تحاصر الأمن الغذائى العالمى مجموعة من التحديات لا سيما فى الدول النامية، جراء الآثار الجانبية السلبية لتسارع وتيرة التحضٌر غير المنضبط، وظاهرة البناء على الأراضى الزراعية فى مصر بما ينال من استدامة النشاط الزراعى وفعالية النظام الغذائى، إلى جانب التنامى فى معدلات الزيادة السكانية، وتسارع التغيرات المناخية، وتداعيات جائحة كورونا، بكل ما تمخضت عنه من تخبط الأنشطة الزراعية، وتعثر سلاسل التوريد، وارتفاع تكاليف الشحن، وارتباك إمدادات الطاقة. فنتيجة لتلك الاضطرابات مجتمعة، ارتفعت أسعار المواد الغذائية عام 2021 بنحو %30، مقارنة بالعام الذى سبقه، محققة أعلى مستوى لها خلال سنوات عشر. هذه الأزمة تضع نفسها ضمن أولويات قمة المناخ القادمة فى مصر لحماية حقوق الإنسان فى دول الجنوب لأنها الأكثر تأثرا، وطبقا لتقديرات الأممالمتحدة، اتسعت رقعة انعدام الأمن الغذائى المعتدل أو الشديد، على الصعيد العالمى، خلال السنوات الست المنقضية، حتى سقط قرابة 820 مليون إنسان فى براثن الجوع سنة 2020، فيما بات يلاحق شخصا من بين كل ثلاثة. وبعدما تفاقم بواقع %18 خلال العام الماضى، مسجلا أعلى معدل منذ قرابة عقدين، ينذر تفشى الجوع عالميا بتقويض استراتيجية الأممالمتحدة الرامية لاستئصاله بحلول العام 2030. وتزايدت المخاطر على الحق فى الغذاء عقب اشتعال الأزمة الأوكرانية، حيث يتوقع خبراء استفحال أزمة الأسمدة العالمية، التى أشعلتها أزمة الطاقة، وقيود الصادرات، والعقوبات التجارية، التى ضاعفت جميعها أعباءَ جمة تثقل كواهل المزارعين الروس والأوكرانيين منذ سنوات. وتصارع منطقة الشرق الأوسط، منذ زمن، سيلا من التحديات الهيكلية لأمنها الغذائى، بجريرة ارتفاع معدّلات النمو السكانى، وتفشى الفساد، وتآكل قاعدة الموارد الطبيعية، لا سيما المياه العذبة والأراضى الصالحة للزراعة، فضلا عن ارتدادات التغيرات المناخية، وتعاظم الاعتماد على الخارج فى تدبير الاحتياجات الغذائية. وقد سجل الشرق الأوسط معدّلات مخيفة من سوء التغذية، جراء النقص فى المغذيات، وتجدد النزاعات والأزمات المزمنة، ويترقب عدد من دول الإقليم، خصوصا مصر وتركيا اللتين تتصدران مستوردى القمح عالميا، ببالغ قلق، مآلات الأزمة الأوكرانية كى تملأ الفجوة المخيفة بين الاستهلاك والإنتاج المحلى. من شأن انفجار الموقف فى شرق أوروبا، بما قد يستتبعه من عقوبات قاسية ومتنوعة على روسيا، أن يؤدى إلى ارتفاع أسعار الطاقة والسلع الغذائية عالميا، حيث تأتى كل من أوكرانياوروسيا فى طليعة الدول المصدرة للقمح، والذرة، وزيت عباد الشمس، إذ تنتجان سويا 206.9 مليون ميجا طن من الحبوب، تشكل ثلث شحنات القمح والشعير العالمية. فبعدما قفزت أسعار القمح فى العام الفائت بنحو 45 % على أقل تقدير، على وقع جائحة كورونا، واصلت الارتفاع مجددا خلال الشهرين الماضيين، مدركة أعلى مستوى لها منذ يوليو2014، بسبب تصاعد التوترات بين روسيا والغرب حول أوكرانيا. وخلال يناير الماضى، سجل مؤشر منظمة الأغذية والزراعة بالأممالمتحدة «فاو»، أعلى معدل للزيادة الشهرية، بواقع 6.8 %. وهو ما أرجعته المنظمة إلى تصاعد الطلب العالمى. وحذّر برنامج الأغذية العالمى من تداعيات الحرب فى أوكرانيا، وأكد أن انقطاع تدفق الحبوب من منطقة البحر الأسود إلى زيادة الأسعار وتضخمها، فى وقت تشكل فيه القدرة على تحمل التكاليف مصدر قلق فى جميع أنحاء العالم، بعد الضرر الاقتصادى الناتج عن جائحة كورونا. لقد علقت الحرب موقتًا ربع تجارة القمح العالمية، ونحو 20 فى المائة من تجارة الذرة، ما جعل أسعار المحاصيل العالمية ترتفع إلى مستويات قياسية فيما تعتمد الدول العربية بشكل كبير على القمح المُنتَج فى منطقة البحر الأسود، بسبب انخفاض أسعاره وسهولة نقله. وعلى سبيل المثال، يمثّل القمح الروسى 60 فى المائة من واردات القمح فى تونس و80 فى المائة فى مصر، بينما يأتى أغلب القمح المستورد إلى لبنان والمغرب من أوكرانيا. وفى المتوسط توفّر روسياوأوكرانيا 60 فى المائة من القمح المورّد إلى البلدان العربية، ما يجعل الصراع بين روسياوأوكرانيا تهديدًا لأمنها الغذائى، لا سيما تحت وطأة الجفاف فى بلدان مثل العراق والجزائر والمغرب وتونس. بحسب الأمم المتّحدة، بلغت أسعار المواد الغذائية العالمية أعلى مستوياتها على الإطلاق فى شهر مارس 2022 نتيجة الغزو الروسى لأوكرانيا، ومن المتوقع أن تستمرّ فى الارتفاع عالميًا. كما تسبب النزاع الدائر حاليًا خللًا فى سلاسل توريد الحبوب والبذور الزيتية، ويزيد من أسعار المواد الغذائية، ومن المتوقع أن يزيد من تكاليف الإنتاج المحلّى فى القطاع الزراعى إلى حدّ بعيد. فتفوق حصة روسياوأوكرانيا من تجارة القمح العالمية %30، و%32 من الشعير، و%17 من الذرة، وأكثر من نصف زيت دوار الشمس والبذور وعلف الحيوانات. لقد عانى ملايين الناس فى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من الآثار الشديدة للجوع وسوء التغذية قبل تفشى جائحة كوفيد19- بفترة طويلة وإخلالها بسلاسل التوريد وتسبّبها بانكماش الإنفاق العام. وتؤدّى الحرب فى أوكرانيا حاليًا إلى مفاقمة مشكلة انعدام الأمن الغذائى. وبحسب البنك الدولى، بلغت حصة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من إجمالى من يعانون من انعدام الأمن الغذائى الحاد فى العالم %20 فى العام 2020، وهى نسبة مرتفعة للغاية عند اعتبار أن المنطقة لا تضم سوى %6 من سكان العالم. ويعانى ملايين الناس من الفقر المدقع فى منطقة جنوب المتوسط والتى تشهد أيضًا أعلى معدلات انعدام المساواة فى العالم، وبالتالى من المرجح أن يؤدى أى ارتفاع فى أسعار المواد الغذائية إلى آثار كارثية. كما يُظهِر أحدث تقرير للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هى واحدة من أكثر الأماكن تأثرًا بالمناخ حول العالم حيث تعانى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أساسًا من ضغوط بيئية مثل نُدرة المياه، وتراجع خصوبة التربة والتنوّع البيولوجى والحياة البحريّة. وترزح مجتمعات المنطقة تحت وطأة تدهور الأمن الغذائى والمائى نتيجة التغيّرات المناخية، وبحسب تقديرات الأمم المتّحدة، قد يبلغ عدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى مساعدات غذائية فى اليمن 19 مليونًا فى النصف الثانى من العام 2022. لقد كشفت الحرب فى أوكرانيا – تمامًا كما فعلت جائحة كوفيد19- قبلها – هشاشة منظومة الغذاء الحالية واعتمادها الشديد على المدخلات الكيميائية المُنتَجة بواسطة الوقود الأحفورى وعلى تجارة السع العالمية، ما يسلّط الضوء على ضرورة اعتماد منظومة غذائية محلّية ومتنوّعة وأكثر قدرة على التأقلّم. ومن منظور اقتصادى بحت، لا تستبعد دراسات منظمة الأغذية والزراعة أن يؤدى ارتفاع معدلات سوء التغذية، إلى تراجع فى الناتج المحلى الإجمالى العالمى بمعدل 5 %. كذلك، قد يفضى غياب الأمن الغذائى المستقر وطويل الأمد، إلى النيل من رأس المال البشرى، وزيادة الأعباء المالية على الحكومات، إلى الحد الذى يرهق الإنفاق الحكومى العام، ويتسبب فى ركود النمو الاقتصادى على المدى الطويل. لقد فرضت الحرب فى أوكرانيا ضرورة إعادة النظر فى أساليبنا الزراعية وفى الأغذية التى نتناولها. فقد فضحت الحرب الروسية-الأوكرانية مكامن الخلل فى منظومة الغذاء والزراعة الصناعية والقائمة على التسليع، وهى منظومة غذاء عالميّة غير سليمة وترزح تحت وطأة أنماط الغذاء غير المستدامة للطبقة الفاحشة الثراء وتحت آثار تغيّر المناخ وفقدان التنوّع البيولوجى، وتراجع خصوبة التربة نتيجة الاستخدام المفرط للكيماويات الزراعية. ودعت مؤسسات حقوقية ومنظمات دولية المجتمعات والحكومات فى دول الجنوب إلى إيقاف دورة التبعية الناجمة عن الاستعمار الجديد عبر اعتماد مسارات بديلة للتنمية، تعطى الأولوية للناس بدلًا من أرباح الشركات، وتضمن الملكية المجتمعيّة والتوزيع العادل لأصول كالبذور والأراضى والأدوات. ولا بدّ لأى نهج مستدام أن يشمل مساعى التكيّف مع التغيرات المناخية وأن يكون قائمًا على حقوق الإنسان. ودعت معظم دول العالم أن تبادر إلى المشاركة فى المفاوضات المتعلقة بآثار التغير المناخى، ويشمل ذلك إعداد خطط التخفيف والتكيف، وعلى الأخص ضمان وفاء الدول الثرية الملوثة بالتزاماتها عبر التعويض عن الآثار والأضرار المدمّرة الناجمة عن الأزمة المناخية. إن الحق فى الغذاء يتعرض لأزمة شديدة فى الشرق الأوسط بسبب الأزمة الأوكرانية والتغييرات المناخية ويحتاج إلى تحرك من الدول والحكومات بالتعاون من أجل وضع خطط سريعة وتعاون دولى يمكن دول المنطقة من بناء اقتصادات أكثر شمولا واستدامة، واتخاذ تدابير تتيح تحسين قواعد التجارة الدولية فى مجالى الأغذية والزراعة، وتعزيز الكفاءة الإنتاجية، وتطوير نظم غذائية وزراعية أكثر عدلًا، وقادرة على تحقيق أهداف التنمية المستدامة. 1_copy 2