فى زيارةٍ حملت ملامح رجل الأعمال أكثر من رئيس الدولة، وطأت قَدَما دونالد ترامب مجددًا أرض الخليج، لا ليجدّد التحالفات العسكرية أو يلقى الخطب الأيديولوجية؛ بل ليعرض صفقات تقاس بالمليارات، ويفتح الباب أمام ما سماه مراقبون «اقتصاد الهيمنة الناعمة». وبين الاستثمارات الخليجية الضخمة فى الداخل الأمريكى، وضغوط واشنطن لتعديل موازين إنتاج الطاقة، ظهر جليًا تساؤل واضح هل يحاول ترامب تعديل السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط بعيدًا عن الحروب ووفق تفاهمات وصدقات اقتصادية قوية؟ منذ لحظة وصوله، بدا واضحًا أن ترامب اختار الاقتصاد بوابة لإعادة ترميم حضور بلاده فى المنطقة. فى سلسلة لقاءات عقدها مع قادة السعودية، الإمارات، وقطر، حرص الرئيس الأمريكى على دفع ملفات الاستثمار والطاقة إلى طاولة التفاوض؛ متجاوزًا الملفات السياسية التقليدية. وبحسب مصادر دبلوماسية، قدّم ترامب عرضًا موسعًا يتمحور حول إنشاء «شراكة اقتصادية موسعة» مع دول الخليج، تتضمن إعفاءات ضريبية للشركات الخليجية الراغبة فى الاستثمار فى البنية التحتية الأمريكية، مقابل فتح مزيد من الفرص أمام شركات الطاقة الأمريكية فى الحقول النفطية الخليجية. لم يكن العرض الأمريكى تقليديًا؛ بل حمل فى طياته روح «عقيدة ترامب» التى ترى فى العلاقات الدولية منصة للربح والخسارة. لقد عرض ترامب على الحلفاء الخليجيين ما يشبه «صفقة كبرى»: المزيد من الحماية السياسية والدفاعية، مقابل المزيد من الأموال المستثمرة فى الاقتصاد الأمريكى الذى يعانى من ضغوط تضخم وتحديات مالية متصاعدة. هذه الشراكة، وفق ما جاء فى بيان البيت الأبيض المقتضب الذى تلاه المتحدث الرسمى فى مؤتمر صحفى بالرياض، تشمل إعفاءات ضريبية للشركات الخليجية الراغبة فى الاستثمار فى مشروعات داخلية أمريكية، مع منح شركات الطاقة الأمريكية مزايا تشغيلية فى الحقول الخليجية. الاستثمار فى «أمريكا الجديدة» وبحسب تقرير نشرته صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية؛ فإن ترامب عرض ما وصفه أحد المسئولين الخليجيين ب«الصفقة الكبرى»: حماية استراتيجية مقابل إنعاش الاقتصاد الأمريكى، وهو منطق يتماشى مع ما سمّاه «مركز بروكينجز» فى تحليل أخير «عودة الدبلوماسية التبادلية الأمريكية» اللافت فى الزيارة لم يكن فقط ما عرضه ترامب؛ بل ما أبداه رؤساء الدول الخليجية من استعداد للدخول فى تحالف اقتصادى متقدم مع واشنطن؛ حيث تم الإعلان عن حزمة استثمارات خليجية جديدة فى مشاريع البنية التحتية الأمريكية بقيمة تتجاوز 150 مليار دولار، تشمل قطاعات النقل الذكى، الطاقة النظيفة، والموانئ التجارية. كما أبدت صناديق الثروة السيادية فى السعودية والإمارات اهتمامًا بشراء حصص فى شركات التكنولوجيا والطاقة الأمريكية التى تضررت بفعل الركود. هذه الاستثمارات لا يمكن قراءتها بمعزل عن رهانات الدول الخليجية على استمرار علاقتها الاستراتيجية مع الولاياتالمتحدة؛ ولكن أيضًا باعتبارها تحوّطًا ذكيًا ضد التحولات الجيوسياسية فى آسيا وأوروبا؛ خصوصًا مع تراجع انخراط واشنطن العسكرى التقليدى فى المنطقة، باتت الاستثمارات أداة النفوذ الأنجع لضمان المصالح المشتركة. النفط... الورقة المقلقة ربما كان الحديث العلنى عن النفط محدودًا خلال الزيارة، إلا أن كواليس الاجتماعات كانت تعج بالحوارات المعقدة حول مستقبل سوق الطاقة. وتشير صحف أمريكية إلى أن ترامب طلب من دول الخليج زيادة الإنتاج النفطى لكبح جماح أسعار الطاقة التى تثقل كاهل المستهلك الأمريكى. لكنه فى الوقت ذاته، ألمح إلى أن الحفاظ على الأسعار ضمن نطاق معقول يخدم مصلحة المنتجين على المدى الطويل. المعادلة كانت دقيقة: واشنطن بحاجة إلى نفط أرخص لإنعاش اقتصادها، والخليج بحاجة إلى أسعار مستقرة لضمان استمرار تدفق العوائد. فى هذا السياق، تجنب الطرفان الحديث عن «حرب أسعار» جديدة، مفضلين التوافق على آليات تنسيقية غير رسمية بين واشنطن و«أوبك+». لكن الأهم من ذلك، هو أن ترامب طالب بزيادة الاستثمار الخليجى فى مشاريع الطاقة الأمريكية غير التقليدية، بما فى ذلك الغاز الطبيعى ومشاريع الهيدروجين. فى المقابل، عرضت واشنطن تقديم دعم تكنولوجى متقدم لتطوير البنية التحتية للطاقة فى الخليج، فى إطار توازن المصالح المعقّد، وفق ما نقلته صحيفة «فورين بولسى». من جهة أخرى أوضح توماس كولمان، الخبير فى سياسات الطاقة بمركز CSIS فى واشنطن: أن «ترامب يسعى إلى زيادة نسبة ضخ النفط فى الأسواق العالمية، لكنه لا يملك خطة طويلة المدى لتقلبات السوق. هذه سياسة نفطية قصيرة النظر تراهن على تقلب المزاج الاقتصادى الأمريكى». مكاسب الفيدرالى الأمريكى أحد أبرز الأبعاد التى ناقشها الخبراء عقب زيارة ترامب الخارجية، تمثل فى تدفق السيولة الخليجية نحو الأسواق الأمريكية، إذ أعلنت صناديق استثمار سيادية من السعودية والإمارات عن نوايا بضخ أكثر من 300 مليار دولار فى مشاريع أمريكية خلال السنوات الخمس المقبلة، تتوزع بين سندات خزانة واستثمارات فى البنية التحتية والتكنولوجيا، بحسب تقرير نشرته «بلومبرج». ويرى محللون أن هذه التدفقات قد تُخفف من الضغوط التى تواجهها وزارة الخزانة الأمريكية لتمويل العجز المتزايد، ما يمنح الاحتياطى الفيدرالى هامشًا من المناورة للإبقاء على أسعار الفائدة المرتفعة، دون أن ينهار الطلب على أدوات الدين الأمريكية. وفى هذا السياق، يقول مارك زاندى، كبير الاقتصاديين فى «Moody's Analytics»، إن «الأموال الخليجية تُسهم فى استقرار سوق السندات، وتوفر مظلة مؤقتة للفيدرالى لمتابعة سياساته التشددية من دون تقلبات حادة فى العوائد». تأثيرات مباشرة على الأسواق المالية رغم الطابع الإيجابى الظاهرى للصفقات، شهدت الأسواق المالية تقلبات ملحوظة فى أعقاب الجولة. فقد انخفض الدولار الأمريكى مقابل سلة من العملات الرئيسية، بينما ارتفعت عوائد سندات الخزانة الأمريكية، فى دلالة على توقعات السوق بارتفاع مستويات الإنفاق العام والعجز المالى. كما لجأ المستثمرون إلى الأصول الآمنة، مثل الذهب والفرنك السويسرى، بسبب تصاعد التوترات الجيوسياسية فى أعقاب تصريحات ترامب بشأن إيران وغزة. «رويترز» نقلت عن محللين فى «جولدمان ساكس» قولهم إن «الزيارة كانت رسالة بأن السياسة الخارجية الأمريكية تدخل مرحلة جديدة أكثر تصادمية، وهذا يعنى احتمالات أعلى للتقلبات الاقتصادية وارتفاع المخاطر الائتمانية فى الأجل القصير». «الفيدرالى» بين المطرقة والسندان من جهته، يجد الاحتياطى الفيدرالى نفسه أمام معادلة معقدة: كيف يستمر فى احتواء التضخم دون خنق النمو الاقتصادى؟ فمع تصاعد الإنفاق المتوقع نتيجة السياسات التوسعية التى روج لها ترامب خلال زيارته، يرتفع احتمال إبقاء سعر الفائدة عند مستوياته المرتفعة لفترة أطول. وتشير محاضر اجتماعات مجلس الاحتياطى، التى نشرتها مجلة «فوربس» الأمريكية، إلى أن بعض الأعضاء أعربوا عن مخاوف من أن سياسات ترامب؛ خصوصًا فى ملفىّ الهجرة والتجارة، قد تخلق صدمات تضخمية جديدة، كما أوضح جيروم باول، رئيس الفيدرالى، فى تصريحات لوكالة «أسوشيتد برس»، إن «الصدمات المستمرة فى العرض، كتلك الناتجة عن النزاعات أو القيود التجارية، قد تبقى التضخم أعلى من مستهدفاتنا، مما يتطلب الحذر فى قرارات الفائدة». تفاؤل حذر زيارة ترامب للشرق الأوسط لم تكن مجرد جولة سياسية أو دبلوماسية؛ بل كانت محاولة لإعادة رسم مسار الاقتصاد الأمريكى عبر البوابة الخليجية. وفيما يبدو أن الإدارة تسعى لتعزيز نفوذها الاقتصادى عالميًا، فإن الثمن قد يكون باهظًا إذا ما ترافق ذلك مع اختلالات نقدية داخلية أو تصعيد سياسى خارجى. ويرى بعض المحللين أن المكاسب التى جناها ترامب فى زيارته ستنعكس إيجابًا على الاقتصاد الأمريكى فى الأمد القصير؛ خصوصًا فى قطاعات الدفاع والطاقة، ما قد يدعم خلق وظائف وزيادة الطلب المحلى. لكن فى المقابل، يرى آخرون أن هذه المكاسب قد تتبدد سريعًا إذا ما أدت السياسات التوسعية إلى موجة تضخم جديدة أو عودة العجز التجارى إلى مستويات حرجة. تقاطع المصالح والمخاوف من جهه أخرى، نرى أن زيارة ترامب أعادت للواجهة تساؤلًا محوريًا: إلى أى مدى تتقاطع مصالح واشنطن الاقتصادية مع المخاوف البنيوية للدول الخليجية المنتجة للطاقة؟ الإجابة ليست سهلة، لكنها تبدأ من إدراك أن ترامب لا يتعامل مع الخليج ك«حليف تقليدى»؛ بل كمستثمر قوى وشريك تجارى. وهذا ما يفسر إصراره على الضغط باتجاه المزيد من الإنفاق الخليجى داخل السوق الأمريكية. وفق تحليل نشره معهد أتلانتك Atlantic Council مطلع أبريل الماضى، أوضح أن «الخليج يتحرك فى مساحة رمادية بين الرغبة فى مواصلة الاعتماد على الحليف الأمريكى، والخشية من أن تستخدم الاستثمارات كسلاح سياسى أمريكى فى لحظات التوتر». لذلك نرى أن الدول الخليجية، تبدو حذرة. فهى تدرك أن الاعتماد المفرط على أمريكا يحمل مخاطره، فى وقت يتسارع فيه صعود الصين وتعمق العلاقات مع موسكو، كما أن تذبذب السياسات الأمريكية – لا سيما فى ظل مزاج ترامب المتقلب – يفرض على صانعى القرار الخليجيين إعادة النظر فى أدوات النفوذ وتوزيع أوراق اللعب الاقتصادية على أكثر من طاولة. رسائل غير معلنة ما قاله ترامب فى المؤتمرات الصحفية لا يختزل الرسائل التى حملتها زيارته إلى المنطقة فى هذا التوقيت تحديدًا، فوفق تحليل لمعهد بروكينز، أوضح أن «الإدارة الأمريكية الجديدة تدفع باتجاه تحالف اقتصادى منخفض التكاليف السياسية، يرتكز على الاستثمار لا على الانتشار العسكرى». وأضاف التحليل المنشور حديثًا إن ترامب عقد عددًا من الاجتماعات مع رجال أعمال خليجيين؛ حيث تحدث الرئيس الأمريكى عن «حاجة أمريكا إلى شراكة اقتصادية لا عسكرية» مع المنطقة، فى إشارة إلى رغبته فى تقليص الكلفة السياسية والعسكرية لحضور بلاده فى الخليج. هذا التصريح، وإن لم يعلن رسميًا، يعكس تحولًا فى العقيدة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط: من شرطى يحرس، إلى تاجر يعقد الصفقات. كيف ينظر العالم إلى هذه الزيارة؟ المؤسسات الاقتصادية الدولية تابعت زيارة ترامب باهتمام بالغ، ليس فقط لما تحمله من دلالات على مستوى العلاقة الخليجية–الأمريكية؛ بل لأنها تمثل مؤشرًا على شكل الاقتصاد العالمى الجديد، إذ تؤكد الزيارة أن الاقتصاد لم يعد خاضعًا فقط لقوانين السوق؛ بل بات رهينة حسابات سياسية معقدة؛ حيث تتداخل الاستثمارات مع الأمن، والصفقات مع التحالفات. وفى تقرير نشرته مجلة فاينانشال تايمز أبدت بروكسل قلقًا من «تحول الخليج إلى منقذ استراتيجى للاقتصاد الأمريكى»، وهو ما قد يقلص فرص أوروبا فى توقيع اتفاقات تجارية مستقبلية مع دول مجلس التعاون. أما الصين؛ فترى فى التحرك الأمريكى محاولة لاحتواء تمددها فى الشرق الأوسط؛ خصوصًا مع ازدياد استثماراتها فى البنية التحتية والطاقة. الصفقات والتحالفات السلمية زيارة ترامب للمنطقة شكلت لحظة مفصلية تعيد طرح أسئلة كبرى حول مستقبل العلاقة الاقتصادية بين أمريكا والخليج. فبينما يرى ترامب فى الخليج «شريكًا قويًا لاستعادة عظمة الاقتصاد الأمريكى»، تحاول الدول الخليجية أن توظف هذا المنظور لتعزيز نفوذها فى مؤسّسات وقطاعات أمريكية حيوية. لقد نجح الرئيس الأمريكى – على الأقل ظاهريًا – فى تأكيد أن واشنطن لا تزال اللاعب الأكبر فى معادلة الشرق الأوسط، لكنها الآن تلعب بأدوات مختلفة: المال بدلًا من الجند، السوق بدلًا من القواعد العسكرية. فى المقابل؛ تدرك دول الخليج أنها أمام مرحلة جديدة تتطلب إعادة تعريف لعلاقتها مع واشنطن، تقوم على التوازن بين الحاجة إلى الدعم الأمريكى، والرغبة فى تنويع الشراكات الدولية. وفى قلب هذا التوازن، يبقى النفط – كما كان دائمًا – هو العصب الحساس الذى تتقاطع عنده المصالح والمخاوف. فى النهاية، لا يمكن حسم ما إذا كانت زيارة ترامب ستؤسّس لمرحلة جديدة من الازدهار الاقتصادى أو تنذر بمزيد من التعقيد فى العلاقات الدولية. لكن ما هو مؤكد أن الشرق الأوسط، بعد هذه الزيارة، لم يعد كما كان قبلها. وفى ظل نظام دولى يزداد استقطابًا، تبقى معادلة «النفط مقابل الاستثمار مقابل الأمن» حجر الأساس الذى سيبنى عليه الجانبان مستقبل تعاونهما... إن استطاعا تجاوز شبح الشكوك المتبادلة. 2