فى إقليم تتصارع فيه المشاريع وتتشابك فيه الأدوار، وتغيب عنه مرجعية الاستقرار، تبدو الحاجة إلى إعادة هندسة العلاقات الإقليمية ضرورة لا ترفًا، خاصة بين القوى الكبرى ذات التأثير المحورى. وفى قلب هذا المشهد المضطرب، يأتى الحوار مع السفير خالد عمارة، أحد أبرز الدبلوماسيين المصريين الذين عايشوا تعقيدات المشهد الإيرانى من الداخل، خلال توليه رئاسة بعثة رعاية المصالح المصرية بطهران، ليضعنا أمام قراءة عميقة للمتغيرات الراهنة، وتحليل استباقى للتقارب بين القاهرةوطهران.
فى هذا الحوار، لا يكتفى السفير عمارة بتوصيف اللحظة، بل يرسم ملامح المرحلة المقبلة، مؤكدًا أن ما يجرى فى المنطقة محاولة لإعادة إنتاج «الشرق الأوسط الجديد» بأدوات أكثر فجاجة ووقائع أشد فتكًا، وكان لزامًا على الدول الاقليمية الكبرى الوقوف أمام هذا المخطط الهدام والتصدى له. كيف ترون المشهد الإقليمى الراهن فى ظل التداخل المتزايد بين الأدوار المصرية والإيرانية؟ - المشهد الإقليمى اليوم غارق فى التشابك والتعقيد، لا سيما منذ اندلاع الحرب الدموية فى غزة، التى بدت وكأنها الشرارة التى كشفت هشاشة البنية الإقليمية بأكملها. فثمة محاولات ممنهجة لتقويض سيادة دول المنطقة وتفكيك مقدراتها، فى ظل صمت دولى يرقى إلى حد التواطؤ. من فلسطين إلى لبنانوسوريا، ومن اليمن إلى البحر الأحمر، نشهد حربًا مفتوحة بالوكالة تعيد تشكيل خريطة النفوذ فى الإقليم. فى المقابل، يلوح فى الأفق اتجاه واضح لبعض القوى الإقليمية الرئيسية – مصر والرياض وتركيا وإيران – لملء الفراغات الناجمة عن تآكل بعض الدول العربية المركزية، مثل سوريا، التى عانت حروبًا أهلية ومشروعات تفتيت ممنهجة. فى هذا السياق، يصبح الحوار والتعاون بين هذه القوى الكبرى مسألة وجودية، لا مجرد رفاهية دبلوماسية، لأنه دون تنسيق إقليمى فعال، ستظل المنطقة رهينة الاضطراب والانكشاف. هل يُمكن الحديث اليوم عن نقاط التقاء مصرية – إيرانية رغم عقود من التباعد؟ - قنوات الحوار لم تكن مغلقة بالكامل، بل كانت دائمًا هناك مسارات خلفية مفتوحة بدرجات متفاوتة. نحن اليوم أمام لحظة نضج سياسى إقليمى، تتقاطع فيها المصالح الموضوعية بين القاهرةوطهران، كما حصل مع أنقرة مؤخرًا. هناك إدراك متبادل بأن الصدام لم يعد مجديًا، وأن الحوار وحده هو الطريق لصياغة معادلة توازن جديدة تحفظ استقرار الإقليم. إلى أى مدى تغيرت الرؤية الإيرانية لمصر؟ وهل تنظر طهران الآن إلى القاهرة كفاعل مستقل؟ - طهران كانت – ولا تزال – تدرك أن مصر ليست دولة عادية فى الإقليم وفى العالم، بل قوة محورية لها تأثير يتجاوز حدودها الجغرافية. هذه النظرة لم تتغير، بل ربما تعززت فى السنوات الأخيرة مع تراجع بعض الأوزان التقليدية فى المنطقة. إيران تعرف جيدًا أن القاهرة قادرة على صياغة التوازنات، وأن أى استقرار دائم فى الشرق الأوسط لا يمكن أن يتحقق دونها. ما فرص التعاون الفعلى بين القاهرةوطهران فى ملفات مثل فلسطينوسوريا واليمن؟ - الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الإيرانى إلى القاهرة كانت بمثابة مؤشر قوى على تحول نوعى فى العلاقات، خصوصًا فيما يتعلق بمشروع منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، وهو ما التقت فيه الرؤية الإيرانية مع المبادرة المصرية. كذلك هناك اهتمام مشترك بضمان أمن البحر الأحمر، لا سيما بعد تصاعد الهجمات الحوثية التى طالت مصالح غير إسرائيلية وهددت سلامة الملاحة العالمية. أما فى سوريا، فهناك تفهم متزايد لدى إيران بأن الحروب بالوكالة لم تعد تحقق مكاسب استراتيجية، وأن المقاربة المصرية القائمة على دعم مؤسسات الدولة الوطنية باتت أكثر واقعية وفاعلية. هل يؤثر هذا التقارب على مشروعات كبرى كالممر الهندى – الأوروبى؟ - هذا الممر الذى تم الترويج له كمشروع بديل لقناة السويس ومنافس لمبادرة الحزام والطريق الصينية، فقد زخمه فى ظل الفوضى الإقليمية، خاصة أن جزءًا منه يعتمد على استقرار إسرائيل، التى باتت اليوم فى حالة انهيار سياسى وأمنى. التقارب الإقليمى، خصوصًا بين مصر وإيران، يعيد ترتيب الأوراق فى البحر الأحمر، ويدفن فعليًا أحلام هذا المشروع. ما أبرز القضايا التى قد تتأثر إيجابًا بالتقارب بين القاهرةوطهران؟ القضية الفلسطينية تأتى فى طليعة الملفات التى قد تستفيد من هذا التقارب. إذ إن توافقًا عربيًا – إسلاميًا واسعًا سيسهم فى خلق زخم دولى جديد، خصوصًا مع القمة المرتقبة التى تعتزم فرنسا والسعودية استضافتها فى الأممالمتحدة لطرح الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وفى لبنان، يمكن أن تلعب طهران دورًا محوريًا فى دعم مشروعات إعادة الإعمار بعد انفراجة الاستحقاق الرئاسى، وهى مساحة تتقاطع فيها المصالح المصرية والإيرانية بشكل واضح. أما فى سوريا والعراق، فبدون تفاهم مع طهران، سيكون من الصعب إدارة مشاريع استقرار أو إعادة بناء حقيقية. إلى أى حد يمكن أن تسهم طهران فى مشاريع الإعمار الإقليمى؟ - إيران تمتلك قدرات اقتصادية وصناعية ضخمة، لا سيما فى مجالات الحديد وصناعة السيارات والمواد الخام والطاقة. إذا ما رُفعت العقوبات الغربية، فإن طهران ستكون شريكًا فاعلًا فى مشروعات التنمية والإعمار، خصوصًا فى الدول التى عانت من حروب وتفكك. الأمر يتطلب فقط كسر الجليد السياسى، وإعادة فتح قنوات الشراكة الاقتصادية. هل ثمة ضغوط أمريكية لإعاقة التقارب العربى الإيرانى؟ - الولاياتالمتحدة نفسها تعيش حالة من إعادة التموضع. فقد خاضت حروبًا بالوكالة مع إيران فى ساحات متعددة، لكنها اليوم تفتح قنوات خلفية للحوار معها. واشنطن لم تعد تمانع شكلًا من أشكال التفاهم الإقليمى، خصوصًا فى ظل إدراكها لتكاليف البقاء العسكرى فى الشرق الأوسط. وبالتالى، لا أرى أن ثمة ممانعة مطلقة، بل هناك مرونة محسوبة وفق ما يخدم المصالح الأمريكية. باعتباركم رئيسًا سابقًا لبعثة مصر فى طهران، كيف ترون المزاج السياسى الإيرانى تجاه القاهرة؟ - خلال سنوات عملى الأربع فى إيران، لاحظت احترامًا بالغًا لمصر، سواء على المستوى الشعبى أو السياسى. الإيرانيون يرون فى القاهرة مرجعية حضارية وثقافية، ويتمنون انفتاحًا أكبر، خاصة فى مجالات السياحة والتبادل الثقافى. وهذا المزاج العام يهيئ الأرضية لتطبيع تدريجى للعلاقات إذا ما توافرت الإرادة السياسية. هل نحن أمام مسار تطبيع كامل للعلاقات أم أن التعقيدات الإقليمية ستظل تحكم الإيقاع؟ - أتوقع أن يكون المسار المصرى – الإيرانى شبيهًا بالمسار المصرى – التركى، تفاهمات سياسية مرحلية تتجاوز الخلافات القديمة، يقودها إدراك مشترك بضرورة بناء شراكات إقليمية جديدة، تضع الاستقرار فوق الحسابات الأيديولوجية. المنطقة بحاجة إلى عقلاء يعيدون ترتيب الأولويات، ومصر وإيران معًا يمكن أن يلعبا هذا الدور.