فى عالم تتقاطع فيه الفنون مع التاريخ والعلوم، لم يعد المزاد مجرد مكان يقصده عشاق القطع المميزة النادرة لاقتناء لوحات أو مجوهرات إلى غير ذلك، بل بات مسرحًا لعرض قطع من كواكب أخرى وهياكل لكائنات انقرضت منذ ملايين السنين. ففي صالة عرض فاخرة بدار مزادات «سوذبيز» العريقة فى «نيويورك»، يُسمع صوت المطرقة معلنًا بيع مقتنيات فارقة تاريخيًا، وأدبيًا، وعلميًا بملايين الدولارات، داخل عالم المزادات العريقة، إذ تسلط «دار سوذبيز» الضوء على نوع جديد من المعروضات التي تجمع بين العلم، والتاريخ، والترف، مع لمسة من الغموض والجدل. ففي مزاداتها الأخيرة، عرضت الدار قطعًا لا تمثل فقط أثرًا ماديًا، بل قصة، وتاريخًا، وتطورًا علميًا، َوتجسيدًا للذاكرة الإنسانية المتصلة بعوالم مختلفة، من أعماق الأرض، إلى الفضاء الواسع. ثلاثة قرون من المزادات الفارقة قبل الحديث عن المقتنيات الغريبة والمثيرة للجدل التى باعتها دار «سوذبيز»، تجدر الإشارة إلى تاريخ الصالة العريقة التى تأسست في عام 1744 في «لندن» على يد «صامويل بيكر»، وتعد واحدة من أقدم وأهم دور المزادات في العالم. بدأت «سوذبيز» كصالة مزاد متخصصة فى الكتب النادرة، لكنها توسعت تدريجيًا لتشمل لوحات فنية، مجوهرات، تحف أثرية، سيارات كلاسيكية، عقارات، وحتى قطع نادرة من التاريخ الطبيعي والعلم. كما تعد «سوذبيز» ثاني أكبر دار مزادات بعد دار «كريستيز». لكن، الأولى تتميز- دومًا- بابتكارها في تقديم المزادات الفنية والثقافية، واحتضانها لأعمال فنية معاصرة، ومقتنيات نادرة للغاية. جدير بالذكر أيضًا، أن «سوذبيز» ليست محصورة في «لندن» فقط، بل لها فروع ومكاتب في مدن كبرى حول العالم، منها في مدينة «نيويورك» التي تعد مقرًا رئيسيًا للمزادات الكبرى، خاصة المزادات المتخصصة في الفنون الحديثة والمعاصرة والأشياء النادرة؛ وفي «هونج كونج»، المزدهرة بفنون وآثار «آسيا»؛ فضلًا عن وجودها في كل من «باريس»، و«جنيف»، وغيرها. وعادة ما تُثير مزادات «سوذبيز»، خاصة تلك التي تتضمن قطعا أثرية أو علمية، جدلًا مستمرا حول: ملكية القطع النادرة؛ فضلًا عن تأثير المزادات التجارية على البحث العلمي، حيث يرى بعض العلماء أن بيع بعض القطع يعوق دراسات علمية مهمة؛ فيما يرى آخرون أن لبعض القطع قيمة تاريخية أقوى من قيمتها المادية... ويبقى الجدل!.. وفي هذا الصدد، نتطرق لعرض أغرب وأبرز المقتنيات التي نشرتها هذه الدار. العلم محجوب بخزائن الأثرياء في عام 1996، اكتشفت حفرية علمية هيكل «سيراتوصور» صغير في محجر «Bone Cabin Quarry» بولاية «وايومنج» الأمريكية، وهو نوع من الديناصورات عاش في «أمريكا الشمالية» منذ نحو 150 مليون سنة. و«السيراتوصور» هو ديناصور آكل للحوم يتميز بوجود قرن صغير على أنفه وصف من النتوءات الكبيرة على جمجمته.كما يمتلك هذا الفصيل من الديناصورات أسنانًا حادة ومخالب قوية وذيلًا طويلًا. ويعد أهم ما يميز هذا الهيكل، أنه الرابع فقط من نوعه الذي يُكتشف حول العالم، بينما يعتبر الاكتشاف الأول الذي يعد لكائن صغير السن من هذا النوع، حيث يبلغ طوله نحو 3 أمتار، وارتفاعه نحو 1.8 متر فقط. لكن، الغريب أن هذا «الكنز الجوراسي» بقي مغمورًا في متحف «Museum of Ancient Life» بولاية «يوتا» الأمريكية، حتى عام 2024، دون أي دراسة للمجتمع العلمي، طوال أكثر من 25 عامًا. وعندما تم بيعه، أقيم تركيبه وعرضه في مزاد «سوذبيز»، في إطار ما أًطلق عليه «Geek Week» ، وهي سلسلة مزادات سنوية أو موسمية متخصصة، تُركّز فيها على بيع مقتنيات ترتبط بعلوم الفضاء، والاستكشاف، والتاريخ، حيث بدأ العرض بسعر تقديري بين 4 و6 ملايين دولار، لكنه سرعان ما حقق 30.5 مليون دولار بعد خمس عشرة مرة نداء لرفع السعر. واستمرت المزايدة- التي أجريت في يوليو 2024- لمدة 6 دقائق فقط، تجمع فيها مزايدون في القاعة، وعبر الإنترنت، والهاتف، ليتحول الهيكل من مجرد سلعة للعرض إلى أغلى هيكل ديناصور أثري يُباع علنًا، خلفًا ل«Apex»، و«Stan». يذكر أن «أبيكس»، هو هيكل «ستيجوصور»، شبه مكتمل، بيع- أيضًا- في مزاد «سوذبيز» عام 2024، مسجلًا رقمًا قياسيًا بلغ 44.6 مليون دولار؛ كما أثار جدلًا واسعًا بين علماء الحفريات والمهتمين بالتراث العلمي، نظرًا لأن ارتفاع الأسعار بهذا الشكل يفتح المجال أمام بيع المزيد من المقتنيات العلمية التى يفترض أن يتم استغلالها فى البحث العلمى وليس فى البيع لكسب الملايين. البيع أثار جدلًا واسعًا وانتقادات لاذعة من العلماء والمهتمين بالحفريات والمتاحف، حيث اعتبر هؤلاء أن بيع هياكل الديناصورات فى المزادات يسلب المجتمع فرصة دراستها ضمن أُطر علمية مفتوحة للجمهور. ويرى المنتقدون أن «السيراتوصور» من الأنواع النادرة ووجوده فى مزاد تجارى يعد خسارة كبيرة للبحث العلمى إذ يرون أن الأنسب عرضه فى متحف وليس فى قاعة مزادات. أما «ستان» فهو الهيكل الشهير لديناصور «تيرانوصور ريكس» الذي بيع في مزاد «كريستيز» عام 2020 مقابل 31.8 مليون دولار. العامل الجوهري هنا، هو أن هيكل «سيراتوصور»، الذي يمثل مصدرًا علميًا نادرًا، لم يخضع لمراجعة علمية أو نشر بحثي، بل رحل سريعًا من المتحف صوب قبو أحد المقتنين، ما أثار مخاوف وانزعاج لدى علماء الحفريات، الذين يؤيدون فكرة الحفاظ على المعرفة، بدلا من تجارة ما وصفوه ب«الغنائم المتحجرة». من الأرض إلى الفضاء وننتقل من مقتنيات تعود بنا إلى أعماق التاريخ إلى مقتنيات تأخذنا معها إلى أعالى السماء أو ببساطة إلى الفضاء، اكتُشف واحد من أكثر أنواع الصخور إثارة للدهشة، وهو نيزك (NWA 16788)، الذي يعد الأكبر حجمًا بين نيازك المريخ المكتشفة على الأرض، حيث يزن أكثر من 24 كيلوجرامًا، بينما يصل طوله لنحو 38 سنتيمتر. يرجع أصل هذا النيزك إلى اصطدام كويكب على سطح المريخ، مما أطلق هذه الشظية عبر الفضاء لمسافة تجاوزت 140 مليون ميل، حتى سقطت في نوفمبر 2023 بصحراء «النيجر» وصادفها ما يعرف ب«صياد نيازك»، وهو شخص يكرس وقته وجهوده للبحث عن النيازك وجمعها، سواء لأغراض علمية، أو تعليمية، أو تجارية. بدورها، أوضحت «دار سوذبيز» أن النيزك صُنف ضمن مجموعة «Olivine‐Gabbroic Shergottite»، التى تتضمن مادة تسمى «أوليفين» في تركيبته، وهو معدن يظهر- أيضًا- في طبقات الأرض العلوية، ما يجعل هذه القطعة ثرية علميًا، وقادرة على إعطاء العلماء نظرة على العمليات البركانية قبل ملايين السنين على كوكبنا المجاور. ومع ذلك، انتهت القصة إلى شراء هذه القطعة التي تمثل جسرًا علمياً بين الأرض، والكوكب الأحمر، مقابل 5.3 مليون دولار في يوليو 2024، ليس من قبل مؤسسة علمية أو متحف، بل يُعتقد أنه من جهة خاصة. من جانبها، وصفت نائبة رئيس قسم العلوم والتاريخ الطبيعي في «سوذبيز»، «كاساندرا هاتون»، هذه القطعة بأنها (معجزة علمية)، لكنها أشارت- أيضًا- إلى أن بيعها عبارة عن توفيق معتاد بين الحظ والمال؛ وهو ما أثار تساؤلات حول سحب مصدر معلومات علمية من متناول العلماء، واستغلاله فى اطار عملية تجارة بالعناصر الكونية. ساعة «صاحب الزعامة» إن تلك القطعة المثيرة التي باعها مزاد «سوذبيز» في ديسمبر 2024 جاءت من عالم آخر تمامًا، من قلب التاريخ السياسي والتراث الشخصي، وهي ساعة الزعيم الراحل «جمال عبد الناصر»، التي تعرف ب«ساعة الرئيس» التي صُنعت عام 1963، وكانت هدية مخصصة من خلفه الرئيس الراحل «أنور السادات». وكتب في ظهر الساعة «السيد أنور السادات 26‐9‐1963» في تجسيد للقيادة والهيبة، ما يجعل هذه الهدية أكثر من مجرد ساعة، بل وثيقة تروى قصة صداقتهما في هذه القطعة الذهبية الصغيرة، والعلاقات السياسية في فترة حاسمة من التاريخ العربي الحديث. قُدرت قيمة الساعة بين 30 و60 ألف دولار، رغم أنها تحمل رمزية تاريخية نادرة، وربما تمثل أول أثر شخصي لزعيم مثل «عبدالناصر» يعرض للعامة.. هذا السلوك أثار نقاشاً حول ما إذا كان بيع قطعة مثل هذه ذات قيمة عاطفية وتاريخية أمراً مقبولًا. ملابس بونابرت نفس صالة المزادات الراقية عرضت مجموعة «نابليون بونابرت» التي يملكها التاجر الفرنسي «بيير جان شالينسون» في يونيو الماضي، التى بيعت في فرع الدار ب«باريس» مقابل 9.6 مليون دولار. وتشمل المجموعة الاستثنائية التى تم جمعها على مدى أكثر من 40 عامًا مقتنيات من سنوات «بونابرت» الأولى ومسيرته العسكرية، وحياته الخاصة، وغيرها. كما تضمنت القطع ال112 المعروضة في المزاد مجموعة متنوعة، بداية من الأثاث، ولوحات الفنانين القدامى، مرورا بالأواني الفضية، والخزف، وصولا إلى الجوارب والسراويل الداخلية!! المثير للدهشة أن ملابس «بونابرت» الشخصية كلفت عشرات الآلاف من الدولارات! وتكونت ملابس بونابرت من كل من: قميص طويل، يُلبس من الرأس مطرز بحرف «N» مع تاج من خيوط الحرير الأحمر، وسروال داخلي وحزام مع شريط مطرز على الظهر بحرف «N» بخيط حريري أحمر؛ بالاضافة إلى جوارب مطرزة بحرف «N» يعلوها التاج الإمبراطوري، وربطة عنق حريرية بيضاء. وكان من بين الملابس المعروضة قبعته الثنائية الشهيرة «Bicorne Hat» والذى اعتاد «نابليون» ارتداءها بأسلوبه الشهير «en batille» أى على الجانب. وعلى الرغم من كونها مجموعة من الملابس والأثاث فإنها تعود إلى قائد عسكرى واسم يذكره التاريخ يجعلها جزءًا من التاريخ بشكل مباشر سواء تاريخ «فرنسا» أو العالم وبالتالى فإن عرضها للبيع والاقتناء الشخصى أمر غريب ويمثل خسارة للمهتمين بالتاريخ. وفي النهاية.. إن ما يحدث في «سوذبيز» أكثر من مجرد مزاد، لأنه يحوّل العلم، والتاريخ، إلى لعبة سوقية، تُمثل فيها الرمزية والندرة أداتين لرفع القيمة التجارية فوق أي واقع بحثي أو تعليمي، ما يطرح تساؤلات مهمة، على رأسها: هل سيظل العلم متاحًا للجميع، أم سيظل محصورًا بين أيدي الأثرياء والمقتنين؟!. 2 3 4