يرى البعضُ أن تعاليم الإسلام تنظر للأنثى نظرة دونية مقارنة بالذكر، وهى رؤية تأسَّست على فهم غير صحيح لآيات قرآنية، مثل قوله تعالى: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) الزخرف 19، (أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) الطور 39، (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى) النجم 21. كانت ولادة حفصة بنت عمر بن الخطاب، قبل بعثة النبى- عليه الصلاة والسلام- بخمسة أعوام، وفى العام نفسه الذى وُلدت فيه فاطمة الزهراء ابنة النبى، وهاجرت «حفصة» منفردة من مكة للمدينة، وتزوجت من الصحابى خنيس بن حذافة السهمى الذى كان من أصحاب الهجرتين، وقد شهد بدرًا ثم أحدًا، وتمّت إصابته بجراح وتوفّى بَعدها. حزن الأبُ عمر بن الخطاب لحال ابنته الأرملة الشابة، فأخذ يفكر بعد انقضاء عدّتها فى زوج لابنته، فعرضها على أبى بكر الصديق، فلم يجبه بشىء، ثم عرضها على عثمان بن عفان، فأجابه بأنه لا يفكر فى الزواج، وشكا عمر حاله إلى النبى، فأجابه النبى بأن حفصة يتزوجها مَن هو خير من عثمان، ويتزوج عثمان مَن هى خير من حفصة. ثم قام النبى بخطبة حفصة، وقام بتزويج ابنته أم كلثوم من عثمان بن عفان، بعد وفاة أختها رقية التى كانت زوجة لعثمان، وكان زواج النبى بحفصة سنة 3ه، على مَهر قدره 400 درهم، وعمرها 20 عامًا. وتدخل حفصة بيت النبى، وهى ثالثة الزوجات الموجودات فى بيته عليه الصلاة والسلام، فقد جاءت بعد السيدتين سودة بنت زمعة، وعائشة بنت أبى بكر. صفات ومواقف حفصة علمتها الشفاء بنت عبدالله القراءة والكتابة، وقد وعت كتاب الله تلاوةً وتدبرًا وفهمًا، وهى حافظة القرآن، التى قال عنها جبريل للنبى- عليه الصلاة والسلام- إنها صَوَّامة قَوَّامة وإنها زوجته فى الجَنَّة، مما أثار انتباه والدها عمر بن الخطاب إلى اهتمامها بكتاب الله، وجعله ذلك يوصى لها بالمصحف الإمام الذى كان فى عُهدة أبى بكر الصديق بعد وفاة النبى. كان للسيدتين حفصة وعائشة موقف تناوله القرآن، وفى الروايات أنهما اتفقتا على أن تقول الواحدة منهما عند دخول النبى- عليه الصلاة والسلام- بعد مجيئه من عند زوجته زينب: «إنى أجد منك ريح المغافير»، وهو نبات له رائحة مميزة، ودخل النبى على حفصة، فقالت له ذلك، فقال: «لا، ولكنى كنت أشرب عسلًا عند زينب، فلن أعود له، ولا تخبرى بذلك أحدًا»، ولكن حفصة أخبرت عائشة. وفى الروايات أن تلك الحادثة من أسباب نزولِ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، التحريم 1، ثم قوله تعالى: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ)، التحريم 3. ويُوَجِّه الله تعالى إلى حفصة وعائشة تهديدًا شديدًا: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)، التحريم 4. ووصل هذا التهديد إلى الطلاقِ: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا)، التحريم 5، وكان هذا الحدث درسًا لنساء النبى ولكل النساء، أن يحافظن على أسرار البيت والزوج، وأن يبتعدن عن التواطؤ على غيرهن والكيد لهن. النبى والرسول التداخل بين مصطلحى النبى والرسول، من حيث اجتماعهما فى شخص واحد، وبه يتميز رُسُل الله وأنبياؤه عن بقية البشر، فكل منا له شخصية واحدة، ولكن النبى هو المُختار والمُصطفَى لتبليغ رسالة الله تعالى، والنبى هو الناطق بهذه الرسالة، وحين ينطق بها فهو الرسول الواجب اتباعه. والنبى هو شخص محمد بن عبدالله فى حياته وشئونه الخاصة وعلاقاته الإنسانية بمَن حوله وتصرفاته البشرية، ومن تلك التصرفات جاء عتاب الله تعالى له، لذلك كان العتاب يأتى له بوصفه النبى، كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ)، التحريم 1. ويقول تعالى فى موضوع أسْرَى بدر: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، الأنفال 67، ويقول تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، آل عمران 161. وحين استغفر النبى لبعض أقاربه: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)، التوبة 113، وعن غزوة ذات العُسْرَة قال تعالى: (لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)، التوبة 117. وقال تعالى يأمره بالتقوَى واتباع الوحى والتوكل على الله وينهاه عن طاعة المشركين: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا. وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)، الأحزاب 1-3، كل ذلك جاء بوصفه النبى. وفى حديث القرآن عن علاقة النبى محمد بأزواجه أمّهات المؤمنين يأتى أيضًا بوصفه النبى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا)، الأحزاب 28، وكان القرآن يخاطب أمّهات المؤمنين، فلا يقول يا نساء الرسول وإنما يقول: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا. وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا. يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا)، الأحزاب 30 32-. والحديث عن علاقته بالناس يأتى بوصفه النبى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ)، الأحزاب 59، (النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)، الأحزاب 6، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ)، الأحزاب 53، (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا)، الأحزاب 13. وكلمة «النبى» تعنى الرجل الذى اختاره تعالى من بين البشر لينبئه بالوحى ليكون رسولًا، فالنبى هو شخص محمد فى سلوكياته وعلاقاته الخاصة والعامة، لذا كان مأمورًا بصفته النبى باتباع الوحى، أمَّا حين ينطق النبى بالقرآن فهو الرسول الذى تكون طاعته طاعة لله: (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، النساء 80، والنبى محمد بصفته البشرية أول مَن يطيع الوحى وأول مَن يطبقه. وفى الوقت الذى كان فيه النبى مأمورًا باتباع الوحى جاءت الأوامر بطاعة الرسول، أى طاعة النبى حين ينطق بالرسالة، أى القرآن: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)، النور 54، ولم يأتِ فى القرآن «أطيعوا الله وأطيعوا النبى»؛ لأن الطاعة للرسالة، أى للرسول، أى لكلام الله تعالى الذى نزل على النبى، والذى يكون فيه شخص النبى أول مَن يطيع، كما لم يأتِ فى القرآن عتابٌ له عليه الصلاة والسلام بوصفه الرسول. السيدة حفصة والقرآن أمُّ المؤمنين حفصة لها دورٌ خالدٌ بعدما حفظت نسخة القرآن فى بيتها سنوات حتى آخر حياتها، لتدفن بالبقيع وعمرها 63 سنة. حفصة كان والدها عمر بن الخطاب يعتز برأيها السديد مثلما أن خرج يومًا فسمع بكاءَ امرأة غاب عنها زوجها، فدخل على ابنته قائلًا: «إنى أسألك عن أمر قد أهمَّنى فافرجيه عنّى، فى كم تشتاق المرأة إلى زوجها؟، فخفضت رأسَها واستحيت، قال: فإن الله لا يستحى من الحق، فأشارت بيدها ثلاثة أشهُر وإلا فأربعة، فكتب عمر لا تُحبَس الجيوش فوق أربعة أشهُر». وفى خلافة عثمان بن عفان استأذن حفصة فى نسخة القرآن الذى عهد به إليها أبوبكر، وكان عثمان يبغى مراجعة مصحفه بمصحف حفصة، ومصحف عثمان قد نسخ منه سبع نسخ وزعت على الأمصار، ذهب منها مصحف للمدينة، وآخر للشام، وثالث للكوفة، ورابع للبصرة، وخامس إلى مكة، وسادس لليمن، أمّا المصحف السابع فاحتفظ به عثمان لنفسه ليقرأ فيه، وقُتل والمصحف بين يديه. وقام بحرق المصاحف التى تختلف عن نسخة النبى، ورد إلى أمّ المؤمنين حفصة نسختها، والتى تسمى بالمصحف الإمام، ولمّا توفيت أمر والى المدينة مروان بن الحَكم بحرق مصحفها تنفيذًا لوصية عثمان الذى أراد ألا يحرمها منه فى حياتها، لكنه خشى بعد وفاتها وقوعه فى يد أحد يمحو منه أو يضيف إليه. وبعد وفاتها أرادوا توسعة المسجد النبوى بضم بيوت نساء النبى- عليه الصلاة والسلام-، لم يأخذ عبدالله بن عمر الشقيق الوارث لبيت حفصة ثمَنًا، وجعله هبة ليدخل فى المسجد النبوى لتصبح كل صلاة فيه قد تكون فى موضع سجدت فيه حفصة من قبل.