ربما لم يكن للفارق المكاني الزماني.. أو حتي الأسبقية (الحضارية) للجانب المصري، وأسبقية بناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية لنظيره الألماني .. دور فاصل أو محوري في رسم المشهد، الذي وضع من خلاله كلا البلدين نهاية عصر الدولة البوليسية. فالقهر، هو القهر.. والغضب الجماهيري لا تختلف صوره أو تداعياته، مادامت الشعوب قد قررت أن تضع (نقطة) أخيرة تحدد من خلالها نهاية نظام (سلطوي) ظل قائما لفترة طويلة.. لتبدأ بعدها كتابة تاريخ مختلف، تتخلل جنباته نسائم الحرية. فمنذ عشرين عاما واجهت ألمانياالشرقية موقفا مشابها لما حدث - مؤخرا - في مصر عقب انهيار الحكم الشيوعي، إذ خلف الأخير وراءه وزارة مرعبة تضم بين ثناياها جهازا للأمن الداخلي (أمن الدولة)، كان يطلق عليه (ستاسي)، إذ كان من أكثر أجهزة التخابر، سرية وتنظيما. ففي أواخر العام 1989 كانت هناك اعتراضات واسعة، وحالة من الغضب العارم بين مواطني ألمانياالشرقية من القبضة البوليسية التي باتت تحاصرهم علي أكثر من مستوي.. طالبوا بالتغيير وتطوير الأوضاع الداخلية، التي وصفوها. ب (المأساوية).. فكانت الثورة التي نقلت البلاد نقلة أخري، ومختلفة علي أكثر من مستوي من مستويات الديمقراطية. كان أمن الدولة آنذاك عبارة عن ذراع وأداة في يد الحزب الحاكم.. ارتبط اسمه بالرعب والتنكيل، ولذا كان ما فعله الجهاز من أهم القضايا التي شغلت بال مواطني الدولة الشرقية.. فالجميع كان يعلم بوجوده، ولكن لم تكن لديهم معلومات كافية عن حجم أو كيفية عمله. لذلك عندما خرجت المظاهرات تجوب أنحاء البلاد، كان جهاز أمن الدولة أحد أهدافها فحاصر المتظاهرون مقاره واقتحموها وساعدهم في ذلك - وقتئذ- قوات الشرطة، ربما بدافع الانتقام من الجهاز الذي كان يحظي بمميزات تفوق باقي أفرع الشرطة. ولم تكن - كذلك - سيطرة المتظاهرين علي الجهاز أمرا سهلا، لأن العاملين به وإن لم يبدوا مقاومة تذكر إلا أنهم حاولوا إتلاف وإحراق الملفات والمستندات التي تدينهم، فضلا عن المعلومات المتوافرة عن الضباط العاملين بالجهاز (!!). ولأن الدولة الألمانية، المنضمة حديثا، حينذاك، لم تكن بحاجة إلي إنشاء جهاز بديل عن أمن الدولة.. فقد رأي صانعو القرار بها أنه من الأنسب حل الجهاز بشكل كامل وتسريح العاملين به إذ كان يضم 100 ألف موظف وعامل وضابط، إلا أن العديد من محاولات إدانة الضباط السابقين بالجهاز، قد باءت بالفشل.. وكذلك عدم تطبيق عقوبات شديدة علي أي منهم، نظرا لصعوبة تطبيق قانون العقوبات علي العاملين في أجهزة أمنية تابعة للدول. إلا أن نموذج الدولة الألمانية في التعامل مع ضباط الجهاز السابقين، لم يتوافر في نماذج دولية أخري، قريبة الشبه به، إذ إن بولندا علي سبيل المثال، لم تتعامل بشكل جيد مع العاملين السابقين في أمن الدولة، إذ لجأ كثيرون منهم، لاستخدام علاقاتهم ونفوذهم في نشر الشائعات والفتن والانتقام من خصومهم، عبر ما يمتلكون من معلومات(!!) بعد حل جهاز أمن الدولة التابع لألمانياالشرقية ارتفعت أصوات كثيرة مطالبة بالتخلص من الملفات وإغلاق هذه الصفحة بكل ما فيها من تجاوزات ولم يمض أكثر من بضعة أشهر علي تلك الأحداث إلا ووافق البرلمان علي قانون للاطلاع علي الملفات في أغسطس 1990 . ولم يسمح القانون بعرض الملفات للجمهور ولكنه سمح للأفراد فقط بالاطلاع علي ملفاتهم الخاصة ولكن بعد حذف أسماء أي أشخاص آخرين وردت في الملف. وتقدم نحو 5,6 مليون شخص بطلبات للاطلاع علي ملفاتهم لمعرفة المعلومات الموجودة بها وتبرئة ساحتهم مما جاء فيها وتمت الاستجابة لمليون طلب منها خلال ال 20 عاما الماضية. ومازال المواطنون يتقدمون بطلبات حتي الآن! وكانت هناك مخاوف من حدوث اغتيالات لمن وردت أسماؤهم بالوثائق أو حدوث فوضي، إلا أن الوقت أثبت أن الناس تعاملوا بمسئولية،فأكثر المواطنين لا يرون الانتقام بالمعني التقليدي للكلمة أو العمل علي سجن المسئولين عن الظلم الذي تعرضوا له، إذ اكتفوا بحكم صادر من المحكمة يقول لهم «لقد وقع ظلم في حقكم، وهذا الشخص هو الذي يتحمل المسئولية عن ذلك». وصرح هربرت نسيم خبير الوثائق الألماني وأحد أهم الشخصيات التي أشرفت علي حفظ الملفات والوثائق أن هذه الوثائق تعتبر تراثا وتاريخا وأن الإصرار علي الاحتفاظ بها كان أمرا صائبا جدا، لأن هناك دولا أخري لم تحتفظ بوثائق أمن الدولة مثل بولندا والتي عادت فيما بعد، لتبذل مجهودا كبيرا لجمع هذه الوثائق باعتبارها تاريخا. •• وبعد إصدار قانون الاطلاع علي الملفات بشهر واحد تم إنشاء جهاز حكومي ضخم للتعامل مع وثائق جهاز أمن الدولة السابق والذي ظل يعمل منذ تأسيسه في عام 1968 وحتي العام .1985 وبدأ الجهاز الجديد في عملية دراسة للتاريخ السري لألمانياالشرقية من خلال الوثائق التي تم العثور عليها.. وكانت عبارة عن 31 ألف C.D ، 5,1 مليون صورة و1500 فيلم لاجتماعات الجهاز و15 ألف حقيبة أوراق بها ملايين الملفات والوثائق و15 ألف جوال مسجل عليها وثائق استطاعوا خلال العشرين عاما فك طلاسم 500 فقط منها (!!) واستطاع الجهاز الجديد أن يقوم بعمل أرشيف لملايين الملفات وتحليل محتوياتها، كما عمل علي إعادة بناء الوثائق المفرومة والمحترقة. وكشف أيضا عن جرائم الجهاز السابق في حق المواطنين. كان من أهمها الوثيقة التي كشفت عن أن النظام الشيوعي أمر بتصفية كل الفارين من ألمانياالشرقية إلي الغرب، بمن فيهم الأطفال والنساء، وكان يدس عناصره بين جنود حرس الحدود لكي يشجعوا زملاءهم علي قتل المتسللين وهي الجريمة التي كان ينكرها القادة السياسيون وقتئذ. كما قام الجهاز الجديد أيضا بفحص أسماء المرشحين للبرلمان لضمان عدم ترشح أي شخص كان يعمل لحساب الجهاز السابق. وكان هناك اهتمام بمعرفة الحالات المثيرة للجدل ومدي العلاقة بشكل أو بآخر بين شخصيات كبيرة مشهورة وبين جهاز أمن الدولة آنذاك. وأظهرت الوثائق أن «لوثاربيسكي» رئيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي كان عميلا غير رسمي لجهاز أمن الدولة لألمانياالشرقية تحت اسم كودي «بينينس». أما لونز هيلمان فهو سياسي ألماني من الحزب اليساري «واي لينك» والذي تم انتخابه عضوا في البرلمان في انتخابات 2005 فقد ظهر أنه يعمل لحساب جهاز أمن الدولة انتهت عضويته في البرلمان عام 2009 بعد تكشف هذه الحقيقة ولم يتم ترشيحه لفترة ثانية. وكانت كرستين كايزر التي كانت نائبا لرئيس حزب اليسار الذي خلف الحزب الشيوعي تعمل هي الأخري بشكل رسمي لحساب الجهاز وتجسست علي زميلاتها وهي طالبة تحت اسم كودي «كاترين». كما كان «توماس تود» يعرف تحت اسم كودي «مارك شندلر»، عميلا سابقا رسميا لجهاز ستاسي وهو حاليا سياسي في حزب اليسار «داي لينك» وتم تجنيد تود في العام 1983 وتجسس علي الجنود الذين حاولوا الفرار من ألمانياالشرقية أثناء تأديته للخدمة العسكرية. •• اكتشفت هذه الأسماء ضمن قائمة كانت تضم 200 ألف شخص وأطلق عليها قائمة «روزوود» إذ كان بها نحو 12 ألفا من الألمان الغربيين الذين تجسسوا لحساب جهاز «ستاسي» في الفترة من 1950-1989 وما يقرب من 40 ألفا من قائمة ألمانياالشرقية عملوا مخبرين ورسلا في عمليات التجسس ضد ألمانياالغربية. وكان جهاز أمن الدولة السابق «ستاسي» يستخدم أساليب شديدة القسوة لإقناع وترهيب الناس العاديين للتجسس علي جيرانهم وأصدقائهم وربما طال الأمر أفراد أسرهم!! وبالرغم من الملاحظات والأخطاء التي وقعت خلال معالجة إرث جهاز أمن الدولة لاتزال غالبية الناس في ألمانيا تؤيد فكرة فتح الملفات أمام طالبيها معتبرة أن هذا الأمر صحيح تماما من الناحية السياسية والاجتماعية، إذ يعد عملا تاريخيا لا سابق له.