حينما تعصف الأزمات وتشتد المحن، لا يبقى فى الميدان إلا من تربطهم الأخوة واللغة والتاريخ المشترك.. وهكذا لم تكن مصر يومًا غريبة عن شقيقتها السودان، بل كانت دومًا حضنًا دافئًا يستوعب أبناءها، ومع اشتداد لهيب الحرب فى السودان، كانت مصر- رسميًا وشعبيًا- فى طليعة الدول التى فتحت ذراعيها لاستقبال مئات الآلاف من السودانيين، آوتهم وآزرتهم، وسعت لتوفير الأمان لهم. عودة آمنة بدعم مصرى خالص خلال الأسبوع الماضى، ومع انطلاق قطار العودة الطوعية للسودانيين من مصر إلى وطنهم، تقف الدولة المصرية شاهدًا على صفحة جديدة من صفحات التضامن الحقيقى الذى لا يُقاس بالبيانات، وإنما بالفعل على الأرض. وفى مشهد يعكس حجم التنسيق والتعاون بين البلدين، كثّفت هيئة سكك حديد مصر، جهودها لتأمين وتنظيم عودة السودانيين الراغبين فى الرجوع إلى وطنهم، عبر تشغيل الخطوط المتجهة إلى ميناء السد العالى النهرى، حيث انطلق العائدون فى رحلة العودة جنوبًا. وبالتزامن مع عودة أهالى السودان، هبطت طائرة رئيس مجلس السيادة السودانى، عبد الفتاح البرهان فى مطار الخرطوم لأول مرة منذ 15 من أبريل 2023، ما حمل رسائل ومؤشرات عديدة، أهمها أن التمرد انتهى، وأن ولاية الخرطوم آمنة، وجاهزة لاستقبال ملايين المواطنين الذين نزحوا منها إلى ولايات الشمال، والشرق، ولجأوا إلى دول الجوار. موقف إنسانى راسخ لم يكن هذا الموقف الإنسانى جديدًا على مصر، فمنذ بداية الحرب السودانية فى أبريل 2023، استقبلت الدولة المصرية مئات الآلاف من النازحين، وفتحت مستشفياتها، ومدارسها، وأسواقها أمامهم دون تمييز، أو تضييق. كما قدمت تسهيلات استثنائية فى الإقامة، والرعاية الصحية، والتعليم، ما جعل أرض مصر ملاذًا آمنًا فى لحظة فارقة من تاريخ السودان الحديث. بالتوازى مع الدعم الإنسانى، قدمت الدولة المصرية دعمًا أقوى على الصعيد السياسى والدبلوماسى، إذ تحركت القاهرة منذ اللحظة الأولى للأزمة بشكل متوازن ومسؤول، حيث استضافت فى يوليو 2023 قمة دول جوار السودان، لتوحيد الرؤى الإقليمية حول آلية حل الأزمة بالحوار لا بالسلاح. كما أكدت القيادة المصرية- مرارًا وتكرارًا- دعمها لمبدأ الحوار السودانى- السودانى دون إقصاء، ساعية إلى بناء جسور التوافق السياسى، بالتوازى مع اتصالات دبلوماسية مع العواصم الكبرى، من أجل منع تدويل الصراع، أو تحوله إلى ساحة صراع نفوذ. باختصار.. اختارت مصر أن تكون صوت العقل والاعتدال، مدافعة عن وحدة السودان واستقراره، وكرامة أبنائه فى الداخل والخارج. علاقات متعددة الروافد قال نائب رئيس المجلس المصرى للشؤون الإفريقية، ومساعد وزير الخارجية الأسبق، السفير صلاح حليمة ل«روزاليوسف»، إنه لا شك أن موضوع العودة الطوعية للسودانيين، يعنى أن هناك آفاقًا أرحب للأمن والاستقرار، ولمرحلة التعافى المبكر تحديدًا بالمناطق التى تقع تحت سيطرة القوات المسلحة، ومجلس السيادة. وأكد حليمة أنه لا شك- أيضًا- أن مصر كان لها دور- وما زال- فيما يتعلق بوضع الإخوة السودانيين الذين جاءوا إلى الأراضى المصرية كضيوف وإخوة مثل المصريين، حيث لم تكن مسألة طارئة، وإنما كانت مسألة تتعلق بعلاقة بين شعبى وادى النيل، موضحًا أن للدولة المصرية دورًا- أيضًا- فى تلك العودة، وتهيئة المناطق التى سيعود إليها أبناء السودان. وبالنسبة لتوجه البرهان إلى الخرطوم التى تعد رمز السيادة ورمز الدولة، أوضح حليمة أن هذا تأكيد على الاعتراف الإقليمى والدولى، ما يؤكد- أيضًا- أن العاصمة السودانية هادئة ومستقرة، وأن هناك استعدادات لاستقبال المواطنين السودانيين، وتوفير الحياة الكريمة لهم، وتوفير الخدمات الأساسية فى المرحلة الحالية. وأكد أن التنسيق بين مصر، والسودان يحمل العديد من الرسائل السياسية للمجتمع الدولى، أهمها أن العلاقات بين الجانبين متعددة الروافد، فضلًا عن الآليات العديدة والمتميزة فى خصوصيتها للعلاقات، ما يوضح الأهمية البالغة فيما يتعلق بأمنهما القومى والمصالح المشتركة التى تربط بينهما، والتعاون الوثيق فيما يتعلق بالأوضاع الإقليمية، وغيرها؛ مشددًا على أن مواقف البلدين تجاه بعضهما لا تتاثر بأى محاولات للنيل منها. جهود اتفاق السلام من جانبه، قال عثمان ميرغنى، رئيس تحرير جريدة التيار السودانية، إن مصر ظلت داعمة بقوة للسودان منذ اليوم الأول للحرب، كما استقبلت السودانيين الذين لاذوا بها ووفرت لهم الأمن والإقامة والخدمات والتعليم، موضحًا أن الدعم الأكبر كان فى المحافل الإقليمية والدولية، حيث استضافت مصر قمة دول جوار السودان. كما أكد ميرغنى ل«روزاليوسف» أن السودانيين يُقدرون الوقفة القوية من مصر شعبًا وحكومة، ما سيكون له من تأثير كبير فى مستقبل العلاقات بين البلدين، كما سيلقى مسؤولية كبيرة على حكومتى البلدين فى ترجمة هذا التقدير لمشروعات مشتركة لصالح البلدين. وفى هذا السياق، أشار ميرغنى للاتفاق بين الحكومتين على أن تتولى مصر قيادة مشروعات إعادة الإعمار، مضيفًا أن هناك اتفاقًا أُبرم قبل عدة أسابيع على أن تتدبر الدولة المصرية مشروعات لصالح الدولة الشقيقة. أما فيما يخص عودة البرهان إلى الخرطوم الأسبوع الماضى، فاعتبر أنها دليل قوى على حالة الاستقرار والأمان التى وصلت إليها الأحوال فى ولايات وسط السودان، التى كانت تعانى مما وصفه باحتلال التمرد، والذي انتهى فى ولاية الخرطوم بمعركة منطقة الصالحة جنوبأم درمان، وحاليًا بدأت مرحلة البناء وعودة المواطنين إلى بيوتهم وأعمالهم. تعقيدات الملف السودانى أكد الباحث السياسى السودانى مجدى عبدالعزيز، أن مصر بحكم جيرتها، والتواصل الطبيعى بين الشعبين المصرى والسودانى، فضلًا عن علاقات المصير المشترك، التى لم تكن شعارًا عاطفيًا، بل كانت واقعًا أثبتته كل مواقف التاريخ والسياسة، هى الدولة الوحيدة التى تعرف تعقيدات الملف السودانى، فيما تتواصل مؤسسات الدولة المصرية مع جميع مكونات ونخب السودان السياسية والاجتماعية، وعليه فإن مصر هى التى تعرف كيف تصف أزمة السودان الآن، مضيفًا أن الدولة المصرية- دائمًا- تكون فى الموقف الصحيح. كما أوضح أن مواقف مصر أثبتت أن رؤيتها كانت ثاقبة وواضحة منذ دعواتها لمؤتمر الحوار السوداني- السودانى فى فبراير الذى سبق الحرب بشهرين، في محاولة لجمع السودانيين على كلمة واحدة، مشيرًا- أيضا- إلى أن موقف الدولة المصرية بعد الحرب السودانية، سيكون له انعكاسات إيجابية فى علاقات الجانبين. أما فيما يخص هبوط طائرة الرئيس البرهان فى الخرطوم، فاعتبر عبد العزيز أن له دلالات كبيرة وعميقة، خاصة بعد أن كانت محتلة من الدعم السريع، حسب وصفه؛ مشيرًا لنجاح استراتيجية القوات المسلحة السودانية فى طرد الميليشيا من الخرطوم وولايات الوسط. ورأى أنه مع عودة البرهان للعاصمة، فإن الحياة، ومقر الحكومة، والسفارات تعود من جديد للخرطوم، ما يؤكد انتصار الدولة السودانية، وسيادته، وأرضه، وشرعية الحكومة التى تقود البلاد، وشرعية القوات المسلحة كمؤسسة دستورية مسؤولة عن حماية أمن السودان، وإفشال محاولات إضعاف الدولة السودانية، عبر استهداف مؤسستها، إلى جانب إفشال مخططات تقسيم السودان، وسحب قراره السياسى والاقتصادى. 2 3 4 5