رُغْمَ استعادة الشوارع الفرنسية حالة الهدوء النسبى بعد أيام من الاضطرابات شديدة الخطورة؛ فإن التبعات الاقتصادية لتلك الاضطرابات لا تزال تتفاقم وتفرض نفسها على المشهد، فى ظل حالة عدم اليقين من استقرار الأوضاع بصفة عامة. لم يكد الاقتصاد الفرنسى يخرج من أزمة احتجاجات تعديل سنّ المعاشات التى هزت فرنسا فى مارس الماضى؛ حتى هزت أزمة أخرى البلاد، وهى أزمة الاحتجاجات العنيفة الأخيرة التى تحولت إلى أعمال شغب بسرعة بسبب مقتل مراهق على يد الشرطة، ما أعاد إشعال الجدل حول العنصرية وعدم المساواة فى البلاد. ورُغْمَ أن حدة التوترات خفّت بشكل طفيف خلال الليلة الخامسة من الاضطرابات؛ حيث سعت السُّلطات لاحتواء الشغب؛ فإن الكلفة المالية للاحتجاجات وتداعياتها على الأعمال التجارية لا تزال تتصاعد حسب وكالات وشركات التأمين.
تحديات صعبة حتى الآن وضعت أعمال الشغب الرئيس إيمانويل ماكرون أمام أحد أصعب التحديات فى فترة ولايته الثانية. واندلعت الاحتجاجات العنيفة بعد أن أطلق شرطى مرور فى 27 يونيو الماضى النار على مراهق فى سيارة مستأجرة لم يلتزم أوامر التوقف.. وحتى الآن أجبرت الاحتجاجات ماكرون على تأجيل زيارة لألمانيا مدتها ثلاثة أيام، كان من المقرر أن تبدأ فى الثانى من يوليو. وتشبه الاحتجاجات التى تحولت إلى أعمال شغب ونهب وحرائق بالمحال التجارية والمتاجر إلى حد ما الاحتجاجات الشعبية التى شهدتها أمريكا فى عام 2020 حينما قتلت الشرطة الأمريكية بطريقة وحشية المواطن الأسْوَد چورچ فلويد، وفق مراقبين. ويواجه الاقتصاد الفرنسى البالغ حجمه 3.128 تريليون دولار حسب بيانات «ورلد إيكونومكس»، أزمات متعددة تراوحت بين ارتفاع معدل البطالة والتضخم وتباطؤ النمو الاقتصادى، إذ تضرر النمو الاقتصادى بشدة من ارتفاع أسعار الطاقة وأزمة تكلفة المعيشة فى العام الماضى منذ اندلاع حرب أوكرانيا. وتراجع تبعًا لذلك نمو الناتج المحلى الإجمالى الفرنسى بنسبة %0.2 فى الربع الثالث من عام 2022، كذلك بلغ معدل البطالة فى فرنسا %7.10 حتى مارس 2023. وحسب بيانات منظمة التنمية والتعاون الاقتصادى التى يوجد مقرها فى باريس، نما الاقتصاد الفرنسى بنسبة %2.6 فى العام الماضى 2022 بسبب تداعيات الحرب الروسية التى أدت إلى ارتفاع أسعار الطاقة، وحدوث اضطرابات فى سلسلة التوريد. ومن المتوقع، حسب المنظمة، أن ينمو الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى بنسبة %0.8 فى العام الجارى 2023، و%1.3 فى العام المقبل 2024. وعلى الرّغم من غياب البيانات الدقيقة حول الكلفة الاقتصادية للاضطرابات التى اجتاحت فرنسا لخمسة أيام متوالية عقب مقتل الشاب؛ فإنّ وزير المالية برونو لومير قال إن نحو 10 مراكز تسوق وأكثر من 200 سوبر ماركت و250 متجر تبغ و250 منفذًا مصرفيًا تعرضت لهجوم وعمليات نهب خلال الاضطرابات. من جانبه، قال رئيس غرفة التجارة فى مقاطعة إيكس مرسيليا، چان لوك شوفين، لموقع فرانس إنفو: «استُهدف جميع أنواع الشركات؛ وبخاصة تلك التى لديها سلع ثمينة». وقال إن شركات التأمين قدرت الأضرار، أوليًا، بأكثر من 100 مليون يورو (109 ملايين دولار)، وهو رقم سيرتفع بلا شك وسط تصاعد الاضطرابات. خسائر بالجملة لم تقف تداعيات الاضطرابات الحالية فى فرنسا على خسائر قطاع السياحة وتضرر المحال؛ بل امتدت لقطاعات وأنشطة أخرى، فقد ألغت علامة الأزياء الشهيرة «كالفن كلاين» عرضًا للملابس الرجالية كان مقررًا عقده فى باريس، بينما قلصت السلطات وسائل النقل العام فى بعض المدن، وتوقفت المناسبات الثقافية وعلى رأسها الحفلات الموسيقية التى عادة ما تدشن بها فرنسا موسم السياحة الصيفية. وحسب وكالة رويترز، قد تخسر الشركات الفرنسية مئات الملايين من اليوروهات نتيجة هذه الاحتجاجات، لكنّ الاقتصاديين يقولون إن التأثير فى النمو الاقتصادى قد يكون طفيفًا. لكنهم يرون أنه إذا استمرت الإضرابات والتظاهرات الاحتجاجية لفترة طويلة، ستضعف حتمًا الثقة بالأعمال التجارية، وتزيد بالتالى من مخاطر فقدان الوظائف وارتفاع البطالة مع تهديد السياحة، كما تهديد الانتعاش الاقتصادى الهش. وكان قطاع النقل والصناعات التى تعتمد على النفط الأكثر تضررًا من الاضطراب، لكن تأثير الإضرابات والتظاهرات سيؤثر بالتأكيد فى الصناعات الأخرى فى البلاد. ونظمت النقابات الفرنسية ستة أيام من الاحتجاج منذ يونيو، وقررت يومين آخرين، وشنت بعض القطاعات إضرابات متدرجة ضد خطة رفع سنّ التقاعد إلى 62 من 60 سنة، والسّن المؤهلة للحصول على معاش تقاعدى كامل إلى 67 من 65. ولا تزال الاحتجاجات تحظى بدعم غالبية الشعب الفرنسى، رُغْمَ أنها تضر بعائدات الأعمال التجارية. وفى شأن الخسائر؛ قال متحدث باسم الخطوط الجوية الفرنسية، إن الاضطرابات ستكلف شركة الطيران 5 ملايين يورو يوميًا، كذلك تقدر شركة السكك الحديدية المملوكة للدولة أن إضرابًا ليوم كامل يكلفها 20 مليون يورو، وفقًا لمتحدث باسم الشركة ل«رويترز». وتعطلت إمدادات الديزل إلى العديد من محطات الخدمة بشكل خاص على ناقلات النقل البرى. فى هذا الصدد؛ قال عضو اتحاد صناعة النقل البرى، نيكولاس بوليسين: «كانت الشركات تكافح بالفعل مع الأزمة الاقتصادية، الآن يتعين عليها القتال على جبهة البترول». ويلحق النقص فى الديزل الضرر بشركات البناء الصغيرة التى تحاول تقليص حجمه، كما ألحق نقص الديزل الضرر بشركات البناء الصغيرة التى تحاول خفض استخدام الوقود إلى الحد الأدنى. وقال باتريك ليبوس، رئيس جمعية شركات البناء الصغيرة الفرنسية، إن الأعضاء يواجهون صعوبة فى تسليم المواد ويتأخرون فى مواقع البناء. وفى ذات الصدد، تواجه بعض الشركات احتمال تسريح العمال.. وقال ليبوس: «نحن ننتظر، لكن الأمور تزداد صعوبة». من جانبه؛ قال رئيس وكالة بيبليكس، ثالث أكبر وكالة إعلانية فى العالم، موريس ليفى: إن الصراعات والاحتجاجات الحالية تضر بصورة فرنسا فى الخارج. وقال ليفى لمحطة إذاعة الأعمال BFM الباريسية: «كنت فى الولاياتالمتحدة الأسبوع الماضى، والناس لا يفهمون الاحتجاجات». وبدأت الإضرابات بالتأثير فى السياحة والأحداث الثقافية قبل عطلة نصف الفصل التى تبدأ فى نهاية هذا الأسبوع، ويعيد بعض المسافرين النظر فى خطط العطلات. وألغى الممثل الأمريكى تيم روبينز، الحائز جائزة الأوسكار جولة مع فرقته فى باريس، كذلك أجلت مغنية البوب الأمريكية ليدى جاجا الحفلات. ومع الاحتجاجات الحالية، تستعيد ذاكرة الفرنسيين ما حدث من خسائر فادحة جراء إضرابات سابقة. ويقول اقتصاديون إنه لا يزال من السابق لأوانه تقدير تأثير الاحتجاجات بالتعافى الهش لفرنسا، وتكرار الركود الذى حدث فى 2008 - 2009. فى هذا الشأن؛ قال كبير الاقتصاديين فى شركة Xerfi الاستشارية الفرنسية، ألكسندر لو: «أدت الإضرابات فى نهاية عام 2007 إلى خفض 0.2 نقطة مئوية من معدل النمو فى ربع واحد من العام، أو 0.5 نقطة على مدار عام كامل، وهو أمر غير عادى». وهذا يترجم إلى خسارة بنحو مليار يورو للاقتصاد الفرنسى. من جانبه؛ قال الخبير الاقتصادى بمصرف باركليز كابيتال، لورنس بون: إن الإضرابات الأكثر دراماتيكية التى استمرت ثلاثة أسابيع فى نهاية عام 1995 قلصت النمو الاقتصادى للناتج المحلى الفرنسى 0.2 نقطة مئوية فقط حسب تقديرات مكتب الإحصاء الوطنى الفرنسى. وقال الخبير الاقتصادى مارك تواتى من شركة الوساطة الفرنسية، غلوبال إيكوتيز: إنه كلما طال أمد الاحتجاجات؛ أصبح الأمر أكثر إيلامًا للاقتصاد مع تضاؤل ثقة الأعمال. وكانت السلطات الفرنسية قد وجهت إلى الضابط الذى أطلق الرصاصة تهمة القتل العمد، وهو رهن الحبس الاحتياطى. وتعود الاضطرابات فى فرنسا إلى عام 2005 عندما أعقبت أسابيع من أعمال الشغب مقتل صبيين فى محطة كهرباء فرعية بعد مطاردة الشرطة. وسلطت الضوء على ممارسات الشرطة الفرنسية، بالإضافة إلى التوترات المستمرة منذ فترة طويلة فى الضواحى الفقيرة. وفى عام 2005، أعلنت الحكومة الفرنسية حالة الطوارئ التى استمرت قرابة شهرين، وهى خطوة تجنبها ماكرون حتى الآن. ويواجه ماكرون- الذى يدير حكومة أقلية يتجاذبها نواب فى أقصى اليسار وآخرون فى اليمين القومى المتشدد- اختبارًا اقتصاديًا صعبًا خلال النصف الثانى من العام. وكان ماكرون قد نجح للتو فى الخروج من معركة سياسية طويلة لسَن إصلاح رفع بموجبه الحد الأدنى القانونى لسنّ التقاعد من 62 عامًا إلى 64. غرامات سريعة طرح الرئيس الفرنسى فكرة فرض غرامات سريعة على آباء الأطفال الذين يتم ضبطهم وهم يرتكبون أعمال تخريب أو سطو كجزء من استجابة الحكومة لأيام الشغب؛ حيث إنه من بين أربعة آلاف شخص تم اعتقالهم منذ الجمعة خلال أعمال الشغب، هناك 1200 قاصر. وشكر إيمانويل ماكرون ضباط الشرطة على عملهم، وطرح فكرة العقاب السريع للآباء الذين يفشلون فى السيطرة على أطفالهم، وبحسب تصريحات نقلتها «باريزيان» قال: «مع الجريمة الأولى؛ نحتاج إلى إيجاد طريقة لمعاقبة الأسَر ماليًا وبسهولة». وفى ذروة أعمال الشغب؛ ناشد ماكرون الآباء للسيطرة على أبنائهم، جاء ذلك فى أعقاب اعتقال مثيرى الشغب الذين لا تزيد أعمارهم على 12 عامًا أثناء انهيار القانون والنظام الذى أشعلته الشرطة بقتل مراهق فى باريس.. وأضاف: «من مسئولية الآباء إبقاؤهم فى المنزل، ليس من مهمة الدولة التصرف مكانهم». وشدد إريك دوبوند وزير العدل الفرنسى على نفس الرسالة، وأوضح كيف يتحمل الآباء بالفعل المسئولية القانونية عن أطفالهم، وقال إنه يمكن بالفعل تغريم الوالدين إذا فشلا فى مرافقة أطفالهما للمثول أمام المحكمة، كما أنهما مسئولان ماليًا عن أى تعويضات تمنح لضحية جريمة ارتكبها طفل. وبموجب التوجيه القانونى؛ تم تذكير المدعين العامين أيضًا بالمادة 227-17 من قانون العقوبات، والتى تتيح بالفعل فرض غرامات على الوالدين، كما صرح بغرامات تصل إلى 30 ألف يورو وأحكام بالسجن لمدة تصل إلى عامين للآباء الذين لا يحافظون «دون سبب مشروع» على التزاماتهم القانونية إلى حد الإضرار بالصحة والأمن والأخلاق وتعليم أطفالهم. سخط اليسار وعلى صعيد التحقيق؛ استمع قسم التفتيش العام لدى الشرطة الوطنية الذى يعنى بالمسائل الداخلية للشرطة، إلى إفادة الشخص الثالث الذى كان فى السيارة التى كان يقودها نائل. فقد حضر الرجل من تلقاء نفسه إلى مركز الشرطة بعدما كان يجرى التفتيش عنه منذ وقوع الحادثة.. ولا يزال الشرطى الذى أردى «نائل» والمتهم بالقتل العمد، قيد السجن الاحتياطى وجمع صندوق دعم خاص استحدث عبر الإنترنت لمساعدة هذا الشرطى وعائلته أكثر من مليون يورو حتى الاثنين الماضى، ما أثار سخط مسئولين من اليسار. ونأت رئيسة الوزراء إليزابيث بورن بنفسها عن هذه المسألة، معتبرة أن هذه المبادرة «لا تساهم فى التهدئة» وشككت فى قانونيتها. 1 3