حالة من التخبط شهدتها الساحة الدعوية بسبب إصدار فتاوى مختلفة حول وجوب الجهاد فى فلسطين ضد المحتل الإسرائيلى، ففى الوقت الذى أصدر فيه اتحاد علماء المسلمين فتوى بوجوب الجهاد ضد الاحتلال الإسرائيلى. أعلنت الدعوة السلفية موقفًا رافضًا للجهاد ضد الاحتلال الإسرائيلى على لسان الداعية السلفى ياسر برهامى رئيس مجلس إدارة الدعوة السلفية، الذى أطلق فتوى انتقد خلالها الفتوى الأخيرة لاتحاد علماء المسلمين. ودعا برهامى، فى فتواه إلى أهمية العمل على ميزان القوى بين الدول، وأن تساوى قدرتنا قدرة الدولة التى نريد محاربتها، مضيفًا: «إذا أردنا أن ندخل حربًا مع اليهود لنصرة أهل غزة الذين قرروا أن يخوضوا الحرب منفردين دون مشاورة الدول العربية، لأنهم ما أخبروا غير إيران، فعلينا أن نعلم إسرائيل بإلغاء المعاهدة، ونكون على قدر ذلك ونستعد للحرب مع إسرائيل وأمريكا ودول الغرب الأخرى التى تقف بجوار إسرائيل، ولا بد أن نكون على قدر مقاومة هذه الدول ولو على النصف منها، ماحدش يقول طب ما عمر الأوضاع ما هتتغير، لأ، الموازين تتغير بقدرة ربنا سبحانه وتعالى، مثلما تغيرت موازين القوة فى سوريا». وأشار إلى أن ما فعلته المقاومة الفلسطينية لم يخدم القضية، قائلاً: «ليست هذه مقاومة وعملت إيه للأقصى، وهل النصر يتحقق بتخريب البلد»، مضيفًا: «فرعون قال سنقتل أبناءهم ونستحيى نساءهم وإنا فوقهم قاهرون، وكان لسه قاتل 80 ألفًا، سيدنا موسى قال لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله». وكانت الدعوة السلفية بمصر استنكرت تصعيد «الكيان الصهيونى» هجماته على «غزة»، ومحاولته تقطيع أوصالها والتمركز فيها، تحت زعم الضغط على حماس، ودفع الأخيرة لتسليم الرهائن الإسرائيليين! مضيفة: «وفى سبيل ذلك: تخلى إسرائيل رفح، وغيرها من المدن الفلسطينية، وتستخدم فى ذلك إنذار الأهالى بالإخلاء، ثم القصف المدفعى والجوى، فتقصف ما تبقى من المساجد والمشافى والمدارس، وما تبقى من أماكن الأونروا، التى لجأ لها المستضعفون العُزَّل من أهلنا فى فلسطين، وتتعمد قصف تجمعاتهم لتسيل دماؤهم أنهارًا فى مشهدٍ يعيدنا لحروب التتار، وهمجية النازيين؛ لدفع الفلسطينيين للهجرة قسرًا». وبشرت الدعوة السلفية الكيان الصهيونى بعذاب، قائلة: «وإنا نبشِّر مجرمى الكيان بعذاب جهنم وعذاب الحريق: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)، ونذكِّرهم بمصير فرعون حين علا فى الأرض: (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (القصص: 40)، ونذكِّر أهلنا المستضعفين فى غزة الصابرين المحتسبين بموعود الله: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ). حسم الخلاف بينما أصدرت دار الإفتاء المصرية بيانًا يحسم الخلاف حول الجهاد فى فلسطين ضد الاحتلال الإسرائيلى، وقالت فى بيان لها ردًا على التصريحات المتضاربة حول هذه القضية: «اطلعت دار الإفتاء المصرية على ما صدر مؤخرًا من دعوات تدعو إلى وجوب الجهاد المسلح على كل مسلم ضد الاحتلال الإسرائيلى، وتطالب الدول الإسلامية بتدخل عسكرى فورى وفرض حصار مضاد». وقالت: إن فى إطار مسئوليتنا الشرعية، وبناءً على قواعد الفقه وأصول الشريعة الإسلامية، تؤكد دار الإفتاء النقاط التالية: أولًا: الجهاد مفهومٌ شرعيٌّ دقيق، له شروط وأركان ومقاصد واضحة ومحددة شرعًا، وليس من حق جهة أو جماعة بعينها أن تتصدر للإفتاء فى هذه الأمور الدقيقة والحساسة بما يخالف قواعد الشريعة ومقاصدها العليا، ويعرِّض أمن المجتمعات واستقرار الدول الإسلامية للخطر. ثانيًا: تؤكد دار الإفتاء المصرية أن دعم الشعب الفلسطينى فى حقوقه المشروعة -واجب شرعى وإنسانى وأخلاقى، لكن بشرط أن يكون الدعم فى إطار ما يحقق مصلحة الشعب الفلسطينى، وليس لخدمة أجندات معينة أو مغامرات غير محسوبة العواقب، تجرُّ مزيدًا من الخراب والتهجير والكوارث على الفلسطينيين أنفسهم. ثالثًا: من قواعد الشريعة الإسلامية الغرَّاء أن إعلان الجهاد واتخاذ قرار الحرب والقتال لا يكون إلا تحت راية، ويتحقق هذا فى عصرنا من خلال الدولة الشرعية والقيادة السياسية، وليس عبر بيانات صادرة عن كيانات أو اتحادات لا تمتلك أى سلطة شرعية، ولا تمثل المسلمين شرعًا ولا واقعًا، وأى تحريض للأفراد على مخالفة دولهم والخروج على قرارات ولى الأمر يُعدُّ دعوة إلى الفوضى والاضطراب والإفساد فى الأرض، وهو ما نهى عنه الله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. رابعًا: إن الدعوة إلى الجهاد دون مراعاة لقدرات الأمة وواقعها السياسى والعسكرى والاقتصادى - هى دعوة غير مسئولة وتخالف المبادئ الشرعية التى تأمر بالأخذ بالأسباب ومراعاة المآلات، فالشريعة الإسلامية تحث على تقدير المصالح والمفاسد، وتحذر من القرارات المتسرعة التى لا تراعى المصلحة العامة، بل قد تؤدى إلى مضاعفة الضرر على الأمة والمجتمع. خامسًا: من قواعد الشرع أن من يدعو إلى الجهاد يجب عليه أولًا أن يتقدم الصفوف بنفسه، كما كان هدى النبى صلى الله عليه وسلم فى الغزوات بدلاً من استثارة العواطف والمشاعر، تاركين غيرهم يواجهون العواقب. سادسًا وأخيرًا: من الحكمة والمقاصد الشرعية أن تتجه جهود الأمة الإسلامية نحو العمل الجاد من أجل إيقاف التصعيد ومنع التهجير، بدلًا من الدفع نحو مغامرات غير محسوبة تُعمِّق الأزمة وتزيد من مأساة الفلسطينيين. وقالت إنه بناءً على ما سبق: تؤكد دار الإفتاء المصرية ضرورة التحلى بالعلم والحكمة والبصيرة، وعدم الانسياق وراء شعارات رنانة تفتقر إلى المنطق والواقعية. تأييد دولى للفتوى المصرية فى رسالة تأييد لما ورد من موقف الإفتاء المصرية تجاه الجهاد فى فلسطين، والذى أكد ضرورة التحلى بالعلم والحكمة والبصيرة، وعدم الانسياق وراء شعارات رنانة تفتقر إلى المنطق والواقعية، حيث وجه الدكتور عبدالحميد متولى رئيس المركز الإسلامى العالمى للتسامح والسلام فى البرازيل وأمريكا اللاتينية.عضو المجمع الفقهى بكندا رسالة إلى مفتى الجمهورية د. نظير عياد تؤكد عدم الموافقة على ما جاء من مواقف غير مدروسة حول الجهاد فى فلسطين، من الدعوة السلفية، واتحاد علماء المسلمين. وقال د. متولى فى رسالته التى حملت عنوان الرد السديد على اتحاد علماء المسلمين ورئيس الدعوة السلفية بمصر ياسر برهامى: «لقد أصبح من المقلق والمثير للأسى أن يُتخذ الدين مطية لتحقيق أغراض سياسية أو حزبية ضيقة، وأن يُنتزع النص من سياقه الشرعى والتاريخى ليُساق فى غير موضعه، فيخالف مقاصد الشريعة ويضر بوحدة الأمة». وأوضح أنه فى هذا السياق، تصدّرت المشهد تصريحات وبيانات منسوبة لما يُعرف ب«اتحاد علماء المسلمين» وبعض رموز «الدعوة السلفية» فى مصر، وعلى رأسهم الدكتور ياسر برهامى، تتضمن دعوات صريحة للنفير، واستدلالات من النصوص الشرعية فى غير مواضعها، وفتاوى تفتقر إلى فقه المقاصد، وتحمل فى طياتها تهديدًا للاستقرار وإضرارًا بمصالح الأمة. وعن فتوى النفير والدعوة للتعبئة العامة قال رئيس مركز التسامح: «لقد دعت بعض بيانات ما يُسمى باتحاد علماء المسلمين إلى «النفير العام»، مستدلين بآيات الجهاد دون مراعاة لضوابطه وشروطه الشرعية، ومُتغافلين عن فقه المآلات، وواقع الأمة الممزق، حيث قال الإمام الشاطبى فى «الموافقات»: «النظر فى مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا، سواء كانت الأفعال موافقة أو مخالفة». وشدد على أن الدعوة للنفير بلا إذن ولى الأمر، أو فى غياب راية شرعية واضحة، تُعد خروجًا عن جماعة المسلمين، وهى مخالفة لما عليه جماعة أهل السنة من ضبط فقه الجهاد بالعلم، والقيادة، والمصلحة. أما فى الرد على استدلال الدكتور ياسر برهامى بآية: «إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق» لعدم نصرة الفلسطينيين قال د. عبدالحميد متولى: «استدل الدكتور ياسر برهامى بهذه الآية ليُبرر مواقف سياسية تتعلق بعدم نصرة المسلمين المظلومين أو الامتناع عن تأييدهم إذا كان هناك عهد مع غير المسلمين، وهو استدلال فى غير محله، فالآية تتحدث عن حالة خاصة فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم، حيث كان بين المسلمين والمشركين مواثيق مؤقتة. وقد قال الإمام الطبري: «الميثاق المذكور هنا كان مع كفار قريش، ولا يُقاس عليه إطلاقًا فى زماننا دون ضوابط». وأكد أن الوفاء بالعهد لا يبرر التخاذل عن نصرة المسلم المظلوم، وإنما يُراعى ضمن ضوابط لا تُفضى إلى خيانة أو خرق شرعى، كما بيّن ذلك القرطبى والرازى. ولفت إلى أن الأئمة الأربعة شددوا على حرمة الفتن، وخطورة التكفير، ووجوب مراعاة المقاصد العامة، وتحقيق المصلحة ودرء المفسدة، حيث قال الإمام مالك: «من جعل الدين مطية للوصول إلى الدنيا، فقد هلك وأهلك»، وقال الإمام أبوحنيفة: «لا نكفر أهل القبلة بذنب ما لم يستحلوه»، وقال الإمام أحمد: «من خرج على إمام قد اجتمعت عليه الأمة فقد خالف السنة»، وقال الإمام الشافعى: «إذا صح الحديث فهو مذهبى، واضربوا بقولى عرض الحائط». أضاف أن هؤلاء الأئمة لم يجعلوا فتاواهم وقودًا للسياسة أو مدخلًا للفتنة، بل كانوا حراسًا للأمة من الغلو والانحراف. وقال إنه: «من المحزن أن نرى بعض المنتسبين للسلف يُناقضون منهج السلف الحقيقى، فيجعلون الولاء للتنظيم قبل الولاء للأمة، ويكفرون من خالفهم فى الاجتهاد، ويُفرغون النصوص من مقاصدها الرحيمة.. فهل من منهج السلف أن تُستباح الفتنة باسم العقيدة؟ وأن تُترك نصرة المظلوم بحجة المواثيق السياسية؟ وأن يُحرَّف فهم النصوص لتبرير التخلى أو التأجيج؟ وأكد أنه من الضرورى الرجوع إلى المرجعيات الإسلامية الرسمية قائلاً: «إن من أهم ما يحفظ للأمة وحدتها ويصون دماءها، الرجوع إلى المؤسسات الإسلامية الرسمية المعتمدة فى الفتوى والاجتهاد، وفى مقدمتها: دار الإفتاء المصرية، التى تمثل نموذجًا للاعتدال والانضباط العلمى، والأزهر الشريف منارة العلم ومرجعية المسلمين فى العالم منذ أكثر من ألف عام، وهيئة كبار العلماء والمفتى العام فى المملكة العربية السعودية، الذين يمثلون صوت الحكمة والوسطية. وشدد على أن تجاوز هذه المؤسسات، والاعتماد على أفراد أو كيانات غير منضبطة، لا يؤدى إلا إلى الفوضى، وتمزيق الصف، وغياب البصيرة. وفى نداء إلى علماء الأمة وعوامها قال رئيس مركز التسامح العالمى فى رسالته: إن هذا المقال دعوة للرجوع إلى المنهج الصحيح، الذى يجمع ولا يفرق، ويعمر ولا يهدم، ويهتدى بأقوال الأئمة لا بأهواء التنظيمات، ويستنير برأى المؤسسات العلمية الكبرى لا بفتاوى معلَّبة، ونسأل الله تعالى أن يُرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، وأن يحفظ أمتنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.