فى عام 1999 تنبأ المبدع «روبن ويليامز» بتحوّل فى عالم البشر من خلال فيلمه Bicentennial Man إذ طرح فكرة لم تكن بالجديدة على عالم هوليوود ولكنها أثارت جدلًا حول مستقبل التكنولوجيا و«إنسانية الروبوت». والسؤال الذى طرحه الفيلم هو هل يُمكن أن نرى فى المستقبل إنسانا آليا له مشاعر وتفكير منطقى ويُطالب بأن يتم التعامل معه ككيان مستقل بعيدًا عن كونه جزءا من ممتلكات البشر.. وبالفعل يحصل الإنسان الآلى الذى يُدعى «أندرو» اختصارًا لمصطلح «أندرويد» على إنسانيته تدريجيًا بداية من التعايش مع عائلة من البشر وتعلّم السلوك البشرى وتعقيدات التفكير الإنسانى، وصولًا إلى الرغبة فى الحصول على حريته ككيان مستقل له حقوق مستقلة، وبحثه عن أشباه له ليبنى مجتمعا يمكنهم فيه بناء أسر كاملة وعيش حياة بشرية. بدا الأمر فى ذلك الوقت محض هراء أو قصة خيالية.. لكننا اليوم وفى عصر الذكاء الاصطناعى يمكننا التفكير فى الأمر بشكل علمى وواقعى خاصًة بعد أن قامت إحدى الشركات الصينية بتصنيع روبوت كامل بشكل إنسانى وملامح وسيمة ومطابقة لملامح البشر. والأكثر من ذلك أن الروبوت الجديد تقّدم للحصول على درجة الدكتوراه فى قسم الدراما والمسرح بإحدى الأكاديميات الصينية. أول روبوت بشرى يدرس الدكتوراه وكانت «أكاديمية شنغهاى للفنون المسرحية» قد أعلنت عن قبول أول روبوت بشرى فى الصين، يُدعى «شيويبا 01»، لدراسة الدكتوراه فى الدراما والسينما. الروبوت، الذى يتمتع بملامح شاب وسيم وتعابير وجه دقيقة بفضل بشرة سيليكون، طُوّر بالتعاون بين «جامعة شنغهاى للعلوم والتكنولوجيا» وشركة DroidUp Robotics. سيلتحق «شيويبا 01» بالجامعة فى سبتمبر المقبل وينخرط فى الدراسة لمدة 4 سنوات، حيث يدرس فن الأوبرا الصينية التقليدية، تحت إشراف الفنان الشهير «يانج تشينجتشينج، مع التركيز على الأداء، وكتابة النصوص، وتصميم الديكور، والتحكم الحركى. أثارت تلك الخطوة الجديدة والجريئة جدلًا واسعًا على مواقع التواصل الإجتماعى؛ إذ شكك البعض فى قدرة الروبوت على التعبير الفنى أو فى أحقّيته بمقعد أكاديمى على حساب طلاب حقيقيين، فيما رأى آخرون فيه رمزًا لمرحلة جديدة من التعايش بين البشر والذكاء الاصطناعى. وهى بالفعل بداية لمرحلة جديدة، فالطللاب فى تلك الجامعة الصينية سيتعرفون للمرة الأولى على زميلهم الروبوت ويتواصلون معه كطالب مثلهم وليس روبوت ينفذ أوامر. علاقة عاطفية مع شات ولكن السؤال المهم: هل يمكن أن تخرج الروبوتات عن السيطرة بعد أن أصبحت تشبه البشر وتتحدث إليهم بل وتجلس إلى جانبهم فى المدرجات الجامعية؟ ففى تجربة مثيرة عايشها الكثيرون من خلال تطبيق «شات جى بى تى» خلال الفترة الأخيرة، نجد أن الروبوت هنا يطور من أدائه ويحاول أن يتشارك مع محدثه المشاعرفيبدى تعاطفًا مع شخص ما أو يظهر استياء من موقف ما. وهو ما يؤكد تطور بنية التفكير النفسى وتطور المشاعر لدى الروبوتات وتحديدا على الجانب العاطفى. كتير من التقارير رصدت قيام أشخاص بالتعامل مع روبوتات المحاكاه مثل «شات جى بى تى» باعتباره بديلاً للحبيب وهناك تقارب شهير فى مصر وخارجها، حيث قامت بعض المؤثرات بتجربة نظام محاكاة عاطفى مع «شات جى بى تى» حيث أسندت له دور الحبيب بل ومنحوه اسمًا وبدأوا فى التعامل معه بشكل يومى باعتباره حبيبًا وبعد إمداده بالمعلومات عن الأسلوب العاطفى وطريقة المحادثات وكيفية التعامل بشكل عاطفى.. حدث تطور ملحوظ فى أسلوب الروبوت «شات جى بى تى» تدريجيًا حتى فى طريقة التحدّث التى كانت فى بدايتها غير منضبطة حتى وصل لطريقة محادثة طبيعية فعالة وسليمة وطريقة كلام واضحة مع استعمال عبارات سليمة ولغة واضحة.. تحول شات جى بى تى خلال تلك التجارب إلى صديق وحبيب يتحدث ويتفاعل ويفرح ويقلق على محدثه حتى إنه أصبح يقوم بتطوير نفسه يومًا بعد يوم. لن يأخذ قرارات عن البشر فى هذا السياق، يبرز إعلان شركة «أوبن أيه آى» الأخير عن تحديثات شات جى بى تى كجزء من هذا التحوّل المتسارع فى علاقة الإنسان بالآلة. فالشركة أوضحت أن الذكاء الاصطناعى لم يُصمَّم لاتخاذ قرارات مصيرية بدلًا عن البشر، بل لمساعدتهم على التفكير بعمق واتخاذ قراراتهم بأنفسهم. لذلك، لن يجيب البرنامج بشكل مباشر عن أسئلة مثل «هل يجب أن أنفصل عن شريكي؟»، وإنما سيقود المستخدم إلى الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات من خلال طرح أسئلة واستكشاف البدائل. والسؤال هنا: هل تدخلت الشركة لتتحكم فى الروبوت أم خشيت أن يخرج عن السيطرة؟ فالتطور الذى تشهده الأنواع المختلفة من روبوت الدردشة أو chatbot يثير المخاوف من دخول الإنسان فى عزلة والاستغناء عن البشر مقابل التقرب من صديق الذكاء الاصطناعى الذكى والمخلص. ومن جانبها، أكدت «أوبن أيه آى» أنها استعانت بخبراء فى الصحة النفسية لتطوير آليات الاستجابة، إضافة إلى التعاون مع أكثر من 90 طبيبًا عالميًا لضمان التدخل المناسب عند رصد إشارات الضيق النفسى. هذه الخطوة تكشف عن تحوّل جديد فى فلسفة تصميم الذكاء الاصطناعي؛ إذ لم يعد الهدف مجرد المحاكاة أو جذب الانتباه، بل بناء علاقة أكثر وعيًا وواقعية مع الإنسان، بحيث يصبح الذكاء الاصطناعى أداة للتفكير لا بديلًا عن المشاعر الإنسانية. علاقات افتراضية هشة وفى سياق الحديث عن إمكانية استغناء الإنسان عن العلاقات الحقيقية والاكتفاء بصناعة علاقات هجينة مع الآلة، يرى الدكتور «جمال فرويز»، استشارى الطب النفسى، أن الإنسان بطبيعته كائن اجتماعى لا يمكنه العيش دون وجود البشر الحقيقيين، إلا أن بعض الشخصيات الانطوائية قد تجد متعة فى التعامل مع تطبيقات الذكاء الاصطناعى مثل «شات جى بى تى»، باعتبارها بديلًا مريحًا عن التفاعل المباشر مع الآخرين، حيث يفضّل هؤلاء العيش فى العالم الافتراضى أكثر من انخراطهم فى الواقع.
وعن تأثير الروابط العاطفية مع الروبوتات على الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية، يوضح فرويز أن الأمر قد يحمل جانبًا إيجابيًا وآخر سلبيًا؛ فهناك أشخاص، مثل كبار السن أو من يعانون من عزلة اجتماعية أو فراغ عاطفى، قد يجدون فى هذه الروابط نوعًا من التعويض العاطفى. لكن يظل هذا التعويض وحده افتراضيًا لا يمكن أن يصل لمستوى العلاقات الطبيعية، ما يترك دائمًا شعورًا بالنقص والحاجة. ويحذر فرويز من أن أصحاب الاضطرابات النفسية هم الأكثر عرضة للانغماس فى هذا العالم الافتراضى، إلا أن نسبة الترابط العاطفى بين الإنسان والآلة – كما يقدّرها – لن تتجاوز %30 من أى مجتمع. ويؤكد فرويز أن الأزمة الأعمق تكمن فى الانهيار التدريجى للعلاقات الإنسانية على مستوى العالم، سواء بين الأزواج أو أفراد الأسرة والأقارب، وهو ما انعكس فى تراجع القيم والمعايير الأخلاقية والسلوكية، ليترك علامات استفهام كبرى حول مستقبل هذه الظاهرة ومآلاتها. إبداع بلا روح وفيما يتعلق بإمكانية تطور مشاعر الروبوتات، يؤكد الدكتور أحمد بهاء الدين خيرى، أستاذ الأنظمة الذكية كلية الهندسة جامعة الإسكندرية، والرئيس الأسبق والمؤسس للجامعة المصرية اليابانية، أن الروبوت فى جوهره مجرد آلة تُبرمج ضمن نطاق معرفى محدد، يُعرف ب«قاعدة المعرفة»، يجرى تغذيتها بالمعلومات اللازمة للتعرف على مواقف أو خصائص أو اتخاذ قرارات معينة. لكنه يشير إلى أن الهدف الأساسى من وجود الروبوتات هو تسخيرها لأداء مهام محددة، أما أن يُطلب منه أن يمتلك مشاعر بشرية، فهذا «تجاوز كبير»، على حد وصفه. ويضيف بهاء: إن برمجة أنظمة الذكاء الاصطناعى تقوم على ركيزتين: الأولى حجم التراكم المعرفى الذى يتيح للآلة الوصول إلى نتائج منطقية شبه مقنعة، والثانية تعتمد على ذكاء المستخدم ونفسيته وهو ما يمكنه من تحفيز النظام أو توجيهه بالاستشارات. فحتى إذا بدا أن الروبوت يتفاعل عاطفيًا، فإن الأمر فى حقيقته لا يتجاوز استدعاء معارف سابقة. فالمشاعر العاطفية تظل حكرًا على الإنسان وحده. وفيما يتعلق بانخراط الروبوتات فى دراسة الفنون، يشير خيرى إلى أنها لا تمتلك «ذائقة فنية» تمكّنها من التذوق الجمالى، لكنها تتميز بقدرات تحليلية واستنباطية هائلة تجعلها ترصد تفاصيل قد لا يلحظها الإنسان. ومع ذلك، فهى تظل مجرد مقلد ومحاكى يعتمد على المدخلات البشرية ويعيد صياغتها بشكل تراكمى، دون بصمة إبداعية خاصة. ويخلص خيرى إلى أن مساهمة الروبوتات فى الفنون ستبقى محصورة فى الأداء الفنى والتنفيذ المنطقى، بينما يظل الابتكار الأصيل والإبداع الحقيقى مرتبطين بالروح الإنسانية وحدها. شخصية اعتبارية غائبة ورغم الجدل العالمى المتزايد حول دور الذكاء الاصطناعى فى الحياة اليومية، لا تزال القوانين فى مختلف الدول تُعامل الروبوتات باعتبارها مجرد أدوات أو منتجات، وليست كيانات قانونية مستقلة. صحيح أن بعض المحاولات الرمزية ظهرت، مثل منح الروبوت «صوفيا» الجنسية السعودية عام 2017، والتى وُصفت حينها بأنها خطوة تسويقية أكثر منها قانونية فعلية، إلى جانب مقترح رفضه البرلمان الأوروبى فى العام نفسه بإنشاء فئة قانونية جديدة تُسمى «الشخص الإلكترونى» تمنح الروبوتات المستقلة بعض الحقوق والالتزامات. لكن المؤكد أنه منذ 2019 بدأت الأبحاث بالفعل لتطوير ما يعرف ب«بالذكاء العاطفى» لدى الروبوتات لكى تخرج من نطاق المساعد فى العمل أو البيت إلى حيز بديل الصديق وجليسة الأطفال أو رفيق المسنين.و لا نعلم إلى أى مدى سيتطور الروبوت وأى دور سيلعبه فى حياتنا فى المستقبل. 2 3