيونهم وينتظر منهم العودة إلي نفس مكان البداية التي تبدأ منها «الكاتة» وهذا الأمر من شروط وأساسيات اللعبة فقد كان المبصرين يخطئون في العودة إلي مكان البداية وأنا نجحت في ذلك بالإحساس.. وأصبت مرة واحدة عندما كنت أتدرب علي كاتة ولم أكن مركزا جيدا فضربت بيدي في جدار وأصبت وكانت هذه هي المرة الوحيدة التي أصاب فيها في الكاراتيه ومن تدريباتي وجدت أن الكاتة أصعب من «الكوم وتيه» لأنهما مختلفان عن بعض فالكاتة قتال وهمي وأنا أتدرب علي الاثنين وبعد ذلك أصبحت متميزا في صد الضربات، ومدربي هو من كان يعلمني الكاتة فيمسك بيدي ويرفعها أو ينزلها ليعلمني شكل الحركات فأتعلم الكاتة.. وأتمني أن تكون مصر أول فريق كاراتيه من المكفوفين. وعن أصعب المواقف التي واجهها قال كثرة وقوعي علي الأرض أو سيارات تدوس علي قدمي، وهناك من يساعدني من الناس وهو لا يعرفني ومن المواقف الطريفة أني دخلت سينما كثيرا فقد حضرت العرض الخاص لفيلم «الساحر» وفيلم «معالي الوزير» مع أصدقائي المبصرين كما أني استخدمت الكاراتيه في خناقات بالشارع دون أن أخشي شيئا.