يكثر الجدل كل عام حول مشروعية الاحتفال بالمولد النبوى الشريف؛ مع بداية شهر ربيع الأول؛ بين من يراه مناسبة دينية عظيمة لإحياء ذكرى مولد خير البرية ، وبين من يعتبره «بدعة» لا أصل لها. لكن هذا العام، تصدرت المشهد فتوى مثيرة للجدل؛ أطلقها شخص محسوب على التيار السلفى يُدعى عبدالحق دريبيزه، زعم فيها أن ارتكاب الكبائر مثل الزنى وشرب الخمر أقل إثمًا من الاحتفال بالمولد، لأنه بدعة – بحسب زعمه – وهى من أعظم الكبائر.
هذه الفتوى الغريبة ؛لم تُقابل باعتراض من رموز التيار السلفى، بل سارعت بعض المنصات السلفية إلى إعادة نشر فتاوى قديمة تعارض الاحتفال، مثل فتوى الشيخ صالح الفوزان عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية، التى قال فيها: «الاحتفال بالمولد النبوى بدعة منكرة، لم يفعلها الرسول ولا الخلفاء الراشدون من بعده ولا أحد من السلف، إنما أحدثه الشيعة الفاطميين بعد القرن الرابع الهجرى لإفساد دين المسلمين». استشهد «الفوزان» بقول النبى : «من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»؛ كرروا كذلك فتوى الشيخ ابن باز ؛التى نصت على أن: «الاحتفال بالمولد بدعة منكرة لا أصل لها فى الإسلام». وهكذا ظل الخطاب السلفي؛ أسير نظرة متشددة ترى فى إظهار الفرح بمولد النبى «بدعة وضلالة»، رغم أن الأمة الإسلامية فى مشارق الأرض ومغاربها؛ اعتادت على الاحتفاء بهذه المناسبة منذ قرون. فتاوى البدعة فى مواجهة هذا الخطاب المتشدد؛ تحركت المؤسسات الدينية الكبرى فى مصر لإطلاق مبادرات فكرية ودعوية؛ تؤكد أن الاحتفال بمولد النبى ليس بدعة، إنما هو تعبير عن محبته وتجديد للعهد معه . من جانبها وزارة الأوقاف؛ أعلنت عن خطة دعوية موسّعة تحت عنوان «مولد الهدى» تستمر طوال شهر ربيع الأول، تهدف إلى نشر قيم المحبة والتسامح المرتبطة بسيرة النبى . وتشمل الخطة ؛عقد ندوات ومحاضرات فى المساجد وقصور الثقافة ومراكز الشباب؛إطلاق مسابقات كبرى فى السيرة النبوية والشمائل المحمدية؛ توزيع مطويات تعريفية بالشمائل المحمدية؛ بث مقاطع مرئية قصيرة للأئمة والواعظات عبر المنصات الرقمية؛ إقامة مجالس لقراءة «الشمائل المحمدية» يعقبها مجالس للصلاة على النبى؛ إرسال قوافل دعوية مشتركة مع الأزهر الشريف إلى المحافظات. مبادرة وزارة الأوقاف، لا تقتصر على المساجد، بل تمتد إلى كل مؤسسات المجتمع، ليصبح المولد مناسبة لإحياء القيم النبوية فى وجدان الناس. حملة «فاتبعوه» أطلق مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف حملة كبرى بعنوان «فاتبعوه» باللغتين العربية والإنجليزية ؛تهدف الحملة إلى ربط السيرة النبوية بقضايا الإنسان المعاصر؛ تقديم الردود العلمية على دعاوى التشدد التى تعتبر المولد بدعة؛ إبراز أن محبة النبى لا تكتمل إلا باتباعه عمليًّا.. إضافة إلى إنتاج محتوى رقمى قصير (فيديوهات – منشورات) ينشر عبر صفحات الأزهر الرسمية. قال الدكتور محمد الجندى، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية: إن «الاحتفاء بالمولد النبوى ليس بدعة كما يزعم البعض؛ بل هو فرصة سنوية لتجديد العهد مع النبى بالاتباع والاقتداء استدعاء لمعانى الرحمة التى بعث بها». أصدر مجمع البحوث الإسلامية؛ ملفًا خاصًا فى مجلة الأزهر عن المولد النبوى، ضم مقالات لكبار العلماء حول شخصية النبى ، مؤكدًا أن هذه الذكرى تمثل وثيقة تربط الأمة بجذورها المحمدية. الجامع الأزهر، نظم أمسيات دينية، من أبرزها أمسية «بشارة الميلاد وطهارة النسب الشريف»، شارك فيها كبار العلماء والطلاب وخلالها أكد الدكتور سلامة داود رئيس جامعة الأزهر: «مولد النبى لم يكن حدثًا عاديًا؛ بل نقطة تحول كبرى فى تاريخ البشرية، التأسى به يمثل منهجًا حياتيًّا متكاملًا». دار الإفتاء أما الرد الأبرز، فقد جاء من دار الإفتاء المصرية، حيث أصدر فضيلة الدكتور نظير محمد عياد – مفتى الجمهورية – فتوى رقم «8731» الشهر الماضى، بعنوان: حكم الاحتفال بالمولد النبوى الشريف وكيفيته،أكد فيها أن ما يقوم به المسلمون من الاحتفال بذكرى المولد النبوى الشريف بصنوف الطاعات والعبادات فى اليوم الذى يوافق ميلاد النبى ، أمرٌ مندوب شرعًا، ويحصُل به الأجر والثواب. وأوضح ؛أن عادة المسلمين جرت منذ قرون على الاجتماع فى هذه المناسبة المباركة للذكر، تلاوة القرآن، إنشاد المدائح النبوية، إطعام الطعام،إحياء مشاعر الفرح برسول الله وكل ذلك من باب الشكر لله تعالى على رحمته المهداة. التأصيل الشرعى استدل المفتى بحديث النبى حين سُئل عن صيام يوم الاثنين؛ فقال: «ذلك يوم وُلدت فيه» (رواه مسلم)؛ معتبرًا أن هذا أصل فى شكر الله على ميلاده الشريف،ربط بين الاحتفال بالمولد وقوله تعالى: «وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ» [إبراهيم: 5]؛ مؤكدًا أن يوم مولد النبى من أعظم أيام الله. وأشار ؛إلى أن القرآن الكريم شرَّف أيام ولادة الأنبياء، كما فى قوله تعالى عن يحيى: «وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ» [مريم: 15]، وعن عيسى: «وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ» [مريم: 33]،بيّن أن مولد النبى سبب كل نعمة فى الدنيا والآخرة، فهو الرحمة العظمى للعالمين، لقوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» [الأنبياء: 107]. شواهد من السنة أورد المفتى؛ أن الفرح بمولده قد نفع حتى الكفار، مستدلًا بما ورد فى صحيح البخارى عن أبى لهب الذى خُفف عنه العذاب كل يوم اثنين؛ لفرحه بميلاد النبى وعتقه ثويبة حين بشّرته،نقل عن الحافظ ابن الجزرى قوله: «فإذا كان أبو لهب الكافر جُوزى فى النار لفرحه بمولد النبى صلى الله عليه وسلم، فما حال المسلم الموحد الذى يفرح ويحتفل بمولده» أقوال العلماء أكّد د.«نظير»؛ على أن العلماء عبر القرون أجازوا الاحتفال بالمولد، منهم الحافظ السخاوى الذى ذكر أن المسلمين فى الأقطار والمدن اعتادوا الاحتفال بالمولد بالولائم والصدقات والذكر، كذلك الحافظ القسطلانى وغيرهم من أعلام الأمة. وأوضح المفتى؛ أن صور الاحتفال المشروعة تشمل: «قراءة القرآن الكريم، مدارسة السيرة النبوية، إنشاد المدائح والابتهالات، الإكثار من الصلاة على النبى وإطعام الطعام وإظهار الفرح المشروع». إجماع واسع لم تقتصر الفتاوى المؤيدة للاحتفال بالمولد النبوى الشريف على مصر وحدها، بل أصدرت دور الإفتاء فى: «الأردن، الإمارات، الكويت، فلسطين، تونس، المغرب، لبنان، الجزائر، سلطنة عمان، البحرين، إندونيسيا، وماليزيا» فتاوى رسمية تجيز الاحتفال، بل إن بعضها اعتبر يوم 12 ربيع الأول عطلة رسمية،هذا الإجماع يعكس أن الاحتفاء بمولد النبى أصبح مناسبة جامعة للأمة الإسلامية، تذكّرها بسيرة نبيها وقيمه الخالدة. 2 3