فى الثالث من أغسطس تحل ذكرى ميلاد البابا شنودة الثالث، البطريرك ال 117 على كرسى مارمرقس، وهو عيد الميلاد الثانى بعد المئة، حيث وُلد فى الثالث من أغسطس عام 1923. كانت حياته مليئة بالأحداث التى أثرت عليه وشكلت وجدانه، وذلك منذ أن توفيت أمه أثناء ولادته فى أغسطس عام 1923 بمحافظة أسيوط. لتصبح له العديد من الأمهات على اختلاف دياناتهن، إلا أن إحساس اليتم ظل مرافقًا له طوال حياته، وهو ما سجله فى قصيدته الشهيرة «أمي» حيث قال فيها: «أحقًا كان لى أمٌ فماتت.. أم إنى قد خُلقتُ بغير أم.. رمانى الله فى الدنيا غريبًا.. أُحلق فى فضاءٍ مدلهم.. وأسأل يا زمانى أين أحظى بأخت أو بخالٍ أو بعمِ.. وأسأل عن صديق لا أجده كأنى لست فى أهلى وقومى.. وهل أقضى زمانى ثم أمضى وهذا القلب فى عدم ويتم». يُتم مبكر هذا اليتم المبكر جعله يشعر بالوحدة الدائمة والتى لازمته طوال فترة كبيرة فى حياته حيث كان يقول: «كنت طفلًا وحيدًا ماتت أمه دون أن يرضع منها، وفى طفولته كان يسير إلى المدرسة فى طريق «طويل طويل» أمشى فيه وحدى وأنا أفكر».. لقد وُلِد البابا شنودة فى قرية سلام فى محافظة أسيوط، باسم نظير جيد روفائيل. كان البابا شنودة أول أسقف للتعليم المسيحى قبل أن يصبح البابا، وهو رابع أسقف أو مطران يصبح البابا بعد البابا يوحنا التاسع عشر (1928 - 1942) ومكاريوس الثالث (1942 - 1944) ويوساب الثانى (1946 - 1956). وكان يقول عن طفولته المبكرة إنه عاشها بلا صداقة ولا زمالة ولا لعب مثل باقى الأطفال، لكنه يتذكر زيارته لدير درنكة بأسيوط مع مئات وآلاف العائلات، التى تذهب إلى جبل أسيوط لتأخذ بركة السيدة العذراء. لم تكن طفولته مستقرة فى مكان واحد وهو ما عزز شعور الوحدة لديه، فقد بدأ دراسته ما قبل الابتدائى بأسيوط والسنة الثانية والثالثة الابتدائى قضاها فى الإسكندرية، ثم عاد إلى أسيوط.. فى السنة الرابعة ذهب إلى بنها مع أخيه الأكبر الأستاذ روفائيل ومنها إلى القاهرة، ودخل مدرسة الإيمان الثانوية فى شبرا، وبعد أن أنهى المرحلة الثانوية دخل جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة) كلية الآداب قسم التاريخ.. هكذا كانت أولى فترات حياته التى كان لها تأثير كبير فى تشكيل شخصيته المحبة للفكر والأدب، وفى الوقت نفسه أفرزت إنسانًا مفكرًا متأملًا فى الأوضاع من حوله. وكانت لشخصية إخوته ووالده التأثير الكبير عليه ليصبح شخصية تملك فكرًا حرًا مدافعًا عن رأيه وأفكاره.. كما أن شخصيته الأدبية التى تكونت لديه مبكرًا جعلته قادرًا على خلق أدوات أدبية خاصة به يستطيع أن ينقل بها أفكاره الجريئة والتى وصلت لحد انتقاد القوانين الكنسية وقيادتها من خلال صفحات المجلات الدينية وعلى رأسهم مجلة «مدارس الأحد» وذلك خلال فترة شبابه الثورية والمتمردة. شغف المعرفة تأثرت شخصية البابا شنودة ب الأرشيدياكون حبيب جرجس مدير الكلية الإكليريكية حين التحق بها وهو فى السنة الرابعة من كلية الآداب، ولم يكتف بالالتحاق بها فقط بل التحق أيضًا بكلية الضباط الاحتياط فى نفس السنة، ليدرس فى الكليات الثلاث معًا فى نفس العام، مما يجعلنا ندرك شخصيته المثابرة والتواقة للعلم والدراسة والطموح وشغف المعرفة والقيادة. حيث عُين فى هيئة التدريس بالكلية الإكليريكية، وصار عضوًا فى اللجنة العليا لمدارس الأحد، وجمعته علاقة مودة ومحبة بالأرشيدياكون حبيب جرجس الذى أثر فيه كثيرًا. أدرك نظير جيد، وهو اسم البابا شنودة قبل الرهبنة، أن أوضاع الكنيسة تحتاج لإصلاح، فاتخذ من مجلة «مدارس الأحد» منبرًا يعتليه وينادى ويطالب بالإصلاح، وهاجم البابا يوساب البطريرك ال 115 آنذاك كثيرًا وطالبه بالإصلاح وشكك فى شرعيته لكونه كان مطرانًا لجرجا وهو ما لا يجيزه القانون الكنسى. بل وكانت أكثر الحملات الإصلاحية حينما اتفق مع شباب مدارس الأحد على الدفع بأستاذهم العلمانى حبيب جرجس للرسامة مطرانًا للجيزة بعد خلو كرسى المطرانية عام 1949، وجندت مجلة مدارس الأحد صفحاتها حينها للتأكيد على أن الكنيسة تجيز رسامة علمانى لهذا الموقع، بينما لا تسمح بانتقال أسقف من كرسيه إلى آخر.. ولم يكن هذا فقط ما نادى به نظير جيد بل طالب بتغيير لائحة اختيار البطريرك فى مقال له على صفحات نفس المجلة.. إلا أنه وعلى الرغم من ثائرته وتمسكه بآرائه إلا أنه رفض تغيير اللائحة بعد اعتلائه سدة الكرسى المرقسى، ليترك هذه المهمة لخلفه ليعطى للجميع درسًا آخر وهو أنه أيًا كانت رؤيتك الإصلاحية إلا أنها من الممكن أن تتغير بعد وجودك فى مركز القيادة، ليس لتغيير فى أفكارك وإنما لإدراكك لوجود الكثير من المعطيات الأخرى لا يراها سوى من يملك عجلة القيادة. البابا شنودة والشيخ الشعراوي كانت شخصية البابا شنودة شخصية استثنائية، ولذلك جمعته صداقة استثنائية مع الشيخ متولى الشعراوى. بدأت العلاقة بين الشيخ الشعراوى والبابا شنودة بعد إرسال البابا شنودة وفدًا من رجال الكنيسة لزيارة الشيخ الشعراوى أثناء إجرائه عملية جراحية فى لندن، وقدم له هدية عبارة عن «علبة شيكولاتة» مع باقة من الورود، بعدها زاره بنفسه ووصى الأطباء عليه، وضع صورة الشيخ الشعراوى فى مكتبه الخاص لكى يصلى من أجل أن يتم الله شفاءه، وأن يعود إلى أرض الوطن بكامل صحته بعد إجرائه عملية جراحية فى لندن. لقد استطاع البابا شنودة الثالث أن يحفر اسمه فى ذاكرة الوطن، فقد استطاعت كاريزمته وشخصيته أن تؤثر فى الكثير من أبناء هذا الوطن بل والعالم كله، حتى إنه تم إطلاق اسمه على أحد شوارع ولاية نيوجيرسى بعد رحيله بعدة أشهر، وذلك فى أكتوبر عام 2012 حيث تجمع مئات من الأقباط فى تقاطع شارع بيرجن وشارع فروم فى جيرسى سيتى بولاية نيوجيرسى، ليشاهدوا إزاحة الستار عن لافتة شارع تحمل اسم البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية. حيث تم إطلاق اسمه على هذا الشارع تكريمًا وتخليدًا لذكراه، وكان أكثر من 400 شخص قد تجمعوا قبل حفل الإطلاق فى كنيسة سانت جورج وكنيسة القديس شنودة، وقد حضر حفل تغيير اسم الشارع إلى اسم البابا أيضًا عدد من الشخصيات السياسية والدينية الأمريكية، مثل السناتور روبرت مينينديز، والأنبا دافيد الأسقف العام للأبرشية الأرثوذكسية فى أمريكا الشمالية، وعمدة المدينة. نعى البابا شنودة الثالث وعندما رحل البابا شنودة عن عالمنا نعاه زعماء ومشاهير العالم حيث قال الرئيس الأمريكى الأسبق باراك أوباما: «سنتذكر البابا شنودة الثالث كرجل عميق الإيمان وداعية إلى المصالحة». نعته كاثرين آشتون وزيرة الشئون الخارجية بالاتحاد الأوروبى قائلة: «قائد محترم صاحب رؤية.. وكان يدعو إلى التسامح والحوار بين الأديان». أما الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الراحل فقال عنه: «كان مثالًا لرجل الدين الذى يؤمن بالتسامح، والتعايش بين الطوائف والأديان». الدكتور نبيل العربى الأمين العام لجامعة الدول العربية: «البابا شنودة الثالث قامة مصرية وطنية عظيمة حملت هموم المصريين والعرب جميعًا، وعاش بإيمانه العميق مدافعًا عن الوحدة الوطنية وعن القضايا العربية، وعن روح التسامح والمحبة والحوار بين أتباع الديانات السماوية». الدكتور الراحل أحمد زويل: «البابا شنودة كان مصريًا عظيمًا ورمزًا فى تاريخنا الحديث»، الأديب الراحل نجيب محفوظ: «البابا شنودة دائمًا رجل صلب متفائل شديد الذكاء.. مصرى عميق الأصل، عربى الوجدان والتوجهات.. إنسانى النزعة عالمى الأفق». مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين الأسبق: «حافظ على الهوية الوطنية للكنيسة المصرية وتقاليدها القديمة.. نصر القضية الفلسطينية ورفض ذهاب الأقباط إلى القدس، كما أنه كان رجلًا مثقفًا ووطنيًا». الكاتب مصطفى أمين: «الظلم يقوى المظلوم ولا يضعفه.. فالمطارق التى هوت على البابا شنودة لم تهدمه بل جعلته أكثر ثباتًا، ومكانة فى قلوب الأقباط». ويقول البابا تواضروس الثانى بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية عن البابا شنودة: «إن الجميع يتذكر مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث، وعمله وخدمته وحبريته وتعبه من أجل الكنيسة على مدار عشرات من السنين»، مضيفًا أنه علامة كبيرة فى تاريخ الكنيسة القبطية وأحد قامات مصر القوية. هامة روحية كنسية قبطية عظيمة أثرت فى التاريخ المصرى والتاريخ القبطى، أضاف البابا تواضروس فى حديثه عن البابا الراحل: هو أول بطريرك قبطى يزور الفاتيكان، ويقيم علاقات مع الكنيسة الكاثوليكية فى مايو 1973، وتمخض عن الزيارة بيان رسمى وقعه البابا شنودة والبابا بولس السادس، وهذا البيان يُعتبر أساسًا قويًا للعلاقات التى تقوم بين الكنيستين، وعلى أساس البيان، قامت الحوارات اللاهوتية بين الكنائس الشرقية (الأورينتال) ومع الكنيسة الكاثوليكية، والثمرة القوية لكل هذا هو الفهم المتبادل بين الكنيستين. زار معظم كنائس العالم الأرثوذكسية الخلقيدونية وغير الخلقيدونية والكاثوليكية والإنجيلية والأسقفية، وتبادل الزيارات معهم، وكان يهتم بهذه العلاقات الطيبة التى تجمع الجميع، واهتم بالحوارات اللاهوتية وزيارات المحبة، واستقبال الآباء وقادة هذه الكنائس هنا فى مصر، ليطلعوا على التاريخ القويم لكنيستنا المصرية، فكان بحق داعمًا قويًا لهذه العلاقات التى تشمل كنائس العالم. حصل على أكبر جائزة فى التعليم المسيحى تمنحها مؤسسات بروتستانتية، باعتباره واعظًا مسيحيًا متميزًا، وكان ذلك فى أواخر السبعينيات. واختتم البابا تواضروس حديثه، قائلًا: «جعل البابا شنودة الكنيسة القبطية منارة لذلك؛ عندما تتواجد فى أى مكان لا تخشى من شيء، بل تقدم خبرتها وتاريخها واختباراتها ومعرفتها وإيمانها المستقيم للجميع». هكذا كانت شخصية البابا شنودة مثيرة للجدل، له مكانة خاصة فى قلوب الكثيرين ليس فى مصر فقط بل العالم كله شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا.. ولا تزال حتى الآن شخصيته محط أنظار الكثيرين الذين يسعون لدراسة جوانبها ليبرزوها للجميع فى شتى أنحاء العالم، فهو الشخصية التى جمعت فى جوانبها الهدوء والتمرد، الضحك وحب الفكاهة والصرامة. كانت كاريزما البابا شنودة تستطيع أن تجذب الكثيرين، لذلك كان أول أسقف للتعليم ليلتف حوله الشباب ويتعلقوا به، ويظلوا هكذا حتى يبكوه كثيرًا بعد الرحيل. 2