منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، عاش العالم على وقع حروب إقليمية وصراعات محدودة، لكن فكرة اندلاع حرب عالمية ثالثة بقيت حاضرة فى المخيلة السياسية والإعلامية. اليوم، ومع تصاعد التوترات فى أكثر من ساحة دولية، تُطرَح تساؤلات جدية: هل العالم يقف بالفعل على أعتاب مواجهة كبرى لا تقل خطورة عن الحربين السابقتين؟ فمن أوروبا الشرقية حيث توسع روسيا عملياتها العسكرية إلى داخل بولندا بطائرات مُسَيّرة، مرورًا بشرق آسيا حيث تبنى الولاياتالمتحدة أكبر مخزن سلاح لها فى الفلبين استعدادًا لمواجهة محتملة مع الصين، وصولاً إلى الشرق الأوسط حيث تشن إسرائيل غزوًا بريًا على غزة؛ تبدو المَشاهد كأنها خيوط متفرقة لحرب قد تتسع رقعتها إلى مستوى عالمى. السؤال الأهم: هل نحن مقبلون فعلاً على حرب عالمية ثالثة؟ الإجابة ليست بسيطة. فالمشهد الدولى يشير إلى تصاعد غير مسبوق فى التوترات، لكنه لا يعنى بالضرورة أن الحرب الشاملة قادمة غدًا. الأقرب أن العالم يواجه مرحلة طويلة من «الفوضى الممتدة»؛ حيث تتواصل الصراعات الإقليمية وتتداخل القوى الكبرى فيها دون أن تصل إلى مواجهة مباشرة. روسيا ومواجهة عقر الناتو فى سابقة غير معهودة، توسّعت موسكو فى عملياتها العسكرية لتضرب بولندا عبر طائرات مُسَيّرة. الخطوة بدت وكأنها مغامرة محسوبة من جانب الكرملين، لكنها تحمل رسائل متعددة الاتجاهات. بالنسبة للغرب؛ فإن الأمر ليس مجرد حادث عابر؛ بل محاولة روسية لإثبات أن الحرب لم تعد مقصورة على الأراضى الأوكرانية، وأن أى دولة أوروبية تقدّم الدعم العسكرى لكييف ليست بمنأى عن الاستهداف. من الناحية العسكرية؛ تبرز العملية كاختبار حقيقى لمدى جاهزية حلف شمال الأطلسى (الناتو). هل سيرد الحلف عسكريًا؟ أم يكتفى بإجراءات الردع التقليدية من عقوبات وشجب دبلوماسى؟.. هذا السؤال بات يضغط على العواصم الأوروبية، التى تعيش أصلاً انقسامًا داخليًا بين تيارات تريد مواجهة مباشرة مع موسكو وأخرى تخشى أن يجرّها ذلك إلى صراع لا يمكن السيطرة عليه. أمّا استراتيجيًا؛ فإن بوتين يحاول إعادة رسم خريطة الردع الدولى، عبر إيصال رسالة واضحة: زمن القطبية الواحدة انتهى، وروسيا قادرة على ضرب قلب الناتو، حتى لو كان ذلك فى حدود «تحذير محسوب» لا يصل إلى حد إعلان حرب مفتوحة. واشنطنوالصين: سباق إلى الفلبين على الطرف الآخر من العالم، تتحرك الولاياتالمتحدة بخطى متسارعة لإعادة ترتيب أوراقها فى المحيط الهادئ. بناء أكبر مخزن أسلحة أمريكى فى الفلبين لم يأتِ كخطوة لوجستية فحسب؛ بل كجزء من سباق نفوذ محتدم مع الصين. الفلبين، بحكم موقعها الجغرافى عند مفترق طرق بحر الصينالجنوبى، تحولت إلى ساحة تنافس استراتيجية. بالنسبة لبكين؛ المنطقة تمثل «الحديقة الخلفية» للأمن القومى الصينى، فيما تراها واشنطن خطًا أحمر لا بُدّ من الدفاع عنه لضمان حرية الملاحة وحماية مصالحها التجارية والعسكرية فى آسيا. المخزن الأمريكى الجديد يُقرَأ باعتباره رسالة مباشرة إلى الصين: أى تحرك عسكرى نحو تايوان أو الجزر المتنازع عليها لن يمر دون رد سريع. فى المقابل؛ كثفت بكين حضورها البحرى، وعززت تحالفاتها الإقليمية، ما ينذر بأن المنطقة قد تتحول إلى مسرح مواجهة مفتوحة فى أى لحظة. وبينما ينشغل العالم بالحرب فى أوكرانيا، يبدو أن واشنطنوبكين تقتربان من نقطة احتكاك خطيرة؛ حيث لا يتعلق الأمر بمجرد حرب باردة جديدة؛ بل بسباق زمنى على من يفرض قواعد اللعبة فى آسيا؟.. فى هذا السياق ؛ يقول رامى إبراهيم الباحث فى العلاقات الدولية: إن الساحة الدولية تعيش إرهاصات الحرب العالمية الثالثة التى أصبحت تلوح فى الأفق؛ خصوصًا بعد التحالفات العسكرية التى شكلتها الولاياتالمتحدةالأمريكية فى آسيا لمواجهة الصين، والهجوم الروسى على أوكرانيا فى فبراير 2022، ثم تسلسل الأحداث وصولاً إلى الحرب الإسرائيلية على غزة وما تبعها من أحداث متلاحقة وأيضًا الحرب «الإيرانية- الإسرائيلية». وأضاف الباحث فى تصريحات خاصة لمجلة «روزاليوسف»: إن الأحداث تبدو كأنها نزاعات متفرقة لكنها ترتبط ببعضها ارتباطا وثيقا؛ حيث إذا تناولنا هذه الأحداث بشىء من الوضوح سنجد أن الهجوم الروسى على أوكرانيا بدأ بعد مساعى أوكرانيا للانضمام إلى حلف شمال الأطلسى (الناتو)، وهذا يجعل الحلف الذى تتحكم فيه الولاياتالمتحدةالأمريكية على حدود روسياوموسكو فى مرمى صواريخه، وكان الهدف الأمريكى الأول من جر روسيا إلى هذه الحرب هو استنزافها عسكريًا واقتصاديًا وإغراقها فى مستنقع حرب طويلة وممتدة رغم أن أكثر التحليلات والآراء وقتها كانت ترى أن روسيا لن تنجر إلى حرب طويلة على غرار عملية ضم شبه جزيرة القرم فى 2014. وتابع: إن الخطط الأمريكية لاستنزاف روسيا جاءت لتمهد الساحة وفق الخطط الموضوعة لإضعاف الخصوم التى قد تتحالف مع الصين، والتى تعتبرها الولاياتالمتحدةالأمريكية التحدى الاستراتيجى الأول بعد الصعود المرعب اقتصاديًا وعسكريًا وخروج الصين من سياسة الحياد والتى اتبعتها لسنوات طويلة إلى سياسة أكثر تفاعلية مع الأحداث الدولية والتواجد بقوة فى مناطق مختلفة حول العالم وإنشاء قواعد عسكرية لها فى العديد من الدول؛ خصوصًا الدول الإفريقية. وبشأن اختراق المسيرات الروسية لأجواء بولندا ورومانيا، قال الباحث فى العلاقات الدولية: إن عملية اختراق المُسيرات الروسية لأجواء بولندا ورومانيا الدولتين العضوتين فى حلف شمال الأطلسى قد لا يكون مقصودًا منها إرسال رسائل واضحة إلى كل من بولندا ورومانيا بأن طيرانها مستعد لأى عمليات ضدهما فى حال مساعدة أوكراينا من خلال مدها بالأسلحة عبر الحدود أو أى مساعدات لوجستية، إلا أن موسكو ستحاول ألا تتوسع الحرب على أراضٍ أخرى فى ذلك الاستنزاف المستمر لاقتصادها ولإمكانياتها العسكرية، كما أنها تسيطر على مساحات شاسعة من الأراضى والمناطق الأوكرانية، لذلك صرحت بأن اختراق الأجواء تم بالخطأ أثناء هجوم روسى على أوكرانيا ليلاً. وعن التعاون العسكرى بين الولاياتالمتحدةالأمريكيةوالفلبين لمواجهة الصين، قال رامى إبراهيم: إن الأوضاع فى جنوب شرق آسيا؛ خصوصًا فى بحر الصينالجنوبى معقدة للغاية، فهو رغم أهميته؛ فإنه يمثل بقعة صراع كبيرة بين الصين وبعض الدول المطلة عليها والتى منها الفلبين، وهناك نزاعات مستمرة منذ عقود تتعلق بعملية ترسيم الحدود البحرية ومحاولة الصين فرض سيطرها الكاملة على بحر الصينالجنوبى. وأشار إلى أن الولاياتالمتحدةالأمريكية شكلت خلال السنوات الماضية العديد من التحالفات العسكرية فى آسيا بالتعاون مع حلفائها ومنهم أستراليا واليابان والهند وكوريا الجنوبية وغيرها من الدول، وأيضًا توقيع اتفاقيات تعاون عسكرى ودفاع مشترك مع بعض الدول فى جنوب شرق آسيا ومن ضمن هذه الدول الفلبين، وهى التى تتنازع مع الصين على بعض الجزر فى بحر الصينالجنوبى. ورأى الباحث فى العلاقات الدولية، أن مسرح العمليات يتم تجهيزه عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا، وأن هذه التجهيزات أقرب إلى سياسة الوصول إلى حافة الهاوية، إلا أن نشوب حرب عالمية ثالثة بالمفهوم التقليدى الذى تكون فيه الولاياتالمتحدةالأمريكية طرفًا مباشرًا فى الاشتباكات أمر غير واضح حتى الآن أو على الأقل غير معلوم توقيته. ورأى أن قيام حرب عالمية ثالثة ودخول الدول الكبرى ومنها الولاياتالمتحدةوالصينوأستراليا وبريطانيا وروسيا واليابان فى اشتباكات مباشرة ستقضى على الأخضر واليابس فى كل أنحاء العالم ولن تَسْلم منها دولة بل يكون لها أضرارها الكبيرة سواء على الاقتصاد العالمى أو حياة البشر ككل، كما أنه حتى الآن لا يزال الغموض يحيط بتطورات الأحداث. ولفت إلى أن النزاعات فى بحر الصينالجنوبى بين بكينوالفلبين وبعض الدول الأخرى ستخلق أزمات جيوسياسية وعسكرية خطيرة ويزيد من حدة الصراع الدولى، إلا أن الصين قد لا تقدم على أى أعمال عسكرية قاسية فى الوقت الحالى؛ خصوصًا أنها ترى أن أى عمل عسكرى قوى يتطلب الاستعداد الكامل وهو الوصول لنفس القوة العسكرية الأمريكية والقدرة على مواجهتها فى آسيا وخارج آسيا، وهذا قد لا يتحقق قبل عام 2050، إلا أن تسارع الأحداث على الساحة الدولية تجعل كل السيناريوهات مفتوحة. أما د.نعمان توفيق العابد، الباحث فى العلاقات الدولية؛ فقال: إن هناك تغيرات دراماتيكية تحدث فى العلاقات ما بين دول العالم؛ خصوصًا بعد السياسة التى اتبعها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، الذى يحاول تغيير النظام الدولى من النظام القديم القائم على القواعد والقانون الدولى والشرعية الدولية إلى نظام تهيمن عليه الإدارة الأمريكية وإجبار العالم على السير نحو المصالح الأمريكية. لذلك هناك ثورة عالمية فى روسياوالصين والبرازيل والهند وغيرها تبحث عن مصالحها الاقتصادية والعسكرية والأمنية. وأضاف: إن الحرب «الروسية- الأوكرانية» فى الأساس هدفها حماية حدود روسيا والناطقين بالروسية وعودة الهيبة الروسية ومنع الناتو من الوصول للحدود الروسية. كما أكد أن ما يحدث من تطورات فى الصين ورغبتها فى أن تقف فى وجه الولاياتالمتحدةالأمريكية وسياسة القطب الواحد التى تحاول أمريكا فرضها على العالم، ورأى أن العرض العسكرى الصينى الأخير كان رسالة واضحة بأن الصين تعزز قدراتها العسكرية لأن بالتأكيد لديها مصالح سواء اقتصادية أو استراتيجية فى العديد من دول العالم. وأوضح أنه مع شعور الولاياتالمتحدة بالقصور فى فرض نفوذها فى مناطق مثل دول شرق آسيا، قد تتأجج صراعات وتتحول إلى صراع عسكرى إذا تجرأت الصين فى اتخاذ الخطوة التالية وهى زيادة الضغط على المناطق التى ترغب الصين فى بسط نفوذها فيها مثل الفلبين، كما أن الصين لن تترك قضية تايوان على الوضع الحالى ولن يحدث ذلك إلا بحرب واسعة تقودها الصين، وهنا يمكن أن تقف الولاياتالمتحدة فى وجه الصين بشكل مباشر. 2