لم تعد الكتابة السياسية الجامدة ذات المعلومات والأرقام والتواريخ لها نفس أثر الكتابة السياسية الممزوجة بالتجربة الإنسانية، وقد يكون السبب أن موجات الربيع العربى جعلت المكون البشرى العام محركًا مهمًا للأحداث السياسية الكبرى، وهذا يعنى أن القرار السياسى انتقل تدريجيًا من غرف الساسة المغلقة إلى الساحات الشعبية المفتوحة، حتى أصبحت الكلمة الأخيرة هى كلمة الشعب. منذ حوالى الأسبوع انتفض شباب «تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين» ضد التصريحات السياسية المتعلقة بتهجير سكان غزة الأصليين إلى خارج أراضيهم التى كبروا فيها وتجذرت فيهم إلى عمق التاريخ. وعلى إثر الزعم القديم الحديث بأن سيناء ستصبح ملجأ دائمًا لهم، شبت نار الغضب فى قلوب شباب التنسيقية شأنهم شأن باقى الشباب العربى. وكان المنفذ الوحيد للتعبير عن هذا الاشتعال الغاضب بداخلهم - وأنا من بين أعضاء التنسيقية -أن نشارك جموع المصريين بوقفة عند معبر رفح البرى، لنثبت للقاصى والدانى أن المصريين فى قلب سيناء ويرفضون كل دعوات نزع سيادتهم عنها. فى مسافة تقارب الألف كيلو متر ذهابًا وإيابًا قطعناها فجرًا من القاهرة إلى شمال سيناء والعكس، بها قصص وحكايات تلخص عزيزى القارئ المعنى الذى تحدثت عنه فى السطور الأولى «السياسة التى تصنعها الشعوب». فى البداية تم الإعداد للزيارة بإتقان شديد من خلال اجتماعات امتدت لساعات طويلة من جانب إدارة التنسيقية، وكانت لجنة التنظيم بالتنسيقية عاملًا أساسيًا فى نجاح اليوم، حيث عمل كل أعضاء اللجنة على قلب رجل واحد وأدوا المهمة وكأنهم بالفعل يد واحدة. تجمّعنا عند مقر التنسيقية فجر يوم الجمعة 31 يناير والتقطنا صورة جماعية وبدأنا توزيع أنفسنا على الأتوبيسات، وهذا مشهد تقليدى وعادى بالنسبة لنا نحن أعضاء التنسيقية، لكن من يشاهدنا ويتابعنا سيتبادر إلى ذهنه عدة أسئلة أهمها «كيف يتصافح اليسارى واليمينى والبرجماتى والمعارض والمعتدل والحزبى والمستقل، والسياسى والتنفيذى والتشريعى والأكاديمى، ثم يلتقطون صورة تجمعهم ببعض ويتشاركون رحلة مئات الكيلومترات إلى رفح؟ كيف تفرقهم الاتجاهات السياسية وتجمعهم كل هذه الحكاوى والنكات والذكريات؟ وكيف سيكون المظهر العام لمشهد سياسى يجتمعون فيه تحت راية بهدف واحد وأداء واحد أمام معبر رفح؟». بدأت الرحلة بالفعل منذ الوقت الذى أعلنت فيه التنسيقية عن مشاركتها للقوى السياسية فى هذه الانتفاضة الشعبية، التى جمعت بين قوة التأثير ورقى الممارسة، بدأنا نستعد للرحلة الشاقة، واتجهنا فى الثالثة صباحًا لمقر التنسيقية. فور صعودى لأحد الأتوبيسات وجدت الزميلة العزيزة السياسية المعارضة كريمة أبوالنور، وأنا المعروفة باتجاهى السياسى الذى يميل نحو الموالاة، لكن اعتزازى بزمالتها داخل التنسيقية لا يعرف الاتجاهات السياسية، جلست إلى جوارها وهى بدورها استقبلتنى بحفاوة شديدة وأخذتنا الحكايات وأثناء ذلك استقر بنفس الأتوبيس السياسيون المعارضون محمد عبدالعزيز وطارق الخولى ومحمود بدر بالإضافة للعديد من أعضاء التنسيقية. الطريق كان شاقًا للغاية بسبب طول المسافة لكنه كان ممهدًا كالحرير، دخلنا شمال سيناء مع حلول نور الصباح واتجهنا مباشرة إلى رفح، وهنا توقفت الأتوبيسات قبل نحو 5 كيلو مترات بسبب الحشود الغفيرة من المواطنين، واتخذنا قرار الوصول للمعبر سيرًا على الأقدام، وبالتأكيد لم يفتنا التعبير عن موقفا السياسى الواحد ضد قضية التهجير، وبسبب تنوعنا السياسى كان بيننا إن جاز تسميتهم «هتيفة» الميدان مثل محمد عبدالعزيز ومحمود بدر وأحمد مقلد، ملأوا الأجواء بهتافات ثورية مثل «أول مطلب للجماهير نرفض مشروع التهجير»، «تانى مطلب للجماهير يسقط مشروع التوطين»، «اوعى يا سينا تشيلى الهم 100 مليون يفدوكى بالدم» والكثير من الهتافات الأخرى، لم نشعر بالمسافة التى كنا نسيرها، وكانت تملؤنا السعادة كلما ظهرت بوادر الاقتراب من معبر رفح البرى، وبالفعل وصلنا وفرحتنا تمتد من الأرض إلى عنان السماء، وفى الطريق كانت أعداد المصريين لا يمكن عدها، بالفعل كانت المساحة أمام معبر رفح عبارة عن كتلة بشرية، وأمام المعبر التقينا بقيادات وأعضاء أحزاب سياسية مصرية وتكتلات شبابية ومواطنين عاديين من جميع المحافظات، أتممنا المهمة بنجاح وفى طريق العودة مررنا «برفح الجديدة» و«الشيخ زويد» ودخلنا فى جولة بمدينة «العريش»، وهنا رأيت مدنًا متحضرة لا ينقصها أى خدمات، ومن شدة تحضرها ورقيها تتمتع بالهدوء بالرغم من وجود الشباب السيناوى بشكل كبير فى الكافيهات والمطاعم، حتى الفتيات ستجدهن بمظهرهن العصرى الأنيق يستمتعن بأوقات مميزة مع رفيقاتهن، باختصار مخطئ من يظن أن شمال سيناء محافظة مهجورة، بالعكس تمامًا هى محافظة تتمتع بقدر كبير من الأمن لدرجة تفضى الهدوء الراقى على شوارعها وسلوك مواطنيها. رفح الجديدة هى مدينة واعدة بالمعمار الحديث، وتقدر مساحات الشقق بها حوالى 180 مترًا وأسعار مميزة جدًا لا تقارن بمثيلتها فى القاهرة. مع ما قدمته القيادة السياسية لشمال سيناء تتجلى بوضوح الرؤية فى الاهتمام بهذه المحافظة الغالية، فلولا تطوير الطرق ما استطاع المصريون استسهال المشوار وفى ظرف أقل من 24 ساعة ننطلق من القاهرة إلى معبر رفح ونعود مرة أخرى إلى القاهرة، بفضل شبكة الطرق الحديثة فلا شبر فى أرض مصر لا يمكن لجموع المصريين أن يحكموا سيطرتهم الكاملة عليه فى ظرف ساعات قليلة، وبالتالى الادعاء بأن شمال سيناء منطقة خالية والمصريون لا يهتمون بها إذًا لنقدمها هدية لغيرنا، هذا ادعاء ساذج والمصريون لا يفرطون فى شبر واحد من أرضهم، وكذلك الادعاء بأن القيادة السياسية لا تهتم بإعمار سيناء هذا أمر ضال، والمساكن الجديدة فى انتظار سكانها ليعمروها بالخير والبهجة، فإعمار سيناء جزء لا يتجزأ من تنمية الدولة المصرية، وما زالت مشروعات التنمية والتطوير فى سيناء تتوالى فى كل المجالات الصناعية والزراعية والسياحية والخدمية. 2 3 4