كان «لطفى السيد» أستاذ الجيل يفوز بأغلبية ساحقة فى الانتخابات البرلمانية عن دائرة بلدته «السنبلاوين» إلى أن اهتدى منافسه العمدة الريفى الأمى إلى حيلة يؤثر بها على الناخبين ليرجحوا كفته ، فأشاع بين الفلاحين أن مصطلح «الديمقراطية» الذى يروج له «لطفى السيد» هو مصطلح أثيم يطلقه كافر ذميم يعتدى اعتداءً جسيما على شرع الله ، حيث يعنى المساواة بين الرجل والمرأة فى التعدد فمثلما يحق للرجل أن يتزوج بأربع نساء ، فإنه من حق المرأة أن تتزوج بأربعة رجال. فهمى هويدى الرجل إذن استخدم الدين للتأثير على الناخبين الذين صدقوا الفرية، وكفروا «لطفى السيد» وأسقطوه فى الانتخابات بينما أعطوا أصواتهم لمنافسه وحملوه على الأعناق ونصبوه مدافعا عن حقوقهم الضائعة. تقفز هذه الواقعة إلى الذهن وتستدعيها الذاكرة التاريخية عند تأمل ما حدث فى انتخابات التعديلات الدستورية الأخيرة.. حيث تمت التعبئة الانتخابية على أساس دينى انطلاقا من خطورة الدعوة المطردة إلى الانتصار للممارسة الديمقراطية وللدولة المدنية.. تلك الأفكار التى حمل لواءها الثوار فى ميدان التحرير رافضين رفع أى شعارات دينية كما أنهم يعلون من شأن «المواطنة» فوق الطائفية.. بغية رسم خطوط سياسة ليبرالية تعتمد على نهضة شاملة تتخذ من العلم دعامة أساسية لتحقيق مستقبل حضارى أعاقت تطوره وازدهاره سلفية أصولية بغيضة.. تلك السلفية التى اقتحمت الكادر لتؤكد أن الشريعة الإسلامية فى خطر ممثلة فى «لا» التى تحاول فرض دولة علمانية كافرة يؤيدها الثوار والمثقفون والأقباط.. وهى دولة تروج للانحلال والتبرج وزواج الشواذ.. وتفشى الفجور والخمور والسفور والتفريط فى شرع الله.. بينما الانحياز ل «نعم» هو «واجب شرعى» ، بل هو وعد بالجنة عرضها السموات والأرض وتحفل بحور عين.. وأنهار من عسل وخمر يسعد بها أصحاب النعيم فى مواجهة أنصار الجحيم من الكفرة والزنادقة من أعداء الله.. وأعداء المسلمين.. أوليست الدائرة الخضراء الدالة على الإيمان والخير والسلام والدائرة السوداء رمزا للخراب والضلال وعمامة القسيس؟! وبينما تمت هذه التعبئة على أساس دينى ، فإن السلفى الشيخ «محمد حسين يعقوب» يؤكد بعد ظهور النتيجة أن «غزوة الصناديق» هى «غزوة ديمقراطية».. أليس هناك طرفان فى المعادلة.. ضدان.. خصمان.. رأى ورأى آخر.. وفرز شفاف للأصوات لا تزوير فيه.. حسنا إن النتيجة أظهرت فى النهاية أن الدين سيدخل فى كل شىء ابتداء من الآن. سيدخل فى السياسة وفى الحياة الاجتماعية.. وفى الفن والاقتصاد وسائر مناحى الحياة.. لقد وافقنا على هذه الديمقراطية التى يصدع أدمغتنا بها المتشدقون من أنصار الدولة المدنية والليبرالية «مش إنتم قلتم الصناديق تقول ؟!.. مش هى دى الديمقراطية بتاعتكم ؟!.. الشعب يقول عاوز إيه ؟! .. أهه الشعب بيقول نعم للدين.. صح ؟!.. خلاص.. هى نعم للدين.. إدى له دين.. وإحنا بتوع الدين».. ومن لا تعجبه النتيجة عليه أن يهاجر «وإللى يقول إن البلد دى مش هانعرف نعيش فيها بالطريقة دى.. إنت حر.. ألف سلامة.. عندك تأشيرات كندا.. وأمريكا» حول هذا المفهوم للديمقراطية يخاطبنا الأستاذ «فهمى هويدى» فى مقالين بجريدة «الشروق» يؤكد مستنتجا أن اتهام الناس بأنهم انساقوا وراء الدعاة الذين وعدوهم بالجنة إذا قالوا «نعم» إنما هو يعبر عن استخفاف بأولئك الناس وتسفيه لوعيهم ، وهو يتضمن رسالة مبطنة تقول : لو كان الناس عندنا أرقى وأفضل وأذكى مما هو عليه لاختلف موقفهم وانضموا إلى الذين قالوا «لا».. وإننا إذا أردنا أن نترجم هذه الرسالة ، فسنجد أنها تدعو فى نهاية المطاف إلى تغيير الناس لكى يتوافقوا مع النخبة.. فى حين أن النخبة هى التى ينبغى أن تراجع نفسها لكى تصبح أصدق تعبيرا عن ضمير المجتمع وأشواق الناس.. ومن ناحية أخرى فإن إطلاق مثل هذه الدعاوى الآن - بعد إعلان النتائج - لا يشكك فقط فى ثقة النخبة فى المجتمع ، ولكنه يشكك أيضا فى موقفهم إزاء الديمقراطية التى يقبلون بها فقط إذا ناسبت هواهم.. والتقت مع أفكارهم ، وهى الديمقراطية الانتقائية التى تبطن شكلا آخر من أشكال الديمقراطية.. لا يا أستاذ.. بهذا المفهوم المنقوص للديمقراطية.. لا ينبغى للنخبة أن تراجع نفسها لكى تصبح أصدق تعبيرا عن ضمير المجتمع وأشواق الناس.. لأن دور النخبة الحقيقى.. ورسالتها السامية هو الارتقاء بمفاهيم الناس وأفكارهم وأحلامهم وأهدافهم وشكل ومضمون حياتهم وتصوراتهم تجاه واقعهم ومجتمعهم.. هذا الارتقاء الذى يدعوهم فى النهاية إلى الثورة على النقائص والعورات والعيوب والمثالب.. والتمرد على كل ما هو قبيح ومتخلف وجاهل وتطوير كل ما هو ثابت وجامد وأصولى ومتحجر ورجعى.. والانطلاق فى ركب التطور والحضارة لتحقيق آمال منشودة من الرقى والتقدم والسعادة والجمال.. وفى الحقيقة إن الناس حينما يسعون إلى تغيير مجتمعهم إلى الأفضل والأجمل والأسمى.. إنما هم يغيرون أنفسهم لذلك تظهر الثورات العظيمة مثل ثورة 25 يناير أعظم ما فيهم.. وتطوى أسوأ ما فيهم.. فلا تندهش.. وجملتك الاستنكارية الساخرة : «إذا أردنا أن نترجم هذه الرسالة فسنجد أنها تدعو إلى تغيير الناس لكى يتوافقوا مع النخبة» هى جملة صحيحة لااستنكار فيها ولا تدعو للسخرية.. يقول الأستاذ «فهمى هويدى» : «سنخطئ كثيرا إذا توقعنا أن نسمع أو نشاهد ما نحبه وما يعجبنا من أفكار ومواقف.. إذا أزعم أن المعيار الحقيقى للالتزام بقيم الحرية والديمقراطية لا يقاس بمقدار حفاوتنا بما يعجبنا من أفكار ، ولكنه يقاس بمقدار احتمالنا لما نرفضه ونكرهه أيضا».. على النخبة إذن أن تتقبل دعاوى التطرف والتخلف والإرهاب من «الجاهلين الجدد» أصحاب البداوة الفكرية «والتراث القبلى».. المتطرفين الدينيين.. باعتبار أن هذه الدعاوى مجرد اختلاف فى الرأى.. وفى الحقيقة إن تلك الدعاوى الخطيرة التى ترفض «الآخر» وتطالب بفرض الجزية على الأقباط.. والقصاص الشخصى من الحاكم الظالم الطاغوت.. وتسعى لعودة المرأة إلى عصور الجوارى وإلى نسف دعائم الدولة المدنية، وإقامة الحدود وشيوع قيم الانحطاط والتخلف والظلامية.. والعودة إلى القرون الوسطى.. والجاهلية.. هذه الدعاوى الخطيرة تتفاقم خطورتها بأعلام الإثارة غير المسئول وغير الواعى الذى هو باعتراف هويدى نفسه يسلط الضوء على ظواهر هذا التخلف بصورة غير مسبوقة تشوه الصورة الحقيقية وتشيع درجات متفاوتة من الذعر والتخويف من جراء ذلك.. الأمر الذى ليس فقط على النخبة أن تتقبل بموجبه دعاوى التطرف تلك.. ولكن عليها أيضاً أن تتقبل تداعياتها الأكثر خطورة التى تمثلت مثلا فى حادث أخير بشع قطع فيه متطرفون أذن قبطى لاشتباههم فى علاقة آثمة تربطه بساقطة فلغوا دور الدولة والقانون والشرطة والنظام والنيابة والمحامين والقضاة والشهود وأصدروا حكمهم عليه ونفذوه.. والمصيبة إنه لم تتم معاقبتهم وإنما تمت مصالحة بينهم وبين المجنى عليه فى وجود نائب الحاكم العسكرى.. والمصيبة الأكبر بمباركة رجال الدين الإسلامى والمسيحى وتصفيق وتهليل الجماهير المحتشدة.. ثم تبع ذلك هجوم 350 سلفيا على إحدى السيدات فى منزلها بقرية السادات بالمنوفية وحرقه وطردها من القرية وتهديدها بالقتل لو عادت «وبرضه لنفس السبب : الشك فى عهرها».. الديمقراطية تبكى وتنتحب.. فما أكثر الجرائم التى ترتكب باسمها .