تعيش ليبيا فى مايو 2025 واحدة من أكثر لحظاتها اضطرابًا منذ سنوات، تعيد المشهد الداخلى للمربع صفر . بعد عودة الاشتباكات المسلحة إلى قلب العاصمة طرابلس، كاشفةً عن هشاشة الوضع الأمنى واستمرار الانقسام السياسى العميق. وعلى مدار الأسابيع الأخيرة، طغت على المشهد الليبى حالة من التوتر السياسى المتصاعد، وانسداد فى الأفق بشأن التوافق على قاعدة دستورية تمهد لإجراء الانتخابات، وسط تحركات إقليمية حذرة ومواقف دولية تترنح بين دعم مسار الحل السياسى وتجاهل الأزمة الليبية لصالح أولويات أخرى.. وبين تعقيدات الداخل الليبى وانعكاسات التجاذبات الإقليمية، يبدو أن البلاد تقف على مفترق طرق جديد قد يعيدها إلى دائرة الصراع، أو يضعها، بشق الأنفس، على سكة التهدئة المشروطة. انفجار العنف فى طرابلس فى 12 مايو، اندلعت مواجهات عنيفة فى طرابلس عقب مقتل عبدالغنى الككلي، المعروف ب«غنيوة»، قائد جهاز دعم الاستقرار، على يد فصائل مسلحة منافسة. هذه الأحداث أدت إلى اشتباكات بين «قوة الردع الخاصة» و«اللواء 444»، المدعوم من حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة. ورغم إعلان وقف إطلاق النار فى 14 مايو، فإن القلق لا يزال يخيم على العاصمة، حيث أُجبر السكان على الاحتماء داخل منازلهم وسط تبادل كثيف للنيران، ووسط كل هذه التوترات انفجرت تظاهرات فى أنحاء العاصمة الليبية مطالبة برحيل حكومة الدبيبة بعد تصاعد الأزمة بين الأطراف المتنازعة. الدبيبة: تفكيك الميليشيات «مشروع مستمر» فى خطاب متلفز، وصف رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، تفكيك الميليشيات بأنه «مشروع مستمر»، مؤكدًا عزمه على إنهاء ظاهرة الجماعات المسلحة غير النظامية. كما أعلن عن إرسال قوات أمنية محايدة لحماية المواقع الحساسة فى العاصمة. ورغم هذه التصريحات، فإن الشارع الليبى لا يزال يشكك فى قدرة الحكومة على فرض سيطرتها، خاصةً مع استمرار الانقسامات الداخلية. الانقسام السياسى والأزمة الاقتصادية فى هذه الأثناء صدر تقرير عن مركز أنباء الأممالمتحدة حذر من تداعيات الانقسام الحكومى الحاد فى ليبيا على الاستقرار الاقتصادى والاجتماعي، رغم امتلاك البلاد موارد طبيعية هائلة. وأشار التقرير إلى أن التعطيل المستمر للعملية السياسية يزيد من مخاطر انهيار المنظومة الاقتصادية، مع تدهور الخدمات الأساسية وارتفاع معدلات الفقر. وفى ظل تصاعد التوترات، دعت مصر جميع الأطراف الليبية إلى ضبط النفس وتغليب المصلحة الوطنية، مؤكدةً على أهمية الحوار السياسى كوسيلة لحل النزاعات. كما أعربت عن قلقها من تداعيات العنف على استقرار ليبيا والمنطقة بأسرها. كما أعربت بعثة الأممالمتحدة للدعم فى ليبيا عن قلقها العميق إزاء تصاعد العنف فى طرابلس، داعيةً جميع الأطراف إلى الالتزام بوقف إطلاق النار وحماية المدنيين. كما شددت على ضرورة العودة إلى المسار السياسى كسبيل لتحقيق الاستقرار الدائم. المستقبل الغامض: هل من أمل فى الأفق؟ فى ظل استمرار الانقسامات السياسية وتفشى الميليشيات المسلحة، يظل مستقبل ليبيا غامضًا. ويرى محللون أن الحل يكمن فى إعادة بناء المؤسسات الوطنية وتوحيد القوى الأمنية تحت سلطة الدولة، بالإضافة إلى إجراء انتخابات حرة ونزيهة تضمن تمثيل جميع الليبيين. وفى هذا السياق، يؤكد الدكتور سامى الصيد الرخصي، رئيس حزب المستقلين الديمقراطى فى حديث صحفى، أن «المشهد الليبى الحالى فى حالة انسداد سياسى وأزمة شاملة تشمل كافة المجالات»، مشددًا على ضرورة إعادة هيكلة السلطة التنفيذية وتوحيد المؤسسات الأمنية والعسكرية. الأزمة الليبية فى سياق إقليمى متغير من جهة أخرى، أوضح مراقبون أن ما يجرى فى ليبيا اليوم لا يمكن فصله عن التحولات الإقليمية والدولية المتسارعة، التى جعلت من الملف الليبى ساحة تجاذب تتقاطع فيها المصالح الأمنية والاقتصادية والاستراتيجية. فمع تراجع الاهتمام الدولى نسبيًا بالصراع الليبى لصالح أزمات أخرى أكثر إلحاحًا كأوكرانيا وغزة، تركت الساحة الليبية إلى حد كبير رهينة للفاعلين المحليين والإقليميين، ممن يمتلكون النفوذ على الأرض من خلال شبكات تمويل وتسليح وارتباطات سياسية مع قوى داخلية. الدكتور عبد الرحمن العيساوي، أستاذ العلوم السياسية فى جامعة طرابلس، يرى أن الأزمة الليبية تمرّ حاليًا بمرحلة «جمود خطير»، حيث لا تقدم سياسى يُذكر، ولا قدرة لدى البعثة الأممية على كسر حالة الانقسام المؤسساتى. ويضيف فى تصريح صحفى أن «الفاعلين السياسيين لم يعودوا معنيين فعليًا بالوصول إلى تسوية، بل باتوا يعيدون تدوير سلطتهم من خلال خلق أزمات متعاقبة تضمن استمرار نفوذهم». ويشير العيساوى إلى أن «المشهد الليبى يعانى من ضعف الإرادة الوطنية، وتدخلات أجنبية غير متوازنة، وخطاب سياسى مفكك لا يعكس تطلعات الشعب». على الصعيد العربي، بادرت مصر بإعلان موقفها الداعم للاستقرار فى ليبيا، ورغم تعقيدات الداخل المستمرة والمحاولات السابقة لإرساء الاستقرار وجمع الفرقاء فى ليبيا ،فإن القاهرة لا تزال تراهن على تسوية سياسية تُعيد التوازن بين طرابلس وبنغازى. وفى الجوار المغاربي، كانت الجزائر حاضرة على المشهد الاقليمى أيضًا حيث بدت أكثر انكفاءً فى الملف الليبى مقارنةً بسابق عهدها، ربما لدعم استقرار أمنها الداخلى أيضًا ولدعم مسيرات الأمن فى الجوار الليبى. دوليًا، يظل الغياب الأمريكى الواضح، والتنافس الأوروبى المتردد، سببًا فى استمرار حالة «اللاقرار»، خصوصًا مع انشغال الاتحاد الأوروبى بقضايا الهجرة والطاقة، وعودة روسيا لتثبيت حضورها جنوب المتوسط، بما فى ذلك من خلال مجموعات أمنية تعمل فى مناطق نفوذ الجيش الوطنى بقيادة خليفة حفتر. الخطر الأكبر، بحسب محللين، يكمن فى أن استمرار الفراغ الأمنى والسياسى يمهد لتكرار سيناريو الفوضى، ويزيد من احتمالات تمدد التنظيمات المتطرفة والجريمة العابرة للحدود. كما أن الانقسام المؤسسى بين حكومتى الشرق والغرب يعطل أى جهد لبناء قاعدة دستورية تفضى إلى انتخابات حقيقية، مما يخلق دورة مفرغة من الانسداد والتوتر والتفكك. وما لم ينجح الداخل الليبي، بدعم إقليمى ضامن، فى بلورة مشروع وطنى جامع، فإن الأزمة مرشحة لمزيد من التعقيد، فى ظل صعود الجماعات المسلحة بصورة مقلقة، وغياب سلطة مركزية قادرة على احتكار العنف المشروع وإدارة ثروات البلاد لصالح عموم الليبيين. ختامًا، تبقى ليبيا أمام مفترق طرق حاسم: إما المضى قدمًا نحو بناء دولة موحدة ومستقرة، أو الاستمرار فى دوامة العنف والانقسام التى تهدد مستقبلها. 1