فى تصعيد غير مسبوق يتعارض مع شعاراته الانتخابية، هدد الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الحكومة النيجيرية بالتدخل العسكرى «بكل قوة» إذا استمرت فى السماح بما وصفه ب«قتل الجماعات الإرهابية للمسيحيين». وأعلن ترامب فى منشور على وسائل التواصل الاجتماعى أنه أصدر تعليماته ل«وزارة الحرب» بالاستعداد لأى عملية محتملة، مشيرًا إلى وقف جميع المساعدات والمعونات الأمريكية لأبوجا فورًا. جاءت هذه التصريحات على عكس سياسة ترامب المعهودة فى تجنب الحروب الخارجية، والتى روّج لها كدليل على كونه «رجل سلام» يستحق جائزة نوبل، فما الذى دفع الرئيس الأمريكى إلى التخلى عن فلسفة «عقد الصفقات» ليتبنى درع الحرب مع نيجيريا، أكبر دولة أفريقية من حيث عدد السكان؟ أسلوب ترامبى مألوف يستند التهديد العسكرى لنيجيريا إلى تقارير مضللة، ويبدو جزءًا من «أسلوب ترامب فى استخدام القوة لإجبار الأطراف على التفاوض والمساومة»، كما وصف ذلك دانيال بوالا، المتحدث باسم الرئيس النيجيرى بولا تينوبو. وجاء التصعيد بعد ادعاءات السيناتور الجمهورى تيد كروز، عضو لجنة العلاقات الخارجية فى مجلس الشيوخ، وبعض المشاهير الأمريكيين، بأن المسيحيين يتعرضون للاضطهاد فى نيجيريا دون أدلة قاطعة، بل وصل الأمر إلى الزعم ب«إبادة جماعية للمسيحيين».
فى الواقع، يواجه المسيحيون والمسلمون العنف على حد سواء فى نيجيريا، التى عانت لسنوات من أزمات أمنية خطيرة أثرت على جميع فئات المجتمع، فمع سكان يبلغ عددهم 220 مليون نسمة، يشكل المسيحيون والمسلمون كل منهما نحو نصف السكان، ويُعد العنف نتيجة لصراعات معقدة تشمل هجمات بوكو حرام، تنظيم «الدولة الإسلامية»، العصابات الإجرامية، والنزاعات بين المزارعين والرعاة. مصالح اقتصادية فى المفهوم الترامبى، تُعد بعض الوفيات «أكثر أهمية» من غيرها، على الرغم من معاناة كل الشعب النيجيرى من هجمات الجماعات المسلحة، وفى صميم أچندة ترامب يفضل المصلحة الاقتصادية على ما عداها، فهو يطمع فى احتياطيات نيجيريا من النفط والمعادن، بالإضافة إلى موارد دول إفريقية أخرى، التى وصفها عام 2018 ب«الدول القذرة». السر الحقيقى وراء قرار ترامب بخلع قناع السلام هو الاتفاق الأخير بين نيجيريا والمغرب لمد خط غاز عملاق يصل إلى أوروبا، هذا المشروع، الذى يُعد حلًا اقتصاديًا لتزويد أوروبا بغاز غرب إفريقيا بعيدًا عن الاعتماد على أمريكا أو حلفائها، مما يُهدد مصالح واشنطن الاستراتيجية. تتمتع نيجيريا، أحد عمالقة إفريقيا، بمزايا اقتصادية هائلة: فهى ثانى أكبر اقتصاد فى القارة بعد جنوب إفريقيا، وتمتلك موارد طبيعية وفيرة، أبرزها النفط عالى الجودة الذى يُمثل %40 من ناتجها المحلى الإجمالى. فى بعض السنوات، أصبحت خامس أكبر منتج فى منظمة أوبك. ثروات معدنية يعتمد الاقتصاد النيجيرى بشكل مفرط على ثرواته المعدنية، حيث تمتلك أيضًا الغاز والفحم والذهب والبوكسيت (الذى يُستخرج منه الألومنيوم). ووفقًا لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA)، فشل القادة العسكريون السابقون فى تنويع الاقتصاد بعيدًا عن الاعتماد كثيف رأس المال على النفط، الذى يوفر %95 من عائدات النقد الأجنبى و%80 من إيرادات الحكومة. رفض قاطع صرح ترامب قائلًا: «ستوقف الولاياتالمتحدة فورًا جميع مساعداتها لنيجيريا، وقد نتوجه إلى هذا البلد المدان الآن»، ملوحًا بالتدخل العسكرى إذا لم توقف أكبر دولة إفريقية ما يزعمه «جرائم قتل للمسيحيين» على يد «إرهابيين إسلاميين». وهى اتهامات نفتها أبوجا، بينما رددت المنظمات المسيحية والإنجيلية هذه الادعاءات، مدعومة من سياسيين أوروبيين يمينيين متطرفين، رغم عدم وجود أساس علمى لها. استعدادا للحرب من جانبه رد وزير الدفاع الأمريكى بيت هيجسيث على ترامب عبر وسائل التواصل قائلًا: «نعم سيدى.. يجب أن يتوقف قتل المسيحيين الأبرياء فى نيجيريا - وفى كل مكان - فورًا، وزارة الحرب تستعد للتحرك. إما أن تحمى الحكومة النيجيرية المسيحيين، أو سنقضى على الإرهابيين الإسلاميين الذين يرتكبون هذه الفظائع». فى المقابل، رفض الرئيس النيجيرى بولا تينوبو هذه الاتهامات، مُصرّحًا بأن «وصف نيجيريا بالتعصب الدينى لا يعكس واقعنا الوطنى»، مُؤكدًا على «جهود الحكومة الدؤوبة لحماية حرية العقيدة لجميع النيجيريين». أزمات أمنية قال تايوو حسن أديبايو، الباحث فى معهد الدراسات الأمنية: «الأزمة أكثر تعقيدًا بكثير مما يوحى به الإطار الدينى البسيط.. الجغرافيا تحدد الضحية إلى حد كبير». نفذ الجيش النيجيرى غارات جوية وعمليات خاصة استهدفت مخابئ العصابات، واستبدل تينوبو مؤخرًا قادة الأمن لتعزيز العمليات. ومع ذلك، يرى بعض المحللين فشلًا ذريعًا للدولة. قال شيتا نوانزى، الشريك فى شركة SBM Intelligence: «فى كثير من الحالات، أفلت الجناة من العقاب، وهذا مؤشر واضح على فشل الدولة». أضاف تايوو حسن: «يجب على نيجيريا تكثيف جهودها لمنع أى تدخل خارجى.. الانتقادات من واشنطن ليست من فراغ، بل نتيجة سنوات من الفشل». شهادات موثقة تنفى نيجيريا تعرض المسيحيين للاضطهاد، مستندة إلى شهادات من منظمات أمنية تراقب الوضع عن كثب، وتقارير تؤكد أن الضحايا يُحددون حسب مواقعهم لا ديانتهم. يستمر العنف، الذى يتركز فى الشمال، من قبل بوكو حرام والعصابات، لكن الخبراء يؤكدون أنه يتجاوز الدين ليشمل صراعات على الموارد والأراضى، فى النهاية، يبدو أن تهديد ترامب ليس مجرد دفاع عن «المضطهدين»، بل محاولة للحفاظ على هيمنة أمريكية على موارد إفريقيا، وسط تعقيدات أمنية حقيقية تحتاج إلى تعاون لا تصعيد.