فى قلب ولايةٍ لطالما عُرفت بأنها الوجه الليبرالى النابض للولايات المتحدة، نزلت قوات المارينز إلى شوارع لوس أنجلوس، لا لمواجهة خطر خارجى؛ بل لمواجهة متظاهرين أمريكيين يطالبون بالحريات والعدالة.. كاليفورنيا، التى تُعد رابع أكبر اقتصاد فى العالم إذا قورنت بدول مستقلة والتى تُغذى الخزانة الفيدرالية بأكثر مما تأخذ، وجدت نفسها فجأة فى مواجهة مع الدولة التى لطالما كانت فى طليعة بنائها. إنها الولاية التى لطالما لُقبت ب«جمهورية داخل الجمهورية»، والتى سبق أن طُرحت فيها مبادرات انفصال من قبل سياسيين ومفكرين حذروا من تغول السلطة الفيدرالية على إرادة الشعب، واليوم تجتاح عربات المارينز شوارع لوس أنجلوس، مصحوبة بصفارات الإنذار وحواجز الأسلاك الشائكة، لم تعد المدينة نفسها. لم يعد بوسع أحد أن يفرّق بين لقطات الواقع وبث مباشر من أرض نزاع، وكأن المدينة التى لطالما كانت رمزًا للحلم الأمريكى، أفاقت فجأة على كابوس يعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، ويختبر صلابة الديمقراطية حين تهتز أمام أول اختبار داخلى حقيقى. احتراق الشارع قرار الرئيس دونالد ترامب بإنزال وحدات من مشاة البحرية (المارينز) إلى شوارع لوس أنجلوس، لم يُقرأ محليًا كمجرد خطوة أمنية؛ بل كمحاولة لإخضاع ولاية «عصية»، لطالما شكلت مصدر إزعاج سياسيًا وإعلاميًا لواشنطن. فالاحتجاجات التى اندلعت بدايةً ضد عمليات الترحيل القسرى التى نفذتها سلطات الهجرة، اتسعت سريعًا لتشمل قضايا العدالة الاجتماعية، ورفض عسكرة الحياة المدنية، والاعتراض على ما وصفه المحتجون ب«تغول الفيدرالية على صلاحيات الولاية». الخطوة لم تكن بالتنسيق مع حاكم الولاية جافين نيوسوم، بل جاءت بقرار تنفيذى فردى من البيت الأبيض، فى تحدٍ غير مسبوق للمبدأ الفيدرالى الذى يفترض أنه حجر الزاوية فى الدستور الأمريكى. «نقطة اللاعودة» لم يكن قرار الرئيس دونالد ترامب بإرسال قوات المارينز إلى لوس أنجلوس خطوة عابرة، بل كان صريحًا فى مواجهة متصاعدة مع سلطات الولايات، ورسالة قاطعة بأن السلطة الفيدرالية لم تعد تقبل الشكوى أو التفاوض. الخطاب الرسمى غلَّف التدخل العسكرى بعنوان «حماية الأمن والنظام»، لكن خلف هذا العنوان يتوارى سؤال أعمق: من يحمى من؟ ولماذا توجه الرئيس الأمريكى إلى التصعيد المباشر إلى هذا الحد رغم محاولات عدة من قبل حاكم المدينة لوقف تدخل القوات العسكرية وأنه يؤدى إلى زيادة الاحتقان لا حل الأزمة؟ الاحتجاجات التى بدأت سلمية على خلفية مداهمات إدارة الهجرة ICE لم تلبث أن تحولت إلى حراك واسع يطالب بإسقاط أوامر ترامب التنفيذية، الراعية لسياسات فصل العائلات وترحيل اللاجئين من دون محاكمة، وسط اتهامات باستخدام أدوات الدولة القمعية لتصفية الحسابات السياسية مع الخصوم الديمقراطيين. بحسب دراسة تحليلية صادرة عن «مركز الأمن الأمريكى الجديد» (CNAS)، فإن «إقحام قوات عسكرية نخبوية فى الحياة المدنية، خارج إطار القانون المحلى، يمثل خطرًا بنيويًا على توازن السلطة فى البلاد». ويرى الدكتور «مايكل هادسون»، أستاذ الدراسات الأمنية فى جامعة جورجتاون، أن «المارينز فى لوس أنجلوس ليسوا أداة أمن، بل رسالة سياسية مشفرة: إما الطاعة، أو الدبابة». وحذر من أن استمرار هذا النهج «قد يدفع ولايات أخرى إلى التفكير بخيارات كانت تعتبر سابقًا خيالية، ومنها فكرة فك الارتباط السياسى أو حتى الطرح الرمزى للانفصال». وبحسب تحليل «مركز الأمن الأمريكى الجديد» CNAS، يعد إنزال وحدات من مشاة البحرية (المارينز) فى قلب مدينة أمريكية كبرى خطوة لم تحدث منذ انتفاضات 1992، لكنها هذه المرة تأتى فى ظرف سياسى أكثر احتقانًا، وفى ظل رئيس يسعى للعودة إلى الواجهة الانتخابية بقوة، ولو على حساب الاستقرار الداخلى. الدكتور «مايكل هادسون»، أستاذ الدراسات الأمنية فى جامعة جورجتاون، يرى أن «ما يجرى فى لوس أنجلوس يتجاوز مجرد قرار أمنى، إنه إعلان ضمنى بانتهاء المرحلة المدنية من الحكم، وبدء استخدام أدوات القوة الخشنة لتثبيت الرؤية السياسية لرئيس يرفض أن يُعارَض». وأضاف: إن إرسال المارينز، دون تنسيق مع الحاكم، ليس فقط تجاوزًا قانونيًا بل تهديد هيكلى لفكرة الفيدرالية الأمريكية ذاتها. نيران تتسع امتدت شرارة الاحتجاجات إلى أكثر من 12 ولاية، بينها نيويورك، إلينوى، واشنطن، وتكساس، سياتل، فينيكس، وأوستن حيث شهدت مدن كبرى مثل أوستن وشيكاغو مسيرات متزامنة رُفعت خلالها شعارات: «لسنا وحدنا، لوس أنجلوس فى القلب»، و«لن تُخيفنا الدبابات». حركة «50501» التى أعلنت عن نفسها الأحد الماضى، عبر بيان موحد على وسائل التواصل، أكدت أن ما يجرى «انتهاك صريح للعقد الاجتماعى الأمريكي»، داعية إلى «أسبوع العصيان الوطني»، تبدأ فيه مظاهرات يومية أمام مبانى الحكومات المحلية ومراكز ICE. ورغم حظر التجول الذى فُرض فى عدة ولايات، خرج آلاف المتظاهرين متحدين الشرطة، فيما وثقت منظمات حقوقية اعتقال أكثر من 1100 شخص خلال 72 ساعة فقط، بينهم نشطاء وصحفيون. نيوسوم وترامب جافين نيوسوم، حاكم كاليفورنيا، وصف ما يجرى بأنه «غزو سياسى مغطى بلباس عسكري»، وتقدم بدعوى أمام المحكمة العليا يطعن فيها فى دستورية تدخل المارينز دون طلب من الولاية. وقال فى مؤتمر صحفى غاضب: «كاليفورنيا ليست مستعمرة. نحن ندير أنفسنا ولا نتلقى أوامر من واشنطن بالقوة». ووصف نيوسوم التدخل العسكرى بأنه «انقلاب على القانون والدستور»، وتقدم بدعوى قضائية أمام المحكمة الفيدرالية العليا للطعن فى دستورية استخدام القوات المسلحة دون طلب رسمى من الولاية. ترامب، من جانبه، صعّد من لهجته ووصف المتظاهرين ب «عناصر فوضوية يسارية»، متوعدًا بمزيد من الإجراءات «لإعادة القانون بأى ثمن»، ومشيرًا إلى إمكانية تفعيل «قانون التمرد» الذى يتيح له نشر الجيش فى الداخل الأمريكى. تحذيرات متعددة صدرت من مؤسسات بحثية، أبرزها «مؤسسة كارنيجى للسلام»، من أن تفعيل هذا القانون سيخلق أزمة دستورية شاملة، تضعف من مكانة الجيش وتخلخل عقد الثقة بين المواطن والدولة. كما يحذر مراقبون من أن لجوء الرئيس لهذا القانون، الذى يسمح باستخدام الجيش فى مواجهة اضطرابات داخلية، سيضع أمريكا على أعتاب أزمة دستورية مفتوحة، لا تقل خطورة عن أزمة الستينيات. المؤسسة العسكرية تشير تقارير استخباراتية سربتها صحيفة واشنطن بوست إلى أن مسئولى البنتاغون يشعرون بالقلق من استمرار هذا الانتشار العسكرى، ليس فقط لأنه يستهلك موارد لوجستية هائلة؛ بل لأنه يضع المؤسسة العسكرية فى موقع غير مريح سياسيًا، بين الولاء للدستور والانصياع للقيادة السياسية. الكاتبة والمحللة السياسية جوانا جولدبرج كتبت فى نيويوركر: «هذه ليست مجرد لحظة سياسية، إنها مرآة لكيفية تغيّر أمريكا من الداخل، وكيف أن القوة لم تعد وسيلة للدفاع عن القانون، بل أداة لفرض الصمت». جمهورية على المحك الاحتجاجات ليست مجرد رد فعل على قرار إدارى؛ بل لحظة كاشفة لوضع هش يتسلل إلى أعماق الكيان الأمريكى. حين تُطلق صفارات المارينز فى شوارع مدينة تحمل فى ذاكرتها نيران رودنى كينغ واحتجاجات 2020، فإننا أمام لحظة تُعيد تعريف الدولة لا المواطن فقط. هل ما نراه هو ميلاد نظام أكثر صلابة.. أم احتضار لنموذج ديمقراطى شاخ فى وجه نفسه؟ ذلك ما ستجيب عنه الأيام القادمة، لا الأحكام القضائية ولا التصريحات السياسية. وفى لحظة استثنائية، وقف السيناتور المخضرم بيرنى ساندرز مخاطبًا مجلس الشيوخ قائلًا: «ما نراه ليس تصدعًا فى النظام، بل كشف لحقيقته حين يُنتزع القناع.. لقد حان الوقت لاختيار أى جمهورية نريد، لا أى رئيس نطيعه». 6