مصر هى واحدة من أقدم الدول المؤسسية فى التاريخ، فمنذ فجر التاريخ نظمت فى مصر المؤسسات التى من خلالها تم حفظ وثائق الدولة المصرية، وإن كان الذى وصلنا من هذا التراث الوثائقى قليلا جدا، إلا أنه يعطينا ومضات لما كان عليه التنظيم الإدارى لمصر، ومع مرور الزمان وتوالى الحقب والفترات التاريخية تطورت نظم الحفظ فى مصر، وكانت سباقة فى هذا المضمار. ففى العصر الإسلامى على سبيل المثال كانت دواوين مصر تنظم على قواعد ثابتة، وصلت لنا معالمها من مصدرين الأول: ما ألف من كتب مثل كتاب قوانين الدواوين لأسعد بن مماتى، وكتاب ديوان الرسائل لابن الصيرفى، أما المصدر الثانى فهو هذا الكم الوثائقى من حجج شرعية ووقفيات ووثائق بيع وشراء تعود إلى العصور الإسلامية كالعصر الفاطمى والعصر الأيوبى والعصر المملوكى، بالإضافة إلى هذا التراث الوثائقى المصرى المهم المعروف بوثائق الجنيزة، وهى مجموعة وثائقية خاصة بالطائفة اليهودية فى مصر، والتى تضمنت معلومات اجتماعية واقتصادية للطائفة اليهودية كإحدى طوائف الشعب المصرى فى العصر الإسلامى. مع سقوط الدولة المصرية عام 1517 على يد العثمانيين، بدأ تنظيم جديد للإدارة فى مصر فبعد أن كانت مصر دولة إمبراطورية مستقلة، صارت ولاية عثمانية، ووجدت فيها ثلاث مؤسسات كانت مصدرا للوثائق فى مصر وهى: ديوان الباشا والديوان الدفترى وديوان الروزنامة، وقد أمدتنا هذه المؤسسات بملايين الوثائق التى أعطتنا صورة بانورامية للمجتمع المصرى آنذاك بل أدق تفاصيل حياة المواطنين ومعاملاتهم. تكدس التراث الوثائقى لمصر وبدأ رحلة الضياع، نتيجة الفراغ الذى حدث عقب جلاء الحملة الفرنسية على مصر عام 1801 وتصارع القوى السياسية والعسكرية من أتراك ومماليك على حكم مصر، ودق ناقوس الخطر على التراث الوثائقى فى مصر عام 1807 عندما هاجم الجنود الدلاة بيت محمد على باشا بالأزبكية، ونهبوا ما فيه من وثائق، ومنها وثيقة معاهدة الصلح بين محمد على باشا والجنرال فريزر قائد الحملة الإنجليزية الشهيرة، وكانت الطامة الكبرى فى عام 1820 عندما اندلع حريق هائل استمر لمدة يومين فى ديوان الكتخدا ومجلس شريف باشا بقلعة الجبل فى القاهرة، مما أدى إلى تدمير جزء كبير من الأرشيف المصرى الخاص بوثائق الدولة. كان محمد على باشا رجل دولة بما تحمله هذه الكلمة من معانى، لذا وجه اهتماماً خاصاً بحفظ ما تبقى من التراث الوثائقى للدولة المصرية، فكان إنشاء دار المحفوظات العمومية أو ما اصطلح على تسميتها آنذاك بالدفتر خانة واختار لذلك مكانا حصينا داخل قلعة الجبل كى تكون فى مأمن من الحريق وبمنأى عن أيدى اللصوص. •• هذا ما أراده محمد على باشا لكن كان للزمان رأى آخر، ففقدت مصر الكثير من تراثها الوثائقى المحفوظ فى دار المحفوظات العمومية، لعدة أسباب نتيجة للتلف وسوء الحفظ أو أساليب الاستغناء عن تلك الوثائق كالبيع كورق دشت، أو السرقة وما وراءها من تجارة غير مشروعة ورابحة للوثائق المصرية ليس فى مصر وحسب بل فى العالم كله. إن المشكلات التى يواجهها التراث الوثائقى لمصر والمحفوظ فى دار المحفوظات العمومية، كفيلة بضياع هذا التراث خلال العشر سنوات القادمة، فمخازن الدار غير صالحة بالمرة لحفظ هذا التراث، وقد اعترى دواليبها التهالك، مما أثر على حافظات الوثائق، كما أن هناك مخازن لا يستطيع المرء دخولها لتكدسها بالوثائق والدفاتر فلا يعلم القائمون عليها ما بها من وثائق إلا كتقسيم عام وبالتالى تهدر وثائق قيمة لا تقدر بمال، ويكون نتيجة ذلك أن يتم الاستغناء عن تلك الوثائق كورق دشت يباع لشركات الورق التى تقوم بفرمه وإعادة تصنيعه من جديد، فتفقد مصر ملايين الوثائق سنويا بهذا الأسلوب، وقد يذهب بعضها إلى مقالب القمامة فتلقى إلى الخنازير التى تلتهم تلك الوجبة الشهية من التراث الوثائقى فى مصر، أو ربما يكون حظ بعض تلك الوثائق أفضل فتقع فى يد اللصوص وتجار الوثائق، فتباع إلى من يقدر قيمتها، وتجارة الوثائق هى سوق رائجة فى مصر، وما يزيد على نسبة 90% من تلك الوثائق التى يتم المتاجرة بها مصدرها هو دار المحفوظات العمومية، وهى تجارة لها خبراؤها الذين يعرفون ما يريدون من وثائق من داخل الدار بل يعلمون ما بها أكثر مما يعلم هؤلاء الموظفون القائمين على حفظ هذا التراث. •• إن تجارة الوثائق المصرية هى تجارة رائجة فى الأسواق الشعبية كسوق الجمعة فى الإسكندرية والبساتين بالقاهرة ومع بائعى الأوراق القديمة فى حى العطارين بالإسكندرية، وتدر هذه التجارة أرباحاً خيالية، فربما يصل ثمن وثيقة واحدة إلى عشرة آلاف دولار، كإحدى الوثائق التى عرضت للبيع وكانت تتناول شهادة شيخ الإسكندرية فى أحداث الثورة العرابية ودور أحمد عرابى فيها، كذلك يمكن للمرأ أن يقتنى رخصة قديمة لإحدى المهن كمهنة الساقى والعربجى ورخص تسيير المركبات كرخصة تسيير حمار وهى من أندر أنواع الرخص ويصل ثمنها فى السوق إلى ما يقارب الألف جنيه مصرى، ومما يزيد أسعار الأسواق اشتعالا دخول العرب والأجانب مجال الشراء فربما تسمع عن ظرف بريدى يقدر قيمته بألف دولار وهو قيمة خاتم مكتب البريد المطبوع عليه. لقد فقدت دار المحفوظات العمومية مجموعات من وثائق البوستة الخديوية وترسانة بولاق وتحقيقات الجفالك وديوان الحربية ونظارة المالية ووزارة الأشغال العمومية ومجلس التجار والتقاسيط الديوانية ومجلس بلدى الإسكندرية والتى ألقيت كوليمة للخنازير أو وجدت طريقها للبيع على أرصفة الأسواق. إن المحافظة على ما تبقى من التراث الوثائقى لمصر والمحفوظ فى دار المحفوظات العمومية هو دعامة مهمة من دعائم الأمن القومى المصرى، فهذا التراث يشتمل على محفوظات وزارة الداخلية، التى تضم دفاتر عتق الرقيق ودفاتر قيد العربان، وسجلات أحوال العمد والمشايخ وغيرها، وفيها أيضا دفاتر مكلفات الأطيان وكل ما يخص الأرض الزراعية، والعقارات، وما طرأ عليها من تغيرات، منذ أن كان الفلاح المصرى مكلفا وليس مخيرا فى زراعة أرضه، وملفات خدمة الموظفين وتقدر بحوالى 90 ألف ملف وتتباين أهميتها بأهمية الشخص صاحب الملف وتعد تلك الملفات من أهم وثائق الدار، حيث يتضمن كل ملف تاريخ حياة الموظف صاحب الملف وكل ما يتعلق بالوظائف التى شغلها خلال حياته وما ربط له أو لورثته من بعده من معاش ونجد من بين تلك الملفات ملف خدمة «الإمام محمد عبده، سعد زغلول، طلعت حرب، مصطفى النحاس، الدكتور طه حسين، مكرم عبيد، نبوية موسى، السير إلدون جورست، والمسيو ماسبيرو» وغيرهم الكثير والكثير، كما تضم الدار مجموعة أخرى من الوثائق المهمة ولكن على مستوى آخر من الأهمية ومن أمثال ذلك دفاتر الطب الشرعى، دفاتر قيد بيوت العاهرات، دفاتر رخص محلات مقلقة للراحة ومضرة بالصحة، أوراق الكتاتيب، أوراق الجبايات، أوراق السيرك، دفاتر رخص الموسيقى والغناء. •• هذه المجموعات والوثائق هى بحق ذاكرة مصر الورقية التى يجب المحافظة عليها، من التلف والتدمير والسرقة؛ وقد قدرت مكتبة الإسكندرية ذلك التراث فعملت بالتعاون مع وزارة المالية وهى الجهة المسئولة عن دار المحفوظات العمومية، على المحافظة على ما تبقى من هذا التراث فى الدار. لكن الأهم فى هذا المضمار هو نقل تبعية دار المحفوظات العمومية إلى دار الكتب والوثائق القومية؛ فوزير الثقافى الحالى الدكتور عماد أبوغازى خبير وثائق يدرك قيمة هذا التراث، ووجوده حاليا على رأس وزارة الثقافة فرصة ذهبية للحفاظ على وثائق دار المحفوظات، إذ أن مصر هى الدولة الوحيدة التى لديها داران للوثائق، كما أنه يجب سرعة إصدار قانون الوثائق الذى سبق وأن طرح على مجلس الشعب، عن طريق قانون يصدر عن المجلس العسكرى، إذ يكشف تسرب آلاف الوثائق فى مصر عن خطورة وضعها حاليا.