لا تزال تبعات مباحثات ال15 دقيقة التى تمت بين الرئيس الأمريكى دونالد ترامب والرئيس الأوكرانى زيلينسكى، تلقى بظلالها، على الحرب «الروسية - الأوكرانية» وعلى القارة الأوروبية، فقد دفع هذا اللقاء الدول الأوروبية للاتجاه للتسلح، وإعلان رئيسة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبى كايا كالاس أن أمريكا لم تعد تقود «العالم الحر»! حاول الرئيس الأوكرانى استعراض مهاراته التمثيلية فى لقائه المباشر العاصف مع ترامب، وتخليه عن قواعد المظهر الرسمى التقليدى طوال فترة الحرب واستبدال بدلته وربطة عنقه بقميص كاكى على طراز الجيش أو سترة بغطاء رأس أو بيريه، إلا أن الأمر لم يحظ بقبول الرئيس الأمريكى واعتبره إهانة تستوجب التوبيخ علنًا. قبل الاجتماع العلنى مع ترامب، طرح أحد المعلقين المحافظين سؤالًا على زيلينسكي: «لماذا لا ترتدى بدلة؟ هل تملك واحدة؟! الكثير من الأمريكيين يرون فى ذلك عدم احترام لهيبة المنصب!» كانت تلك اللحظة بداية صراع امتد صداه عبر العالم ولا يزال مستمرًا. سيل من الإهانات! جاء رد ترامب قاسيًا إذ قال: المشكلة هى أننى جعلتك رجلًا قويًا، ولا أعتقد أنك ستكون كذلك دون دعم الولاياتالمتحدة. ثم أضاف: لا يبدو أنك تُظهر أى امتنان، وهذا أمر غير مقبول. وتابع: «اليوم، يتساءل العالم بأسره: كيف وصلنا إلى هذه النقطة؟ بل كيف كان لهذا أن يحدث من الأساس؟ هل أصبح عدم القدرة على التنبؤ والاضطراب هو السمة الجديدة للسياسة الدولية؟ سارع العديد من المعلقين إلى الوقوف فى صف الرئيس زيلينسكى، مهاجمين ترامب وحليفه فانس، واصفين إياهما بالثنائى المصارع اللذين تناوبا على إذلال الضيف الأوكرانى، ولكن الحقيقة أن زيلينسكى هو من بدأ المعركة النفسية أولًا! كان زيلينسكى، دون أن يدرك، يدفع ترامب نحو الغضب، وحصد النتيجة سريعًا، نظر ترامب إلى زيلينسكى، الذى كان يرتدى زيه العسكرى، وقال بغضب: قدمنا لكم مليارات الدولارات على مدى ثلاث سنوات، ومع ذلك لم تحققوا نصرًا! بل أصبحتم مجرد حليف ضعيف لا يملك حق فرض الشروط. عليكم أن تشكرونا، فنحن من سيحقق السلام الذى سينقذكم من الدمار، فدعونا ننقذ ما يمكن إنقاذه». فى المكتب البيضاوى غضب ترامب من مظهر زيلينسكى العسكرى، إذ رأى أنه لا يتناسب مع طبيعة الاجتماع الذى كان يهدف إلى مناقشة خطة السلام، معتبرًا ذلك تصرفًا تحديًا ووقاحة وقلة احترام. وتصاعد التوتر عندما طرح أحد الصحفيين سؤالًا حول مستقبل العلاقات الاقتصادية مع روسيا، مشيرًا إلى أن بعض الموارد المعدنية التى تسعى إليها الولاياتالمتحدة فى أى صفقة مستقبلية قد تكون ضمن مناطق استولى عليها بوتين بالفعل. عندها، رد زيلينسكى قائلًا: «هذا سؤال جيد للغاية!»، وبدأ زيلينسكى بالتحرك فى مقعده والعبوس بصمت، محاولًا احتواء مشاعره مع استمرار الاجتماع، لكنه كان يفقد صبره ويزداد إحباطًا مما يسمعه. وزاد قلق زيلينسكى من الصفقات التى تُبرم خلف الكواليس، وإحساسه المتزايد بأنه قد يتم التخلى عنه وعن شعبه. فى الوقت نفسه، كان بوتين قد تراجع عن جميع الاتفاقيات السابقة، وحاول زيلينسكى تقديم حججه، مستشهدًا بصفقات تعود إلى عام 2014، إلا أن ترامب قاطعه متسائلًا إن كانت تعود إلى 2015، وعندما أكد زيلينسكى أنها وقعت فى 2014، رد ترامب بأنه لم يكن فى البيت الأبيض آنذاك. رأى ترامب فى زيلينسكى انعكاسًا لحالة أوروبا، فكلاهما، فى نظره، حلفاء ضعفاء لا يحققون مكاسب أو فوائد تُذكر، ولا يمكن استغلالهم لتحقيق مصالح حقيقية. أما الشعارات التقليدية التى يرددها الرؤساء الأمريكيون حول الدفاع عن أوروبا والغرب والديمقراطية والإنسانية، فقد أصبحت، من وجهة نظره، جوفاء لا معنى لها، خاصة فى ظل حرب بلا أفق، أو حرب يمكن إنهاؤها باتفاقية مع الحليف الأذكى والأقوى، بوتين. من خلال صدامه العلنى مع زيلينسكى، حقق ترامب عدة أهداف فى آنٍ واحد: الاستعراض، والضغط، وإحداث الصدمة، ويعد الإعلام عنصرًا جوهريًا فى هذه الاستراتيجية الثلاثية التى يستخدمها ترامب عادةً لتحقيق أهدافه وحسم صفقاته لصالحه. كانت رسالته الأولى موجهة إلى الداخل الأمريكى، ليؤكد أنه سيستعيد الأموال التى أهدرها بايدن على أوكرانيا، أما الرسالة الثانية، فكانت تحذيرًا واضحًا للأوروبيين، ليعرفوا موقفه الصريح والمتشدد، وأن محاولاتهم لإثنائه عن قراراته، سواء تجاريًا أو عسكريًا أو ماليًا، ستكون بلا جدوى.
مشاهدات ورهان بدا الحوار بين زيلينسكى وترامب وكأنه عرض مسرحى مصمم للاستهلاك الإعلامى، لكنه فى الحقيقة يلخص بشكل مُخل أكثر من 35 عامًا من الصراع على أوكرانيا. لعب زيلينسكى على وتر الرعب الأوروبى من أن سقوط أوكرانيا قد يعنى امتداد النفوذ الروسى إلى قلب باريس وبرلين، وإحياء شبح الهيمنة السوفييتية على أوروبا، وهو ما مكّنه من الحصول على دعم عسكرى غير مسبوق فى تاريخ المواجهات شرق أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، إلا أن النتيجة هى تدمير البنية التحتية الأوكرانية وتشتت شعبها. وكسبت روسيا معركتها فى أوكرانيا، لكنها دفعت الثمن بفقدان جزء من نفوذها فى الشرق الأوسط، خاصة بعد الاستهداف المكثف لحلفائها مثل حزب الله وإيران وسوريا وفلسطين، فى وقتٍ تصاعد فيه النفوذ الإسرائيلى بشكل واضح. كان بإمكان أوكرانيا أن تنعم بالسلام والاستقرار طيلة 35 عامًا منذ تفكك الاتحاد السوفيتى، فقد كانت بمثابة «الشقيقة الصغرى المدللة» لروسيا، لكن ذلك كان مرهونًا ببقائها ضمن دائرة نفوذ موسكو والالتزام بسياساتها. على عكس رؤساء أوكرانيا السابقين، الذين حاولوا المناورة بين الطرفين لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة، اندفع زيلينسكى بالكامل نحو الغرب، متأثرًا بوعود حلف الناتو، دون أن يدرك حجم العواقب الكارثية. هدد الرئيس دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية واسعة النطاق، وسخر من الاتحاد الأوروبى، معتبرًا أنه أُنشئ خصيصًا ل«إزعاج» الولاياتالمتحدة. استقبلت أوروبا الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى بحفاوة، وحصل على دعم من ثمانية عشر زعيمًا، من بينهم الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، والمستشار الألمانى أولاف شولتز، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلونى، ورئيس الوزراء الكندى جاستن ترودو. عقب ذلك، توجه زيلينسكى للقاء الملك تشارلز الثالث فى مقر إقامته الريفى ب«ساندرينجهام» شمال شرق لندن، جاءت الزيارة بناءً على طلب زيلينسكى، واتسمت برمزية واضحة، حيث سلّم كير ستارمر شخصيًا دعوة نادرة من الملك إلى ترامب لزيارة بريطانيا رسميًا للمرة الثانية. وتسارع أوروبا الخطى لرأب الصدع بين الولاياتالمتحدةوأوكرانيا، إذ تعهد القادة الأوروبيون بتشكيل «تحالف الراغبين» لوضع خطة لإنهاء الحرب الأوكرانية - الروسية، على أمل أن تحظى بدعم الرئيس المتحفظ دونالد ترامب. أعاد قادة أوروبا، بمن فيهم الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى، تقييم مستقبل التحالف الدفاعى الغربى خلال اجتماعهم فى قصر لانكستر هاوس بلندن، بعد الهجوم اللفظى الحاد الذى شنه الرئيس دونالد ترامب على زيلينسكى فى البيت الأبيض، وهو موقف غير مسبوق دام 15 دقيقة، دفع كايا كالاس رئيسة السياسة الخارجية فى الاتحاد الأوروبى، إلى القول إن «أمريكا لم تعد تقود العالم الحر». وأكد رئيس الوزراء البريطانى كير ستارمر أن أوروبا عليها الآن أن تتحمل مسئولية أكبر فى حماية أوكرانيا من التوسع الروسى، مشيرًا إلى تراجع الدور الأمريكى فى القارة، موضحا أن الدول الأوروبية قدّمت مساعدات لأوكرانيا تفوق بكثير ما قدمته الولاياتالمتحدة، مشددًا على أن «أوروبا تقف عند مفترق طرق تاريخي»، وعليها أن تبذل الجهود الشاقة لدعم السلام.
وتستعد بريطانيا وفرنسا وأوكرانيا لصياغة خطة سلام وتقديمها إلى ترامب، وهو تغيير كبير عن الافتراض السابق بأن الولاياتالمتحدة ستتولى زمام المبادرة. وتشمل الخطة المقترحة تشكيل قوة حفظ سلام بقيادة بريطانيا وفرنسا، أطلق عليها ستارمر اسم «تحالف الراغبين»، مستلهمةً من التحالف الذى قادته الولاياتالمتحدة خلال غزو العراق عام 2003، وأشار ستارمر إلى أن عدة دول التزمت بالفعل بالمشاركة، مؤكدا أن الولاياتالمتحدة لا تزال «حليفًا موثوقًا به». زعماء الاتحاد الأوروبي بدأت الحكومات الأوروبية تبنى فكرة أن تعزيز الأمن فى أوكرانيا مستقبلًا يتطلب زيادة القدرات العسكرية، وبالتالى تمويلًا إضافيًا لتغطية التكاليف. وهذه المسألة أصبحت أولوية لدى زعماء الاتحاد الأوروبى. دعا الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون دول حلف الناتو إلى تكثيف استثماراتها فى الجيوش، قائلًا: «خلال السنوات الثلاث الماضية، أنفق الروس %10 من ناتجهم المحلى الإجمالى على الدفاع، نحن بحاجة إلى الاستعداد لما هو قادم، بهدف إنفاق يتراوح بين %3 و%3.5 من الناتج المحلى الإجمالي». وحث ماكرون القادة الأوروبيين، على إعادة النظر فى البرامج المركزية التى لا يتم استغلالها، مشيرًا إلى الحاجة لمنح المفوضية الأوروبية تفويضًا باستخدام وسائل تمويل مبتكرة، مثل الاقتراض المشترك أو الاستفادة من آلية الاستقرار الأوروبية، لتوفير 200 مليار يورو للاستثمار العسكرى. وشددت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين على أن الوقت قد حان «لإعادة تسليح أوروبا بشكل عاجل»، مشيرة إلى أن هذه المرحلة تمثل نقطة تحول قد تؤدى إلى الإعلان عن ميزانيات دفاعية تاريخية. وأكد رئيس حلف الناتو مارك روته أن بعض الدول تعهدت بزيادة الإنفاق الدفاعى، لكنه لم يحدد بعد أى الدول المعنية أو حجم الزيادة المتوقعة. وقال رئيس الوزراء البولندى دونالد توسك قائلًا: «خمسمائة مليون أوروبى يطلبون الحماية من ثلاثمائة مليون أمريكى ضد مائة وأربعين مليون روسى. هل يمكنكم الاعتماد على ذلك؟ اعتمدوا على أنفسكم، وابدءوا بالاعتماد على أنفسكم.» وأكد على ضرورة اتخاذ خطوات لحماية الشركات والأسر الأوروبية من تداعيات السياسات الأمريكية. 2 3 4